اليوم.. مجلس الشيوخ يستأنف عقد جلسته العامة    تراجع جديد في بورصة الذهب| إنفوجراف    استقرار أسعار الفاكهة بسوق العبور اليوم 29 أبريل 2024    رسميًا.. تراجع سعر الدولار الأمريكي في بداية تعاملات اليوم 29 أبريل 2024    خبير تكنولوجيا: مصر تمتلك بنية معلوماتية عملاقة بافتتاحها مركز الحوسبة السحابية    عدد حسابات العملاء ببنك فيصل الإسلامي ترتفع إلى 2.007 مليون حساب بنهاية مارس 2024    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الإثنين 29 أبريل 2024    اليوم.. قطع مياة الشرب عن مدينة القناطر الخيرية لمدة 6 ساعات    السكة الحديد تعلن تأخيرات القطارات المتوقعة اليوم الإثنين    استشهاد 19 فلسطينيا جراء قصف الاحتلال لمنازل في رفح    "لوفيجارو": نتنياهو يخشى إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحقه    مصرع خمسة أشخاص جراء أعاصير ضربت وسط الولايات المتحدة    صبحي ينهئ الزمالك بالوصول لنهائي الكونفدرالية    الشناوي ينتظم في مران الأهلي الجماعية استعداداً للإسماعيلى    مواعيد مباريات اليوم الإثنين 29- 4 -2024 والقنوات الناقلة لها    سيد معوض عن احتفالات «شلبي وعبد المنعم»: وصلنا لمرحلة أخلاقية صعبة    الأرصاد: استقرار الأحوال الجوية.. والعظمى على القاهرة الكبرى 30 درجة    مصادرة 2 طن أعلاف مجهولة المصدر ودقيق فاخر بمخبز سياحي فى حملات تموينية بالإسكندرية (صور)    ظهر اليوم.. تشييع جثمان المخرج والمؤلف عصام الشماع من مسجد السيدة نفيسة    نيفين الكيلاني تصل الجناح المصري بمعرض أبوظبي الدولي للكتاب    البحوث الفلكية: غرة شهر ذي القعدة فلكيًا الخميس 9 مايو    بفرمان من الخطيب.. كواليس توقيع عقوبة قاسية على السولية والشحات.. فيديو    السعودية تصدر بيانًا بشأن حادث مطار الملك خالد الدولي    قطر توضح حقيقة دعمها للمظاهرات المناهضة لإسرائيل ماليا    إصابة 4 أبناء عمومة بينهم سيدتان في مشاجرة بسوهاج    رئيس كوريا الجنوبية يون سوك يول يعتزم لقاء زعيم المعارضة بعد خسارة الانتخابات    طائرات جيش الاحتلال تهاجم مباني تابعة لحزب الله في جنوب لبنان    أحمد المرسي بعد فوز باسم خندقجى بجائزة البوكر: فوز مستحق لرواية رائعة    لأول مرة تتحدث عن طلاقها.. طرح البرومو الرسمي لحلقة ياسمين عبدالعزيز في برنامج صاحبة السعادة    مباريات اليوم.. مواجهة في الدوري المصري.. وبرشلونة يلتقي مع فالنسيا    اليوم.. اجتماع «عربي – أمريكي» لبحث وقف الحرب في غزة    صحة قنا: خروج 9 مصابين بعد تلقيهم العلاج في واقعة تسرب غاز الكلور    سامي مغاوري: جيلنا اتظلم ومكنش عندنا الميديا الحالية    عمر عبد الحليم ل«بين السطور»: فيلم «السرب» أثر في وجداني ولن أنساه طيلة حياتي    أخبار مصر: حواس يكشف ألاعيب إسرائيل لسرقة تاريخ الحضارة، وفد حماس في القاهرة لحسم الهدنة، حقيقة رفض شيكابالا لعب مباراة دريمز، السديس يطلب وجبة إندومي    أدعية للحفظ من الحسد وفك الكرب والهم.. رددها لتحصين نفسك    أسماء.. الأوقاف تفتتح 19 مسجدًا الجمعة المقبل    ما المحظورات التي وضعتها "التعليم" لطلاب الثانوية خلال الامتحانات؟    «ايه تاريخك مع الزمالك».. ميدو يهاجم مصطفى شلبي    مصرع شخص وإصابة 16 آخرين في حادث تصادم بالمنيا    سامي مغاوري يكشف سبب استمراره في الفن 50 عامًا    ختام فعاليات مبادرة «دوّي» بكفر الشيخ    عمره 3 أعوام.. أمن قنا ينجح في تحرير طفل خطفه جاره لطلب فدية    شاهد صور زواج مصطفى شعبان وهدى الناظر تثير السوشيال ميديا    بعد عامين من انطلاقه.. برلماني: الحوار الوطني خلق حالة من التلاحم    "السكر والكلى".. من هم المرضى الأكثر عرضة للإصابة بالجلطات؟    من أرشيفنا | ذهبت لزيارة أمها دون إذنه.. فعاقبها بالطلاق    السفيه يواصل الهذيان :بلاش كليات تجارة وآداب وحقوق.. ومغردون : ترهات السيسي كلام مصاطب لا تصدر عن رئيس    فهم حساسية العين وخطوات الوقاية الفعّالة    العناية بصحة الرموش.. وصفات طبيعية ونصائح فعّالة لتعزيز النمو والحفاظ على جمالها    «حياة كريمة».. جامعة كفر الشيخ تكرم الفريق الطبي المشارك بالقوافل الطبية    الإفتاء توضح حكم تخصيص جزء من الزكاة لمساعدة الغارمين وخدمة المجتمع    دعاء في جوف الليل: اللهم جُد علينا بكرمك وأنعم علينا بغفرانك    مصرع شاب في انقلاب سيارة نقل بالوادي الجديد    ربان الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في مصر يحتفل بعيد الشعانين ورتبة الناهيرة    البابا ثيودروس الثاني يحتفل بأحد الشعانين في الإسكندرية    بالصور.. الوادي الجديد تستقبل 120 طالبًا وطالبة من كلية آداب جامعة حلوان    طريقة تحضير بودينج الشوكولاتة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خريف هيكل وسقوط الأقنعة (الحلقة الرابعة)
نشر في الشعب يوم 06 - 01 - 2014

يتفاخر بأنه واحد من الذين يعرفون قيمة أنفسهم وأنه عاش بالقرب من رأس السلطة لا ذيلها
دور هيكل فى تولى السادات الحكم..ورفضه مقابلة قابوس
اتهمه السادات بأنه يحبط معنويات الجيش ويثير بلبلة وسط الجماهير
جيهان أدارت الحملة عليه فى الصحف المصرية والعربية والأجنبية..والباقون عزفوا
قصة منع هيكل نشر هذه الحلقات(خريف هيكل) فى صحيفة القبس
لا يختلف اثنان على أن الأستاذ هيكل، من الذين يتمتعون بقدر كبير من الذكاء،إلى جانب قوة دفع هائلة فى داخله، تحرك طاقته الطموحة، نحو التفوق والتميز، وتعينه كثيرا على التشبث بالنجاح. وليس أدل على ذلكمن أنه ظل يستحوذ على مكانة راسخة، سواء على المستوى المصرى أو العربى أو العالمى، حتىبعد أن مات جمال عبدالناصر، وأبعد هو عن الأهرام، قلعته الحصينة.
فى فبراير 1975 كان هيكل يزور مسقط، عاصمة سلطنة عمان،ضمن جولة عربية تهدف إلى التعرف والتعريف بالفكر السياسى العربى، فى كتاب جديد يؤلفه باللغة الإنجليزية. وكنت هناك ذلك الوقت، أعمل مديرا لتحرير مجلة«النهضة» وهى إحدى كبرى المجلات فى سلطنة عمان.
قضى هيكل فى مسقط ثلاثة أيام، التقى خلالها،كلا من وزير الإعلام والثقافة فى ذلك الوقت الشيخ فهد آل سعيد، ووزير الشئون الاجتماعية خلدان بن ناصر الوهيبى، ووزير شئون الديوان السلطانى الشيخ حمد بن حمود. ولم يلتق بالسلطان قابوس.
