الطبيعى أن يكون الصحفي هو مصدر الخبر الصادق، والرائع أن يعرف القارئ حقيقة الخبر من صحيفته قبل الآخرين، لكن الأروع أن يشارك الصحفى فى صناعة الحدث، بتوريط الأطراف بالنشر فيختصر من عمر الحدث ساعات وربما سنوات، فالنشر قبل نضوج الحدث سلاح ذو حدين، إما أن يقود الصحفى الى السجن، وإما أن يقوده الى منصب مدير التحرير، وهذا بالضبط ماحدث مع الأستاذ سامى متولى الذى حكاه فى سيرته الذاتية مع الصحافة فى كتابه "خمسون عاما حبا فى الأهرام والبرلمان".. و هو ليس كتابا للتربح ولا للتجارة ولا للبطولة والتنصل من عصر ورجال لكنه كما قال لى سيرة ذاتية وقصة كفاح بما فيها من آلام ونجاحات أراد أن تصل على حقيقتها لأحفاده.رغم أنه أهداه لأمه وخالته وزوجته الفاضلة سوسن الحناوى.. والحوار الذى دار قبل 44 سنة بين المحرر الشاب سامى متولى وسكرتير التحرير المرحوم كمال نجيب مدير الدسك المركزى بالأهرام لخص أزمة العرب والصحافة التى نعيشها اليوم، فقد اتصل سامى متولى من طرابلس ليبيا فى ابريل 1971 لإملاء خبر توقيع اتفاق اتحاد الجمهوريات العربية بين مصر وسوريا وليبيا، فسأله كمال نجيب هل اتفقوا أم وقعوا؟ فارتبك المحرر الشاب، وقال إننى رأيت الرؤساء الثلاثة وهم يرفعون أيديهم متشابكين، فقال له كمال نجيب تأكد يا أستاذ!.. فترك «الأستاذ» السماعة مفتوحة وجرى على السلم فقابل أحد المصورين وسأله هل تم التوقيع؟ فقال المصور نعم وقد صورتهم يوقعون ويضحكون، فعاد وأقسم للأستاذ كمال أنهم وقعوا، فطلب منه كمال نجيب أن يأتى بتصريح على لسان أحد المسئولين، فقال له انتظر على التليفون وسأقوم بمحاولة، وخرج مهرولا، وبدون أى وعى ودفع باب قاعة اجتماع الرؤساء، فانخدع الحرس وظنوا أنه شخص مسئول، واتجه الى المنصة وانحنى على أذن الرئيس السادات وهمس: سيادة الرئيس الأهرام على التليفون، وتحت أمر سيادتك نقول إيه للناس؟، فقطع الرئيس السادات الهمس وقال بصوت عال متقولش حاجة، بكرة الساعة السابعة سيذاع بيان فى الدول الثلاث، فخرج من كلام الرئيس بمعلومة جديدة وسأله هل سيذاع البيان بأصوات الرؤساء، فرد الرئيس القذافى: غدا الساعة السابعة اسمع الاذاعة أو لو عندك تليفزيون ستعرف إِيش حصل، وعاد يسأل رغم ضحكات الجميع على تهكم القذافى: وما هو إسم الاتحاد الجديد ؟ فقال الرائد الخروبى اسمه اتحاد الجمهوريات العربية ..عساه لا يكون حبرا على ورق! وحينئذ أدرك سامى متولى أن هناك خلافات وشكوكا وتذكر أن الرحلة التى بدأت بين الرؤساء الأربعة فى القاهرة للوصول الى اتفاق امتدت لثلاثة ايام أخرى فى طرابلس بعد انسحاب الرئيس السودانى جعفر نميرى وأن التوقيع سيتم قبل نضج الاتفاق، عكس كل أمم الدنيا التى تبنى توقيعاتها وخططها على أساس سليم بعد البحث والعلم والتخطيط ، لكن العرب يوقعون أولا على الاتفاقات ثم يناقشون ويدرسون ويتفقون ويختلفون بعد ذلك، ليس هذا فى مجال السياسة فقط، والتى كان من أحد ضحاياها هذا الاتفاق الذى