تحول التناحر إلى انسجام، والاتهامات إلى إشادات.. دفع كل فريق حصته من التنازلات، ورضى بنصيبه من الكعكة السياسية.. هذا المشهد يمكن أن يكون فى أى بلد بالعالم.. لكن أن يكون فى لبنان، فان ذلك مثار لعلامة استفهام واحدة على الأقل ومئات من علامات التعجب. يمر لبنان بفصل شتاء غير معتاد، فبرغم الجليد الذى يكسو جباله ويمتزج مع شجر الأرز الأخضر، فإن رياح توافقية أتت على البلاد بصورة مفاجأة لتذيب جليد العلاقات المتوترة بين فرقائه ويصبح المناخ السياسى دافئا. فبعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية اللبنانية برئاسة سعد الحريرى التى استغرقت خمسة أشهر من الجدل والتناحر السياسى، نزل كل فريق من على الشجرة مقرا بأن المرحلة المقبلة لا يمكن السير فيها إلا على أرضية التوافق الوطنى لا الانقسام. هذه الأجواء الإيجابية التى وصفها أحد المراقبين بأنها «حالة حب مفاجئة» عكستها لقاءات نادرة بين الخصوم السياسية تحت عنوان «فتح صفحة جديدة». ومن أبرزها على الإطلاق اللقاء الذى جمع بين الجنرال ميشال عون رئيس التيار الوطنى الحر (قطب مسيحى معارض) والبطريرك المارونى الكاردينال مار نصرالله بطرس المرجعية المسيحية الأولى فى لبنان، خلال اجتماع المطارنة الموارنة الشهرى. وهو اللقاء الذى وصف بال«تاريخى» نظرا لحدة الأزمة بين الرجلين على خلفية دعوة البطريرك المارونى الشارع المسيحى قبيل انتخابات عام 2005 إلى عدم انتخاب عون وذلك عقب اغتيال رئيس الوزراء اللبنانى الأسبق رفيق الحريرى فى فبراير من ذات العام وهو الحدث الذى غير خريطة لبنان وقسمها بين فريقين : 14 آذار (أو الأكثرية) و8 آذار (المعارضة). وكانت كلمات البطريرك المارونى فى عظة الأحد تعد بمثابة إعلان عن انتهاء الخصومة السياسية مع عون، حيث قال إن «الجو فى لبنان يميل إلى التفاهم بين المتخاصمين»، وتابع فى عظته إن «هذا ما نأمل أن يستمر ويتقدم لينصرف ذوو الشأن إلى الاهتمام بالطبقة الفقيرة التى تشكو الفاقة فى هذه الأيام». وكان البطريرك صفير ترأس قداس الأحد فى بكركى، بحضور حشد من الفاعليات السياسية والحزبية والنقابية. وقبل أسبوعين تقريبا، جمع لقاء هو الأول منذ 2005 بين عون والزعيم الدرزى وليد جنبلاط رئيس اللقاء الديمقراطى (الأكثرية) تحت رعاية رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان. وقبل هذين اللقاءين كان هناك اجتماع قبل تأليف الحكومة عقده الحريرى مع الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله من أجل تسهيل عملية التشكيل. لكن اللقاء الأهم فى هذا المشهد التوافقى، سيكون خلال الزيارة الوشيكة التى سيقوم بها سعد الحريرى إلى سوريا بصفته رئيسا لوزراء لبنان لا رئيسا لتيار المستقبل. سيلتقى الحريرى الرئيس بشار الأسد الذى كان قبل أشهر قليلة عدوه الأول. ويرى عقاب صقر عضو كتلة لبنان أولا أن «هذه الزيارة ستكون تأسيسية»، وأنه «لا شك فى أن الرئيس الحريرى سيحمل معه ملفات كثيرة»، وقال: «لكن هذه ستكون زيارة إطلاق مناخ جديد». هذه المعطيات دفعت المحلل السياسى سليمان تقى الدين إلى القول بإن «عصر 14 آذار و 8 آذار قد ولى». ففى تصريح ل«الشروق» عبر الهاتف، أكد تقى الدين أن «المعادلة السياسية فى لبنان تغيرت بالكامل، فلم يعد هناك 14 آذار أو 8 آذار، بل أصبح الفرقاء اللبنانيون شركاء فى معادلة جديدة تؤثر فيهم جميعا بالإيجاب والسلب» وقال «من الأكيد أن الخارطة السياسة فى لبنان تغيرت، منذ أن حصل تغيير فى ميزان القوى فى المنطقة وتراجع المشروع الأمريكى الفرنسى الذى جاء بقرار مجلس الأمن 1559 وفشله فى نقل لبنان إلى الشاطئ الغربى». وأوضح تقى الدين أن الانتخابات جاءت بميزان قوى دقيق خاصة مع تمايز فريق مهم فى الأكثرية وهو فريق الزعيم الدرزى وليد جنبلاط، الأمر الذى ساعد على اتزان المعادلة السياسية. ورأى عضو «اللقاء الديمقراطى» النائب نعمة طعمة فى تصريحات صحفية «أننا نعيش اليوم عصر المصالحات والوفاق السياسى بين زعامات