بعد وصوله إلى المطار«السيب» بست ساعات، عقد الأستاذ هيكل مؤتمرا صحفيا، وحضره رؤساء ومديرو تحرير الصحف والمجلات العمانية.. وكنت بينهم. كنا فى انتظار وصوله قبل الموعد بأكثر من ساعة... هكذا كانت التعليمات قد صدرت لنا من الأستاذ حفيظ الغسانى،المستشار الصحفى للسلطان قابوس والذى صاحب هيكل فى كل جولاته، طوال مدة إقامته فى السلطنة كانت القاعة التى سيعقد فيها المؤتمر بوزارة الإعلام، تشتمل على عدد من الكراسى وكنبة واحدة. وحين دخل إليها، توجهبعضنا نحو الكنبة الوحيدة، التى تتسع لأربعة أشخاص، فما كان من مستشار السلطان قابوس إلا صرخ بصوت مرتفع قائلا: ما هذا؟ لاأحد يجلس هنا. اتركوها للأستاذ هيكل وحده، واجلسوا على المقاعد. ألا تعرفوا أنه «إمبراطور» ويجب ألا يجلسأحدجانبه!
وحين وصل الأستاذ هيكل إلى القاعة، كنا فى حالة انبهار شديد به، تدهشنا قوةالشخصية، التى يتمتع بها، والاهتمام الرسمى غير العادى الذى قوبل به. كان أقوى من أى زائر سياسى التقينا به هناك، مع العلم أنه صحفى، وبدون جريدة يعمل بها، وأننا جميعا وقتها نعمل فى صحف، بعضنا رؤساء تحرير والبعض الآخر مديرو تحرير.
وبعد المؤتمر، كان لى معه لقاء، كان الحديث فى معظمه من جانب واحد : جانبه هو بالطبع، إلا حين كان يسألنى عن أحوال المصريين فى عمان، وخاصة الذين يعملون فى صحافتها.
فى هذا اللقاء السريع قال لى الأستاذ هيكل، وهو يرد على أسئلتى:
إننى واحد من الذين يعرفون قيمة أنفسهم. لقد عشت بالقرب من رأس السلطة، لا ذيلها.
على أصحاب الرأى أن يتحملوا نتائج معتقداتهم.وأنا أرحب بالحساب لمواقفى وكتاباتى، لكنى لن أرد على أحد من الذين يتصورن أنهم سينالون منى.
لم أترك العمل الصحفى، ولا أنوى ذلك. إننى أمارس مهنتى من خلال تأليف الكتب، التى نشرتها كبريات الصحف العالمية، فى معظم أنحاء العالم.
لاأستبعد أن يتفاوض الفلسطينيون مع الإسرائيليين،ولكننى أرجح أن تكون إسرائيل هى الساعية للجلوس مع الفلسطينيين.
ولكننى أيضا لا أتصور أن يوافق قادة المنظمة على ذلك بسهولة. فوجودهم على مائدة مفاوضات واحدة مع الإسرائيليين، الذين احتلوا أراضيهم.. أمر صعب.
كنت وما زلت أقول،إن الحل العسكرى يساند الحل السياسى، إذا اقتضى الأمر.
ليته يكون صحيحا أن مصر حصلت على أسلحة ذرية من فرنسا. الأسلحة الذرية لا يمكن أن تهدى.
كان من المقرر أن يلتقى هيكل بالسلطان قابوس فى اليوم الثالث لزيارته لعمان.. وقبل الموعد المقرر لهذا اللقاء بساعتين،أبلغوه بأن «جلالة السلطان يرجوكم تأجيل سفركم إلى الغد، حتى يسعد بلقائكم، بعد أن يفرغ من بعض المشاغل الطارئة»،لكن هيكل رفض الانتظار واللقاء، وسافر فى موعده. وقبل سفره ذهب إليه موظف كبير من القصر السلطانى يحمل إليه خنجرين ذهبيين، لايقل وزن الواحد عن نصف كيلو جرام«هدية رمزية من جلالة السلطان المعظم».
الخلاف الأول مع السادات
لقد تمكن الأستاذ هيكل من أن يصنعلنفسه قمة عالية وفريدة فوق السحاب، مكنته لسنوات طويلة من الثبات فى وجه العواصف العاتية، التى كان يمكنها أن تقتلع أشجارا من جذورها. فبعد أن أبعد عن الأهرام، ظل الرئيس السادات يتحين الفرصة لمهاجمته. لكن يبدو أن الخلاف بين الرجلين كان قد بدأ قبل ذلك بكثير.
