أثارت واقعة القبض على وزير الزراعة ونائب برلمانى سابق -كان أحد فرسان كشف الفساد فى قضايا عديدة، ثم استقالة الحكومة مؤخرا والبدء فى تشكيل حكومة جديدة عقب ذلك اهتماما كبيرا لدى الرأى العام فى الآونة الأخيرة. ومنذ ثورة 25 يناير والنقاش لا ينقطع حول حالات ووقائع الفساد التى انخرط فيها كبار المسئولين ورجال السياسة وأعضاء فى مجلسى الشعب والشورى وأقطاب من الحزب الوطنى وقيادات أعمال بارزة. ويدور التساؤل حول مواصفات القيادات العليا والعوامل التى تدفع بعضهم لاقتراف أعمال فساد، وتجعل سلطات الدولة مرتعا لهذه الممارسات، وتجعلهم يقدمون على هذه الأفعال رغم علمهم بخطورتها خاصة بعد 30 يونيو، وبعد تأكيد رئيس الدولة باستمرار أهمية وأولوية التصدى للفساد ونبذه ومحاربته. وما من شك أن الآليات المؤسسية للوقاية والمنع وتحجيم وكشف الفساد ومكافحته وردعه تعتبر مسئولة بدرجة كبيرة عما وقع من نمو واستفحال وتغلغل للفساد فى النظام السياسى وفى مؤسسات الدولة جميعها وفى كل مستوياتها خلال العقود الأربعة الأخيرة. وسيتوقف النجاح وتحقيق الإنجاز فى مسيرة الحرب ضد الفساد، على عوامل عديدة لعل أهمها البدء بالتصدى لفساد الكبار فى مؤسسات الدولة ليس فقط لخطورة ما يملكونه من سلطات. لكن لأنهم يشكلون نماذج القدوة والتأثير وأيضا مصدرا لمبادرات النزاهة والضبط والحزم وعدم التسامح مع الفساد بالنسبة للمستويات الأدني. فلو فسدوا سيشكل هذا سياج وملاذ حماية وقدوة وضوء أخضر للتسيب فى الجهات التى يقومون عليها وللانخراط فى الفساد بالنسبة للمستويات الأدنى فيها. البدء بإصلاح النظم المؤسسية الحاكمة لعمل المؤسسات خاصة تلك التى تحكم اختيار وعمل ومتابعة ومساءلة الذين يتولون المواقع العليا والمؤثرة فى أجهزة الدولة جميعها تمثل نقطة بدء أساسية فى مبادرات التصدى للفساد والسيطرة عليه. وتمثل نظم الإدارة والعمل والمساءلة والرقابة ودور الأطراف المعنية (مثل المواطنين والمتعاملين مع الجهات التنفيذية) دوائر مهمة ينبغى أن تولى كل الاهتمام لأنها يمكن أن تشكل صمام الأمان والوقاية والمنع للفساد إذا كانت تؤكد الكفاءة وتكافؤ الفرص والشفافية والنتائج والمردود المتحقق، وإذا كانت توفر ضمانات النزاهة (مثل الأجر الكافى وحسن اختيار القيادات والقائمين بالعمل)، وتتضمن عقوبات قوية ورادعة وسرعة التقاضى وإنفاذ الأحكام لمرتكبى الفساد، وتشتمل على نظام قوى للمساءلة عن الممارسات والأداء، ونظم إدارية تقوم على الكفاءة والنتائج وليس على اللوائح والإجراءات المعقدة. نظم إدارة عمل ومساءلة المؤسسات وكذلك القيادات القائمة عليها يقع عليها الدور الأكبر فى ضبط الفساد والسيطرة عليه وتحجيمه. واستمرار ترهل هذه النظم سيعنى استمرار الفساد، مهما نشطت جهود أجهزة الرقابة. يتطلب الأمر إذن البدء الفورى بخطوات إصلاحية لإسناد أهداف تتعلق بنتائج محددة للمؤسسات لرفع أدائها وتحسين اقتصاديات عملها وسد ثغرات الفساد فيها، وبحيث تمثل هذه الاسنادات التكليفات الموكلة للقيادات العليا سواء كانوا وزراء أو محافظين أو رؤساء هيئات مستقلة. ومن الضرورى أن يكون للقيادات القائمة على هذه المؤسسات دور معتبر فى رفع كفاءة الأداء والإنجاز وسد منابع الفساد والوقاية منه ومكافحته.