(1)يبدو أن أحد ضيوف جدتى المريضة قد أخطأ بأن وضع كوب الشاي الفارغ فوق روشتة الطبيب، بعد انصرافه لمحت على الروشتة الرسم الذى خلفه الكوب على الورقة، كان يبدو لطفل مثلى مثيرا، طائر غريب مستقيم الأجنحة يحمل كلمة ما غير مفهومة، تسللت إلى بوفيه الجدة أقلب الأكواب بحثا عما يطابق هذا الرسم الموجود في يدى، في اللحظة التى وجدت فيها هذا الكوب ضبطتنى جدتنى، سحبتنى إلى أعلى من (طرطوفة أذنى) طالبة منى أن أبتعد عن هذا الطقم بالذات، ثم طلبت منى أن (هات الروشتة)، عرضت عليها في تحد نادر أن أعيد الروشتة بشرط أن تسمح لى باستعارة هذا الكوب قليلا لأعيد طبع ما حُفر عليه، كنت أراقب جدتى وهى تفكر في هذا العرض، قبلها كنت قد التقطت الاسم المطبوع بشكل بارز على قاع الكوب ( يس). (2) اندثرت صناعة الزجاج في مصر بعد أن ساهمت لسنوات في تزيين الحضارة الإسلامية، بكل مصباح و مشكاة أنارت مسجدا كبيرا. فى بداية العشرينيات كانت كل المنتجات الزجاجية الموجودة فى مصر مستوردة و على رأسها لمبة الجاز. طيب ما علاقة هذا الكلام بشخص يعمل في المقاولات؟ ورث (محمد سيد يس) عن والده شغلانة المقاولات. لاحظ يس أن مصر تعتمد في تنقلاتها على الحناطير أو الترام، وكان الجشع يسيطر على كليهما، عمال الترام يضربون عن العمل كل فترة مطالبين بزيادة الأجور فتتوقف العربات، فلا يصبح أمام الناس إلا الحناطير التي يرفع أصحابها أجرتها أيضا استغلالا للموقف. قرر أن يحول «لورى» من التى يستخدمها في المقاولات إلى أتوبيس نقل عام بدكك حديدية و اتجه لترخيصه. وضعه الضابط الإنجليزى في التحدى الأول، بأنه أمر غير مقبول أن يستخدم لورى نقل الدبش لنقل الناس. قام يس بإعادة تشكيل مؤخرة اللورى و تخليصه من أية معادن زائدة ثم زرع فيها مقاعد خشبية خفيفة ،و صنع من اختراعه هذا أكثر من 22 قطعة ليصبح الموضوع أمرا واقعا، ثم حصل على الترخيص. كان التحدى الثانى هو الناس، فقد اعتبروا تلك المخلوقات التي تسير أسرع من الترام و الحناطير وسيلة للإنتحار، فهجروها، و كانت الأتوبيسات تخرج من الجراجات كل يوم و تعود فارغة لا تحمل إلا لعنات الناس. أكثر من شهر و نصف الشهر لم يصعد راكب واحد إلى متن أى من ال22 أتوبيسا، اقترح كثيرون على يس أن (يفضها سيرة) و يغلق باب الخسارة ، لكنه طلب من الاتوبيسات أن تتحرك طول اليوم في الشوارع حتى يألفها الناس و ينسوا خوفهم منها. شخص واحد جرىء صعد يوما إلى واحد من تلك الأتوبيسات، وعندما عاد بالسلامة إلى المقهى أخبر ناسه، بعدها انفتح باب الخير و نجح المشروع. نجح و حقق مكاسب خيالية لدرجة أن الحكومة سحبت الترخيص و منحته لشركة انجليزية. على باب المحكمة قال له مندوب الحكومة، قضيتك ستستغرق مالا يقل عن عشر سنوات ستحصل بعدها على 150 الف جنيه، ما رأيك أن تسحب القضية و تحصل الآن على 16 ألف جنيها نقدا؟ اختار يس( الخسارة القريبة) على أمل تحويلها إلى (مكسب قريب أيضا)،ثم فكر أنه لن يعود إلى المقاولات لكن إلى أين يذهب؟ عندما تأمل (لمبة) الجاز في غرفة خفير منزله ووجد أنها مصنوعة في بلجيكا، سأل نفسه: كم لمبة جاز مستوردة في بيوت مصر ؟ كان قرار يس إن يعيد إلى مصر صنعة هي بشهادة كل كتب التاريخ من اختراعها، صدرتها إلى العالم ثم بدأت تتسول منه إنتاجه. (3) من أين يبدأ يس وهو الذى لا يعرف شيئا واحدا عن صناعة الزجاج ؟ انطلق إلى ألمانيا و منها إلى عدة دول مجاورة في زيارات لمصانع الزجاج هناك، حصل على ما يكفيه من خبرة للانطلاق، تأمل العملية الإنتاجية وما الذى تحتاج إليه ثم عاد محملا بالعلم و بعدد من خبراء الصناعة الأجانب. قرر يس أن يقتحم السوق من النقطة التي تجعله صاحب نصيب مهم فيها فتخصص في صنع بلورة اللمبة الجاز، شق طريقه بصعوبة وسط أباطرة الإستيراد الذين يقفون بضراوة في وجه أي صناعة وطنية، و على مدى ثلاث سنوات كان يخسر كثيرا، لأن العمال المصريين لم يتقنوا الصنعة بعد، و عندما أتقنوها كان بحاجة إلى إقناع المصريين و كل بيوتهم تعتمد على اللمبة الجاز بتشجيع المنتج الوطنى، كان النجاح بطيئا، لكن بدأب يس المعروف استطاع أن يجد لنفسه مكانا في السوق، ثم رأى أن الوقت أصبح مناسبا ليصبح مشروعه أكبر و أوسع نشاطا. اختار يس قطعة أرض في شبرا الخيمة، و صمم مصنعه الكبير الذى يحلم به، ثم حسب حسبته فوجد أنه بحاجة إلى 80ألف جنيه. رفضت جميع البنوك أن تضع يدها في يد هذا المجنون الذى باع أرضه و اتوبيسات النقل و جميع ما يملك من أجل مصنع زجاج، إلا طلعت حرب، الذى قرر أن يقرضه ما يطلب،سألوه كيف تفعل ذلك؟، قال حرب:» للأسباب نفسها التي رفضتم من أجلها إقراضه، فهذا رجل باع كل ما يملك من أجل مشروع ولست أدرى كيف تبدأ الصناعة إلا بمجازفة مدروسة؟». في سنوات قليلة كبر مصنع يس للزجاج، استقرت منتجاته في كل بيوت مصر على اختلاف مستوياتها، تحول مصنعه إلى مؤسسة صناعية اجتماعية، فاختار إلى جوار المصنع قطعة أرض مطلة على النيل صممها كملاعب و حمام سباحة و مسرح للعمال، في البداية كان يعمل في المصنع أكثر من 150 مهندسيون المانيا و تشيكوسلوفاكيا، طوروا المهنة و رفعوا مستوى العمالة المصرية ثم عادوا إلى بلادهم و في صحبتهم عمال مصريون يدربون الخواجات هناك. عادت صناعة الزجاج إلى مصر كما بدأت قبل قرون، وكان طقم يس أول قطعة في جهاز كل عروس مصرية، سواء طقم المشروبات المرشوش بالرمل الملون، أو طقم القهوة المطلى بخطوط ماء الذهب، أما لمبة جاز يس فقد كانت شريكة كل بيوت مصر في لحظات الونس . ثم قامت الثورة.. تحول مصنع يس إلى مصنع قطاع عام( النصر للزجاج و البللور)، ضاع ختم يس الموجود أسفل الأكواب، و انتهى الجزء اليدوى الفني في الصنعة و صار ميكانيكيا فظا، وكان التأميم قاسيا عليه بعض الشىء، فبحسبة بسيطة لم يعد المصنع يدر عليه إلا جنيهات قليلة كان يصرفها على علاجه حتى رحل عام 71. (4) كنت أتأمل جدتى و هي تفكر في المقايضة، الروشتة مقابل كوب يس، فكرت جدتى ثم قالت خللى الروشتة معاك مش عايزاها ولا تفكر أبدا في الإقتراب من هذا الطقم مرة أخرى. كانت الجدة كربة بيت مصرية أصيلة تعرف جيدا أن ضياع كوب ملون يحمل ختم يس على يد طفل طائش هو أمر صعب ولا تصلح معه كل روشتات العالم . ................................. «مصادر: أرشيف جريدة الأهرام – سلسلة رواد الاستثمار (عاشق الزجاج): الكاتب مصطفى بيومى- موسوعة ويكبيديا- موقع مشرع برس.»