يرى هيكلأن خلافه مع السادات بدأ لأول مرة، حين اتصل بعد توليه السلطةليطلب منه أن يخصص مقاله الأسبوعى «بصراحة» عن الرئيس السودانى السابق جعفر النميرى، فقال له والكلام لهيكل إن النميرى يقول إن هيكل لم يكتب عن ثورة السودان، وإنه أى السادات- قد وعده بأن يكتب هيكل هذا الأسبوع عنها.
ويقول هيكل : «لقد أبديت له دهشتى وقلت له إنه ليس فى ذهنى موضوع للكتابة فيه عن السودان. وأضفت: أخشى أن تفهم أن عبدالناصر كان يحدد لى ما أكتب فيه، وهذا غير صحيح.وأناأعترض علىأن يحدد لى ماأكتب فيه. فقال إنه أراد أن يصلح علاقتى بالنميرى..وانتهى الموضوع عند هذا الحد. ولم أكتب مقالى فى ذلك الأسبوع».
فى الاحتفال بالعيد المئوى لجريدة الأهرام، يوم 15يونيو 1976 أشار السادات إلى أن الصحافة لم تقف معه فى واقعة الثغرة، حيث قال :«إن البعض أخذ يشكك، ورجع إلى روح الهزيمة القديمة نتيجة الثغرة». ولم يذكر السادات هيكل بالاسم لكن الناس جميعا يعرفون من المقصود بهذا الكلام فنحن لا نزال نذكر مقال هيكل «بصراحة» بعنوان "قصة التسلل... الثغرة" والخريطة التى نشرها عن الثغرة، فقد اتهم هيكل بعد نشر المقال والخريطة بأنه يحبط معنويات رجال القوات المسلحة ويثير بلبلة وسط جماهير الشعب.
وخلال واحد من الأحاديث الصحفية الكثيرة التى كان الرئيس السادات يحب الإدلاء بها، هاجمالأستاذ هيكل، ولكن بشكل مباشر أكثر، وبسخرية وتهكم شديدين. فقد ذكر السادات أن القذافى قال له ذات يوم إن فى صحيفة الأهرام قسما يضم قمة المفكرين، ونصحه بأن يستعين بهم فى مجال السياسة العسكرية والحكم، وقال بالحرف:جاءنى القذافى يقول لى إن فى الصحيفة إياها، التى يرأسها رئيس التحرير إياه قسما للتفكير ومعهدا للفلسفة، وإن أعضاءه العاملين فيه هم قمة الفكر، وأنه من الأفضل أن أستعين بهم فى السياسة العسكرية والحكم. وأدهشنى وأضحكنى ذلك. فهذه الصحيفة التى احتكرت الرأى طوال حكم عبد الناصر، تريد أيضا أن تحتكر التفكير والحرية من بعده، وأطلقت على هذا المجلس وهذا المعهد الذى تحدث عنه القذافى اسم"مجلس الحكماء أى الذين احتكروا الحكمة. فهم وحدهم الذين يصدرون الحكمة لمستهلك واحد فى ليبيا هو القذافى، ومن مصدر فى مصر هو رئيس تحرير هذه الصحيفة، الذى يقوم بدور حكيم العصروالأوان".
وجدير بالذكر،أن الرئيس الليبى معمر القذافى كان قد زار مبنى مؤسسة الأهرام فى نوفمبر 1970، والتقى عددا كبيرا من كبار كتاب مصر ومفكريها، الذين ضمهم هيكل للأهرام، ودار نقاش طويل بينه وبينهم فى مكتب الأستاذ توفيق الحكيم، الذى حضر اللقاء، إلى جانب الأستاذ نجيب محفوظ وغيرهما من عمالقة الأدب والفكر فى مصر، خرج الرئيس الليبى مبهورا بما سمعه من آراء.
وكانت تكفى إشارة واحدة من الرئيس السادات، لفتح النار على هيكل من مختلف الجهات، وعلى صفحات كل الجرائد الحكومية فى وقت واحد.