هناك حاجة ملحة لإعادة النظر كلية فى نظم القيادات العليا، لأن هذه القيادات ينتظر أن تلعب دورا مهما فى المرحلة القادمة فى مبادرات الإصلاح الإدارى والنهوض بالأداء والإنجاز فى مؤسساتها وفى التصدى للفساد بتجفيف منابعه ومنعه ومكافحته وردعه فى هذه المؤسسات. وقد أشار رئيس الدولة إلى حاجة مصر إلى منظومة جديدة للقيادات منذ أكثر من عام. ويبقى ترجمة هذا إلى مبادرات تبدأ بنظام جديد لاختيار وتأهيل القيادات والإسنادات الموكلة لها فى كل وزارة أو مؤسسة، والأهداف والنتائج المطلوب إنجازها مما يمثل أولوية فى المرحلة الراهنة، وكذلك أوضاع الفساد التى ينبغى التصدى لها. ومن المنطقى أن تتشكل معايير اختيار هذه القيادات من حيث قدرتها على النجاح فى هذه الإسنادات، وذلك بفحص كفاءاتها وتاريخها الوظيفى وخبراتها ومهاراتها القيادية وإنجازاتها السابقة وقدراتها على إدارة التغيير وكذلك مواصفات الشخصية للتثبت من إمكانية قيامها بالمهام والأهداف الموكلة إليها. وفى جانب آخر، فطالما كانت هناك أهداف وتكليفات مخططة ومحددة للقيادات المختارة، يتعين وجود نظام لمتابعة وتقييم التقدم المحرز فيها دوريا من خلال جهات محايدة وليس من خلال الجهات التنفيذية نفسها. وهناك حاجة لإنشاء هيئة مستقلة مزودة بخبراء رفيعى المستوى لمتابعة وتقييم الأداء والإنجاز فى مختلف الجهات التنفيذية (هيئة تقييم الأداء المؤسسي)، تستفيد من الخبرات العالمية فى هذا الخصوص، كبديل للنظام الحالى الذى يعتمد بدرجة أساسية على تقارير الجهات التنفيذية عن أعمالها وإنجازاتها. وإذا أضفنا إلى ذلك أن أجهزة الرقابة الخارجية (الجهاز المركزى للمحاسبات وهيئة الرقابة الإدارية وغيرها) فى حاجة أيضا لتطوير نظم وآليات عملها بحيث تستخدم معايير ومؤشرات نظامية لنزاهة وجودة الأداء والممارسات ودرجة خلوها من الفساد. كان هذا عن القيادات التنفيذية، ويبقى السؤال عن كيفية تطوير منظومة الفرز والاختيار والعمل والأداء والمساءلة والرقابة التى يخضع لها أعضاء أجهزة الرقابة وأعضاء الهيئة القضائية وأعضاء مجلس النواب. فخطورة المهام التى تقوم بها هذه الأجهزة تتطلب أعلى درجات الكفاءة والنزاهة فى ممارساتها، لأنها تلعب أدوارا رقابية تجاه السلطة التنفيذية، ولا يصح بالتالى أن تشوب أنظمتها أو ممارساتها أى شوائب تجعلها عرضة لتجاوزات أو فساد من أى نوع. هذه دائرة حساسة وصعبة، لكن جهود الإصلاح والتصدى للفساد وتعزيز النزاهة لا ينبغى أن تستثنيها لحساسية وضعها. نحن نبنى مصر الجديدة ويجب أن يكون البناء سليما فى كل أركانه وأعمدته. لمزيد من مقالات د.أحمد صقر عاشور