اختنق بعد كامب ديفيد وانفرد نفس المحرر بكتابة شهادة وفاته نهائيا فى بدايات عهدالرئيس مبارك، وفى مجال الصحافة أيضا، نوقع قبل أن نعرف ونتفق، وقد كلف سامى متولى وهو متخصص فى تغطية البرلمان بالذهاب لفندق شيراتون لتغطية أخبار الرئاسة وقمة «الاتحاد» الرباعية دون أن يعرف موضوع المباحثات ثم انتقلت القمة الى طرابلس لإعلان بيانها من هناك فسافر دون أى إعداد وبدلا من العودة بعد ساعات استمرت عدة أيام، دون أن يعرف سر الاجتماعات الى أن بدأ يلتقى بالوفد المصرى وحتى اقتحم غرفة الاجتماعات وفوجئ باعلان الرئيس السادات بصوت عال بأن غد موعد اذاعة البيان رغم تشكك الجانب الليبى واعتراض السيد على صبرى عضو الوفد المصرى واحد مراكز القوى المعارض للسادات على الاتفاق، دار كل ذلك فى رأس سامى متولى وهو يعود مهرولا الى سماعة التليفون المفتوحة فى بدروم المبنى وحكى للأستاذ كمال نجيب على الطرف الآخر مادار بعد اقتحامه قاعة الاجتماعات، وانفردت الأهرام ونقلت عنها الصحف العالمية فى اليوم التالى خبر توقيع الاتفاق قبل ان يوقع، وفى نهاية رحلة العودة والرعب من رد فعل الرئيس السادات على النشر، فوجئ أنه بدلا من القبض عليه والذهاب الى السجن، حصل على حفاوة ومكافأة من الأستاذ هيكل قدرها 500 جنيه على أول انفراد لا يعلمه الأستاذ هيكل من قبل، وأول خطوات سامى متولى للترقى واحتلال منصب مدير التحرير لعدة سنوات، وهو المنصب الذى استحقه عن جدارة حين كان يعنى الكفاءة والمهنية والالتزام وقوة السلطة! كما استحق أن يكرمه الملك حسين عقب إجراء حديث معه بالأردن ويقود له الطائرة الملكية بنفسه التى تقله الى القاهرة ليجد الرئيس مبارك فى انتظاره بمطار القاهرة ويفوز منه بقبلة على هامش حفاوته باستقبال الملك حسين والوفد المرافق له ! وقيمة كتاب سامى متولى ليس فى تسجيله خلفيات الأحداث من صحيفته العملاقة ، لكنه شهادة حق أراد صاحبها أن يسجل من خلال وضوحها وصراحتها لأول مرة الخلفيات والطرق والكواليس التى تتخطاها الأحداث قبل أن تأخذ طريقها للنشر، أولى هذه العقبات موقفه الشخصى الذى يتوارى دائما خلف المعايير المهنية وإعلاء موقف الصحيفة وسياستها التحريرية، فلأول مرة يعترف الأستاذ سامى متولى«أستطيع أن أقول أن ماتابعته من برلمانات حافظ بدوى والدكتور صوفى أبو طالب والدكتور رفعت المحجوب كانت أقوى من البرلمانات التى تلت ذلك فى الرقابة والتشريع لضعف المعارضة وسيطرة الأغلبية الحكومية» وقد أكد الأستاذ سامى متولى أن اغتيال الدكتور رفعت المحجوب الغامض كان نقطة فارقة فى تاريخ مصر ورغم أنه لم يتهم أحدا باغتياله فقد كان برلمانه آخر القلاع التشريعية المدافعة عن العدالة الاحتماعية وحقوق الفقراء ومجانية التعليم والعلاج، لتميل الدفة التشريعية بعد ذلك على جثته لمصلحة الخصخصة والاحتكارات والرأسمالية التى كانت مستغلة أحيانا ومتجاوزة لمصلحة «القطط السمان» فى أحيان أخرى ! لمزيد من مقالات أنور عبد اللطيف