أليس غريبا، رغم كل الحقائق التى تؤكد أن العداء كان متبادلا بين الرجلين السادات وهيكل أن يدعى هيكل، أنه لم يكن يكره السادات، بل إنه مدين له، بما أضافه له من قيمة؟
ألا يتوافق مع تكوين شخصيته قوله : "... وحينما الرئيس السادات يهاجمنى بانتظام وعلنا وبالاسم، فى كل مرةيتحدث فيها. وحتى عندما زج بى إلى السجن، فإنىأشهد أمام الله وأمام كثيرين يعرفون الحقيقة، أننى لم أشعر فى أيه لحظة بكراهية له. ولم يكن هناك ما يدعونى إلى ذلك، حتى من الناحية العلمية. فإنه حين يجعل رئيس الدولة من أحد مواطنيه هدفا دائما لهجماته، فهو بذلك يرفع قدره ولا ينقص منه. وبالتالىالسادات بما أضافه دون أن يقصد إلى قيمتى فى الساحة الوطنية والساحة الدولية على السواء".
فضل هيكل على الساداتفى تولى السلطة
من وجهة نظره، يفسر هيكل، الحملة العنيفة التى كان الرئيس السادات يشنها عليه بين حين وآخر، بقوله:
"... وربما كان إحساسه، بأننى لعبت دورا فى توليه السلطة، لم يكن يعطيه سعادة. فالإنسان عادة لا يسعد بأن يكون مدينا لأحد".
وقد كان هيكل قد روى، فى بداية تولى الرئيس السادات سلطات رئيس الجمهورية، خلفا لعبدالناصر، فى مقال له بالأهرام قصة اللحظات الرهيبة، التى سادت الموقف كله، بعد أن تأكدت وفاة عبد الناصر. قال وهو يكاد يشير إلى فضله فى تولى أنور السادات للسلطة:
"بعد نصف ساعة، على رحيل جمال عبد الناصر، غادرنا غرفة نومه، حيث كان جسده مسجيا على سريره، فنزلنا إلى الصالون فى الدور الأول من بيته، نحاول أن نتدبر الأمر، وكيف نتصرف من بعده.
وبرغم الأحزان المروعة التى كانت تعتصر قلوبنا جميعا والحديث للأستاذ هيكل فقد كانت هناك مسئولية شعب وأمة لابد من التفكير فيها، قبل الغرق فى طوفان الدموع، وكنا فى غرفة الصالون الصغير، مجموعة متباينة المواقف والأهداف، لكن مفاجأة ومأساة الرحيل رفعت الكل، إنصافا للتاريخ، إلى مستوى يستحق التسجيل.
كان هناك أنور السادات وحسين الشافعى وعلى صبرى وشعراوى جمعة وسامى شرف ومحمد أحمد، واللواء الليثى ناصف.. وأنا وكان أنور السادات هو نائب رئيس الجمهورية. وبشكل ما كان عليه أن يطرح موضوع البحث، فقال : ماذا نفعل الآن؟ فقلت: لابد أن نختار رئيسا يتولى السلطة ولو مؤقتا على الفور، ولا بد فى اختيار هذا الرئيس أن نتبع قاعدة موضوعة سلفا. فليس الوقت ملائما لوضع قواعد جديدة، ولا هو وقت فتح الباب لصراعات بين الأفراد. وكان معنى ذلك واضحا، هو أن يتولى السادات رئاسة الجمهورية لمدة 60 يوما، وهى المدة التى قررها الدستور، حتى ترشح الهيئات السياسية والدستورية من تشاء للرئاسة، ثم يطرح اسم المرشح فى استفتاء عام.
وأحسست أن أنور السادات استراح لما قلت. وللإنصاف لايزال الحديث للأستاذ هيكل فإن أحدا لم يعارض. كان الكل على مستوى المسئولية فى تلك اللحظات الحرجة. وكنت قد أعددت بيان إعلان الرحيل. واتصلت كوزير للإرشاد، بأحد كبارالمسئولين معى فى الوزارة، وهو الدكتور عبد الملك عودة، أطلب إليه أن يوقف إذاعة البرامج العادية فى الراديو والتليفزيون، وأن تتحول جميع المحطات إلى إذاعة القرآن الكريم.
وأدركت مصر أن شيئا قد جرى، وأمسكت قلبها تنتظر مع الخوف. واقترحت أن يتولى السادات إذاعة البيان بنفسه، لكى يعرف الناس أن انتقال السلطة قد تم بسلام.
