ما يحدث فى لبنان الآن، هل هو فعلا مشكلة تراكم نفايات أم نتاج لأزمة الطائفية السياسية التى تسيطر على هذا البلد الجميل منذ انتهاء الإنتداب الفرنسي، وما علاقة ذلك بالأزمة السورية والاتفاق النووى الإيرانى والسعودية وفرنسا وامريكا؟ تساؤلات كثيرة قد لا يلتفت إليها القارئ غير المتخصص فى الشأن اللبنانى ولكنها ترتبط بالأزمة ارتباطا مباشرا وتحتاج للإجابة عليها إلى شرح سريع لبعض جذور المشكلة اللبنانية بعيدا عن التفسيرات السطحية الآنية. فمنذ استقلال لبنان وهو يخضع للتأثيرات الخارجية بشكل كبير، فى ظل وجود 18 طائفة ومذهبا تعيش على مساحة 10 آلاف كيلو متر مربع تقريبا هى مساحة لبنان، ويحكمها نظام سياسى طائفى يقسم السلطات الثلاث (رئيس الجمهورية رئيس مجلس الوزراء رئيس مجلس النواب) على الطوائف الكبرى الثلاث (الموارنة السنة الشيعة)، الأمر الذى دعا كل طائفة إلى الاستقواء بالخارج لتعزيز موقعها الداخلي. وفى كل مرة يتم فيها انتخاب رئيس جديد للبنان أو يحين موعد الإنتخابات النيابية لابد من توافق الدول الخارجية المهيمنة على الوضع اللبنانى فى ذلك الوقت على اسم الرئيس الجديد لينتخبه مجلس النواب، وكذلك التوافق على القانون الذى ستجرى بمقتضاه الإنتخابات النيابية، فلبنان يكاد يكون الدولة الوحيدة فى العالم التى يتم فيها إصدار قانون جديد للإنتخابات عند كل انتخابات، لأن شكل هذا القانون يلعب دورا مهما فى تحديد عدد المقاعد التى قد يفوز بها كل تيار سياسي، رغم أن توزيع المقاعد محسوم طائفيا فى إطار نظام المحاصصة. ومنذ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال سليمان فى مايو من العام الماضى فشل مجلس النواب فى إنتخاب رئيس جديد، وأصبح واضحا أن الأمر مرتبط بعوامل خارجية لها تأثير كبير على الساحة اللبنانية، أبرزها الأزمة السورية التى تنقسم فيها القوى السياسية اللبناينة حسب ولائتها الخارجية، فقوى 8 آذار التى تضم حزب الله وحلفاؤه (وأبرزهم الحليف المارونى ميشال عون زعيم التيار الوطنى الحر) تقف مع النظام السورى قلبا وقالبا لدرجة المشاركة فى القتال إلى جانبه بدعم من الراعى الأكبر إيران، بينما تقف قوى 14 آذار التى تضم تيار المستقبل وحلفاءه (وأبرزهم الحليف المارونى سمير جعجع زعيم القوات اللبنانية) ضد النظام السورى بدعم من حليفتهم الرئيسية السعودية. ولا يتوقف الأمر عند ذلك بل يرتبط أيضا ببعض الملفات الإقليمية والدولية التى لها علاقة بإيران اللاعب الأكبر فى لبنان الآن، ولذا لم يتم التوافق على اسم الرئيس الجديد فى الموعد المحدد انتظارا لنتائج هذه الملفات الدولية والإقليمية التى قد تؤدى إلى ترجيح الموقف التفاوضى لإحدى القوتين السياسيتين حسب مدى قوة وانتصار الحليف الخارجى فى تلك الملفات، إلى جانب انشغال العالم بأزمات أخرى أهم فى اليمن وسوريا والعراق. لكن المشكلة أن المواطن اللبنانى العادى هو الذى يدفع ثمن عدم انتخاب الرئيس، لأن الحكومة اللبنانية هى التى تتولى إدارة البلاد حسب الدستور فى ظل غياب الرئيس، وهى حكومة توافق تضم 18 وزيرا يمثلون كافة القوى السياسية الطائفية، وبحكم تكوينها وظروف عملها يستطيع أى وزير أن يعرقل إصدار أى قرار بالاعتراض عليه، ونتيجة استمرار الخلافات والتجاذبات السياسية لم تستطع الحكومة حل أى مشكلة تتعلق بالحياة المعيشية للمواطنين، خاصة فيما يتعلق بأزمة تراكم القمامة وتزايد فترات انقطاع الكهرباء والمياه وغيرها. وكانت النتيجة المظاهرات الإحتجاجية التى قام بها المجتمع المدنى اللبنانى بعيدا عن الإنتماءات الطائفية تحت شعار «ريحتكم فاحت»، وهى تحركات مهمة لكنها لن تستطيع تحقيق أى مطلب فى ظل سيطرة النظام السياسى الطائفي، وقد بدأت بعض القوى السياسية فى استغلال هذه التحركات وعلى رأسها التيار الوطنى الحر بزعامة عون، فشاركت فى بعضها ونظمت مظاهرات منفصلة فى وقت آخر رغم أن التيار عضو فى الحكومة التى يهاجمها المتظاهرون، لكن الهدف الحقيقى كان تصعيد الوضع للفت انتباه القوى الخارجية إلى خطورة ترك الوضع اللبنانى كما هو وسرعة المساعدة فى اختيار رئيس جديد، مع وضع العماد عون فى الاعتبار باعتباره مرشح قوي8 آذار للرئاسة. وكالعادة لجأ النظام السياسى الطائفى اللبنانى إلى نفس اللعبة التى يقوم بها فى كل مرة تتزايد فيها الضغوط عليها، وهى لعبة الدعوة إلى حوار وطنى اعتبارا من 9 سبتمبر الحالي، وقد تكرر هذا الحوار كثيرا دون نتائج محددة سوى استهلاك الوقت فقط، حتى تأتى كلمة السر من الخارج باسم الرئيس الجديد، وطبيعة قانون الانتخابات النيابية الجديد ايضا خاصة مع انتهاء فترة مجلس النواب وقيامه بالتمديد لنفسه حتى عام 2017 فى خطوة اعتبرها كثيرون غير قانونية. وفى أول تصريح له على مايحدث اعتبر الرئيس المنتهية ولايته ميشال سليمان أن أصل المشكلة فى كل ما يحدث من ترهل وجمود وتعطيل عمل المؤسسات الدستورية هو عدم وجود رئيس ، وتمنى لو ينطلق المتظاهرون، الى أى جهة سياسية أو حزبية أو طائفية أو مذهبية انتموا، من مطلب «بدنا رئيس»، الذى بانتخابه بتوافق جميع الفرقاء اللبنانيين، وتستوى الأمور ويعود الانتظام الى الحياة السياسية والدستورية والمؤسساتية. كلمات: لا تقطع صديقا وإن كفر .. ولا تركن إلى عدو وإن شكر عمر بن عبد العزيز لمزيد من مقالات فتحي محمود