لبنان وقياداته»، وقال: «كم كان وليد بك جنبلاط صائبا وذا رؤية بعيدة عندما دعا إلى التلاقى والحوار ونبذ الماضى الأليم ورواسبه، فما يحصل اليوم قيمة إضافية كبيرة وسند للمصالحة التاريخية فى الجبل التى رعاها مع غبطة البطريرك صفير، فهذه المصالحة ثابتة متماسكة وراسخة». ويقول تقى الدين إن خروج جنبلاط من فلك 14 آذار، كان حتميا حتى لا تطول الأزمة السياسية كما أنه جاء من وحى قراءة جيدة للواقع الإقليمى الجديد، مشيرا إلى التوافق السعودى السورى الذى أنتج الحكومة اللبنانية وفتح باب التحولات السياسية داخل البلد. وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن اعتبار جنبلاط «رمانة الميزان» فى المعادلة السياسية فى لبنان «لأنه كان مضطرا هو وغيره فى إقامة نظام الشراكة فى البلد» بحسب تقى الدين. وأشار أيضا إلى أن الكتلة الأساسية فى 14 آذار وهى تيار المستقبل بدأت هى الأخرى تستجيب تدريجيا لمعطيات الجديدة. وأدرك الحريرى أن المناخ العربى يفرض عليه «لغة مختلفة» فى التعامل مع سوريا وبدأ تدريجيا فى التعاطى مع هذا الاتجاه بايجابية. لكن إذا كنا نتحدث عن معادلة، فمن الرابح والخاسر فيها؟ يجيب تقى الدين بالقول إن الرابح الأكبر هى سوريا التى تمكنت من استعادة نفوذها فى لبنان بشكل غير مباشر عبر حلفائها وأصدقائها. وبالتالى، فإن حلفاء سوريا فى لبنان ربحوا فى هذه المعادلة بتطبيق رؤيتهم فى حكم البلد. ويقول تقى الدين: «الجميع الآن بات ينتظر موعدا للحج إلى دمشق من أجل إصلاح العلاقات والحصول على مقعد فى المشهد الجديد». ورأى تقى الدين أن المعادلة الحالية أصبحت «لبنان تحت حكم الشراكة برعاية سعودية سورية». وبالتالى لم يعد هناك أكثرية أو أقلية». وعلى مستوى الشخصيات، فإن الحريرى على الرغم من خسارته خطابه القديم المناهض لدمشق والموالى للغرب، فإنه ربح فى ذات الوقت وضعا جديدا جعله الزعيم الأوحد للسنة فى لبنان حيث أصبح فى وضع شعبى قوى جدا واستطاع أن يستفيد من موقعه كطرف أساسى فى المعادلة. وفى الجهة المقابلة، أضحى العماد ميشيل عون القطب الأساسى فى الوسط المسيحى وتعززت شعبيته فى الشارع. وحول وضع حزب الله الجديد، قال تقى الدين إن الحزب بعد إعلان وثيقته السياسية، صار شريكا رسميا فى المسئولية وهو ما جعله يتبنى لغة مختلفة. وأوضح أن «خطاب حزب الله لم يعد تعبويا، وعلى الرغم من استعداداته الدائمة لمواجهة أى عدوان خارجى من إسرائيل إلا أنه يرغب فى أن يكون أكثر الأطراف انسجاما مع معادلة الشراكة الجديدة والأجواء الإيجابية العامة، ولا يرغب فى اتخاذ قرارات قد تعرضه لعزلة من المجتمع اللبنانى». إذن «فحزب الله مثل كل القوى اللبنانية، نزل من الشجرة، وما عاد هناك فريق يعزف منفردا فى البلاد»، على حد تعبير المحلل اللبنانى. هذا السياق، يؤكده النائب على فياض عضو كتلة «الوفاء للمقاومة» النيابية (حزب الله)، فى حديث ل«أخبار المستقبل» على أن «الكتلة سوف تحرص على المناخات الإيجابية وعدم الانجرار وراء أى سجالات»، وقال «نحن مؤمنون بأن البلاد فى مرحلة تحتاج فيها إلى أفعال وليس إلى أقوال، والمطلوب التخفيف من التناقضات، والجميع مدعو إلى تركيز الجهود من أجل إنجاح عمل الحكومة». لكن من يقبع الآن فى خانة الخاسرين؟.. يرى تقى الدين أنهم الذين لم يستوعبوا هذا التحول، مشيرا إلى المسيحيين فى 14 آذار الذين لم يغيروا خطابهم القديم، ويقصد هنا تحديدا حزبى الكتائب المسيحى والقوات اللبنانية، فعلى الرغم من حصولهما على بعض المقاعد النيابية من نصيب تيار المستقبل وحلفائه» فإنهما غير مؤثرين فى المعادلة اللبنانية لأنهما لم يكونا فيها أصلا بأى شكل من الأشكال. وبقاؤهما أصبح مرهونا برغبة الحريرى عدم التخلى عن حلفائه الذين أصابهم الوهن». وأشار إلى أن الحزبين خسرا مشروعهما منذ انخراطهما فى الحرب الأهلية وبعد اتفاق الطائف بما قرره من حصص سياسية وأيضا بعد استشهاد رفيق الحريرى، حينما تبنوا خطابا تعبويا وعدائيا ضد المعارضة.