ثم يضيف الأستاذ هيكل قوله:
" ووصلنا أنا والرئيس السادات إلى مبنى التليفزيون، وتوجهنا إلى مكتبى، حتى يتم إعداد الاستوديو، الذى يذاع منه النبأ الصاعق. واكتشف الرئيس السادات أنه نسى نظارته على مائدة الاجتماعات فى قصر القبة. وسألته إذا كانت نظارتى تنفعه وجربها. وبالفعل ظهر بها وهو يقرأ البيان.واعتذرت عن مرافقته للاستوديو. وكان رأيى، أنه لابد له أن يظهر وحده على الشاشة، وانتظرت حتى فرغ منه وعاد إلى مكتبى. وغادرنا معا مبنى التليفزيون، وهو عائدا إلى قصر القبة، وأنا إلى الأهرام".
العداء بين جيهان السادات وهيكل
والذين تابعوا الحملة الصحفية، التىانطلقت ضد هيكل فى الصحف المصرية الحكومية، وبعض الصحف العربية والعالمية، خلال نشر الفصول الأولى من كتابه «خريف الغضب» يستطيعون دون عناء أن يدركوا،أن تلك الحملة ليست تلقائية أو عفوية. كما أن دوافعها الأساسية تكمن فى أسباب أخرى غير"الدفاع عن رحمة قبور الموتى". لقد كانت حملة منظمة ومدروسة.
لقد دعت السيدة جيهان السادات، بعض قيادات الحزب الوطنى الحاكم، إلى جانب عدد من القيادات الصحفية من بينهم موسى صبرى وأنيس منصور وإبراهيم سعده وصبرى أبوالمجد،دعتهم إلى اجتماع فى بيتها، يوم 13 أبريل 1984 وهو اليوم الذى صدرت فيه صحيفة " الأهالى " متضمنة الحلقة الأولى من كتاب "خريف الغضب"، حيث جرت مناقشة كيفية مواجهة الكتاب ومؤلفه، وبذل أقصى جهد لمنع نشر باقى أجزائه فى مصر والدول العربية، وإجراء اتصالات مع الصحف العالمية، التى اشترت حق النشر، للتوقف عن مواصلة نشر الحلقات التالية. كما تم الاتفاق خلال الاجتماعنفسه، على تنظيم حملة إعلامية مركزة ضد هيكل وإثارة الرأى العام المصرى والعربى عليه، من مدخل " القيم الإنسانية والدينية " التى تحرم " نهش قبور الموتى والإساءة إلى أرواحهم !!".
وبعد ثلاثة أيام أبلغ اللواء حسن أبو باشا، وزير الداخلية فى ذلك الوقت، كلا من خالد محيى الدين رئيس حزب التجمع، وحسين عبد الرازق رئيس تحرير "الأهالى" قرار الحكومة بمنع الصحف العربية والأجنبية، التى تنشر الكتاب من دخول مصر، وبالتالى منع الصحف المصرية من نشره.. ثم بدأت الأقلام الحكومية حملتها متناغمة ومتناسقة بتوجيه أبشع الشتائم إلى هيكل وتحريض الرأى العام والجهات الرسمية والقضائية والنقابية ذات العلاقة، لاتخاذ موقف مناسب.
وخلال أيام قليلة، كان المجلس الأعلى للصحافة، يعقد اجتماعا برئاسة د. صبحى عبد الحكيم، رئيس مجلس الشورى فى ذلك الوقت، وهو المجلس الذى يضم رؤساء تحرير الصحف الحكومية، وعددا من القيادات الصحفية البارزة فى مختلف الدور الصحفية، إلى جانب بعض الشخصيات العامة.
كانت هذه هى المرة الأولى فى تاريخ المجلس، الذى يعقد فيها ليناقش موضوعا واحدا، هو"حدود حرية الرأى والمنهج الصحيح لمناقشة التاريخ بعيد عن الأهواء الشخصية". وبالطبع فإن المناقشات قد تركزت على كتاب "خريف الغضب" وكتاب آخر للدكتور يوسف إدريس، كانت صحيفة "القبس" الكويتية قد بدأت فى نشر حلقات منه، بعنوان " البحث عن السادات" وفيه يهاجم كاتبه الرئيس أنور السادات، ويتهمه بأنه خان مبادئ الثورة، وفرط فى كرامة مصر، لصالح الإسرائيليين. وفى نهاية المناقشة، أصدر المجلس بيانا استنكر فيه كل مانشر فى الكتابين"لمجافاة الحقيقة"، مؤكدا أن حرية الرأى لا تعنى حرية السب أو القذف أو الإهانة.
اشتريت كتاب إدريس
والواقع أننى كنت همزة الوصل بين الدكتور يوسف إدريس و"القبس". كنت فى زيارة إدريس فى بيته، لإجراء حديث معه، حول ما أشيع عن ترشيحه لنيل جائزة نوبل فى الأدب. وتناول حديثنا موضعات شتى من بينها "خريف الغضب".
فذكر لى د. إدريس أن لديه كتابا عن السادات، سيحدث ضجة كبرى، وطلب منى أن أقترح على"القبس"شراءه منه. أبلغت القبس، فكلفتنى بالتعاقد معه، بعد أن أقرأه، ومن ناحيتى كنت حريصا على أن أكسب كاتبا كبيرا مثل د.يوسف إدريس، للجريدة التىأمثلها، خاصةأننى كنت قد فشلت قبل أسابيع قليلة، فى أن أقنع الأستاذ هيكل بالتعاقد معها، لنشر كتاب "خريف الغضب"على صفحاتها.. وكان الفشل لأسباب خارجة عن إرادتى.
ففى أوائل مارس 1983، أى قبل شهر من نشر أولى حلقات "خريف الغضب" كلفتنى "القبس" بالاتصال بالأستاذ هيكل،والاتفاق معه على نشر كتابه، الذى بدأت الصحف العربية تنشر أخبارا عن محتواه. ولكن منير عساف، سكرتير الأستاذ هيكل،أبلغنى فى اليوم التالى لاتصالى به بأن "الأستاذ" لا يتعاقد بكل أسف مع أية صحيفة عربية. إنه متعاقد مع اثنين من كبريات دور النشر البريطانية، وهما بدورهما تتوليان التعاقد مع دور النشر الأخرى، فى كل أنحاء العالم، وتفضل فأعطانى اسم" تحسين خياط" الناشر اللبنانى المعروف، قائلا إنه الناشر الوحيد،الذى اشترى حق التعاقد مع الصحف العربية. ولم يكن فى مقدور "القبس" أن تتعاقد من خلال رافد من الروافد، إنها صحيفة كبرى، وتفضل التعامل مع المنبع، خاصة أن جريدة "الوطن" الكويتية، كانت قد اشترت حق نشر الكتاب على صفحاتها.
وخريف هيكل... له قصة
ولعل من واجبى، أن أروى قصة تتعلق بهذا الكتاب "خريف هيكل" فقد كانت الصحف العربية والعالمية، قد بدأت تمهد لقرب صدور كتاب للأستاذ هيكل بعنوان "خريف الغضب" وأخذت تنشر أخبارا عما يتضمنه الكتاب، من"فضح" لعورة الجذور العائلية للرئيس أنور السادات،، مما يشكل عاملا للإثارة لدى جماهير القراء فى الدول العربية، التى كانت تختزن كما هائلا من الكراهية نحو السادات، منذ زيارته للقدس وتضاعفت بعد توقيع اتفاقية "كامب ديفيد".
وقبل بدء نشر "خريف الغضب" بأكثر من شهر، اتصل بلى مدير تحرير " القبس" الأستاذ رءوف شحورى، وهم من ألمع الصحفيين اللبنانيين وأكثرهم نجاحا، ليسألنى:
هل تستطيع أن تفعل فى هيكل، نفس ما فعله فى السادات؟
وقبل أن أجيب بحرف واحد، قال مستطردا :
إننى أثق فى قدرتك على عمل "ضربة" صحفية خطيرة. متى ترسل الحلقة الأولى؟
لم أكن فى حاجة لأن أطرح عليه أى أسئلة أخرى، فقد تعلمت من هذا الرجل الكثير، طوال فترة عملى بالقرب منه لعدة سنوات، قبل أن أعود إلى وطنى، مراسلا للجريدة بالقاهرة، وأكثر ما تعلمته، هو سرعة الاستيعاب، وسرعة التنفيذ، مع الإصرار على تحقيق الجديد دائما. أجبته بسرعة، دون أن أعرف إلى أى عمق ستصل بى جذور الأستاذ هيكل. لكنى أبلغته بأننى سأرسل له ثلاث حلقات بعد أسبوع. وقبل مرور اليوم الخامس، كانت الحلقات الثلاث الأولى بين يديه، تبعتها أربع حلقات أخرى بعد خمسة أيام، لتكتمل رحلة الغوص فى أعماق جذور الأستاذ هيكل. وكنت قد اخترت لها عنوانا عاما وموحدا فى كل الحلقات هو :"هيكل ينبش قبر السادات ميتا.. والقبس تقتلع جذور هيكل حيا". ثم كانت لكل حلقة بعد ذلك عناوينها المناسبة لها.
إن إحساس الصحفى، بأنه على تحقيق عمل مهم بالمستوى الذى نسميه"الضربة الصحفية" يمنحه سعادة لا تعادلها سعادة أخرى، لدرجة أنه لا يشعر بأن ما يبذله من جهد وعرق، يشكل مصدرا للإرهاق بالنسبة له. لكن هناك علامة استفهام كبيرة، كانت ترتسم أمام مخيلتى منذ البداية:
ترى لماذا اتخذت " القبس" هذا الاتجاه العكسى المفاجئ، الذى سيفهم على أنه دفاع عن السادات، مع أن موقفها منه معروف،وكذلك موقف الصحف العربية الأخرى، فى كل أرجاء الوطن العربى، منذ زيارته للقدس، وتوقيعه على معاهدة "كامب ديفيد"؟
كان الأستاذ هيكل، يكتب لجريدة"الوطن" الكويتية بصفة منتظمة. وللحق.. فإنه كان من أهم مصادر ارتفاع نسبة توزيعها على الساحة الكويتية، وقد حاولت"القبس" مرارا أن تتعاقد مع هيكل، لكنه كان يرد على ذلك بالرفض، مؤكدا "أن تعاقده مع جريدة الوطن هو مسألة مبدأ، بصرف النظر عن الإغراءات المادية".
خلال رحلتنا بهدف التوصل إلى أعماق جذوره، كان الأستاذ هيكل قد علم من والدته، بأن " القبس" تنبش وراءه وأن أحد محرريها قد سأل الجيران.
ثم علم بأن الأمر وصل إلى قرية "باسوس". فما كان منه إلا أن اتصل برئيس تحرير "القبس" مرحبا بالتعاقد معه للكتابة على صفحاتها.. وبالطبع دون أن يطلبعدم نشر الموضوع الذى أجرى حوله وحول أسرته وجذوره.
وحين استدعتنى "القبس" إلى الكويت للتشاور، سألت مدير التحرير، عن السبب فى تأخر نشر الحلقات بعد ما بذلته من جهد، قال وكأنه يطيب خاطرى:
خيرها فى غيرها.. كما يقولون فى مصر.
فى هذه اللحظة، دخل علينا رئيس التحرير، الأستاذ محمد جاسم الصقر، فقال لى بلهجة المنتصر، الذى حقق مغنما كبيرا :
أنت تعرف أننا تعاقدنا مع الأستاذ هيكل، وهو مكسب كبير للقبس. وطبعا نحن نقدر لك جهدك، لكن ليس من اللائق أو المنطق، أن نهاجمه، على صفحات الجريدةنفسها التى يكتب فيها. ثم استطرد قائلا:
لقد عرفت من بعض الزملاء، أنك سوف تطبع الحلقات فى كتاب. ويؤسفنى أن أقول لك وأنت واحد من أعز أبناء "القبس"إن أمامك أحد أمرين: إما أن تختار " القبس" أو تختار كتابك.
ولم تدم علاقتى بالقبس أكثر من عدة أشهر، كانت ضرورية لترتيب أوضاعى الخاصة. لكنى سأظل أعتبرها مدرسة رفيعة المستوى، علمتنى مالم يكن من السهل أن أتعلمه، وأتاحت لى الفرصة لكى أثبت ذاتى. كما أقامت لى حفل وداع عند مغادرتى للكويت، سأظل أذكره بكل تأثر، حضره الأستاذ رءوف شحورى وجميع الزملاء، الذين حضروا جميعا حفلا آخر أقامته لوداعى جمعية الصحفيين الكويتية.. لقد ترك الحفلان فى شعورى ووجدانى أعمق الأثر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.