فى البدء كانت دعوة «مصر للمصريين» لاستعادة قلب الحضارة، فى مواجهة الشره الأوروبى الجامح لاحتلال المحروسة.. ودخلت الدعوة الوليدة نفق الديون للخارج، عندما بدأ حفر قناة السويس بسواعد ودماء مصرية لحساب شركات أجنبية، ارتهنت مسقبل مصر وأثقلت الاقتصاد الوطنى فى عهد اسماعيل، ثم تزايد النفوذ الأجنبى وصار نهب مصر فى عهد «الخديو الضعيف» توفيق حلال للطير من كل جنس، ثم صندوق الدين والمراقبة الثنائية بحجة تمكين المالية المصرية من الوفاء بالتزاماتها نحو الدائنين، .. حاول عرابى بجيش المصريين جاهدا وضع حد لاحتلال الارادة الوطنية، لكن حالة الجيش لم تكن تسمح بحماية الاستقلال وصيانة الكرامة الوطنية.. فكان الاحتلال الانجليزى 1882 الذى رفع لافتة «صيانة حقوق الأجانب وضمان سداد الديون وحماية الشرعية». وبعد سبعين سنة أثبتت حركة الجيش بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر أن قصة مصرمع الاستقلال والكرامة مرهونة بقدرة الدولة والرأسمالية الوطنية على الاستجابة لطموحاتهاالاقتصادية، وهو ما أكدته وسعت إليه موجات الثورة المصرية في عام 1881 وفي1919وفى يوليو 1952 وفي يناير2011 ويونيو.2013 وأخيرا قرارحفر وتطوير قناة السويس الجديدة بسواعد وأموال المصريين. وقد أدركت الأهرام منذ بدايات القرن الماضي أهمية دعم الرأسمالية الوطنية لتأسيس اقتصاد وطني مستقل، وحذرت العالمة وأستاذة التفسير والحديث الدكتورة عائشة عبدالرحمن ”بنت الشاطئ” سنة1932 من مغبة تشجيع البضائع الأجنبية «ونزوع سيداتنا المتفرنجات الى محلات شملا وشيكوريل وبنزايون دون الفرنوانى والراعى ودياب»..ومن قبلها نشر شاعرالنيل حافظ ابراهيم قصيدة عصماء في مناسبة العيد السابع لبنك مصر جاء فيها. في مصر بنك إلي الأوطان ينتسب هيا بنا يا سليمي فيه نكتتب وأنتم ياثرات النيل قاطبة وفيض أموالكم ضاقت بها السحب في بنك مصر ضعوا أموالكم تجدوا حياة مصر حياة كلها طرب أما «ابن حرب» فكل الناس تعرفه قد وسع البنك والآمال ترتقب له مشاريع بالأموال ناضجة وكل يوم لنا من فكره عجب ومن وحى الفكر العجب لطلعت حرب باشا انتعشت دعوة مصر للمصريين وبدأت الصفحة الثانية من كتاب الثورة الشعبية فى 1919، بإنشاء «بنك مصر» لدعم الصناعات المصرية فأنشأ ودعم العديد من الشركات التى تحمل اسم مصر فى الصناعة والتجارة والتأمين والسياحة والفن،واعتبر المصريون نجاح البنك معركة جديدة لكسر الاحتكار الأجنبى فسارت عمليات التمصير وحلت عبارة «صنع فى مصر» محل المنتجات الأجنبية، وظهرت أسماء مصرية مثل عبود وفرغلى وأبو رجيلة وسيد ياسين وسيد جلال إلى جانب سمعان فى التجارة وأنطون سيدهم فى البنوك وآل تقلا وآل زيدان فى الصحافة ووفدت الينا أسماء فنية مثل آسيا داغر وفاطمة اليوسف ، ولم يفرق قائد الثورة التمصيرية طلعت حرب الذى مرت بالأمس القريب 63 عاما على وفاته فى دعم كل يد تبني بأموال مصرية وإرادة وطنية. وهذا الملف اعتمدت فيه على قراءة جديدة لسلسلة كتيبات رواد الاستثمار التي أعدها الأستاذ مصطفي بيومي بوحدة التطوير بوزارة الاستثمار قبل خمس سنوات وهى محاولة لتقديم صورة بالكلمات بعيدا عن المبالغات التى أسفرت عن أحكام ظالمة تجافي المنطق لجيل من البنائين المصريين الذين شيدوا وأنجزوا وإن لم تخل سيرتهم من حقيقة أنهم بشر..! أحمد عبود باشا قاد عمليات التمصير وتلاعب بقرارات الملك وأسقط عرش طلعت حرب ثم سلم امبراطوريته للإرادة الوطنية * دق باب الحمام الشعبي بقوة انخلع معها قلب صاحبه الأسطي عبود، فلم يكن هذا الإلحاح سببه قدوم زبون، بعد أن كسد هذا النشاط لأن الزبائن من فقراء حي باب الشعرية الشعبي، وتجاره وصناعه صاروا اكثر بؤسا كما صاروا يأتون إلي هذا المكان سيئ السمعة خلسة وفي كتمان وتحت جنح الظلام، لارتباطه بتجارة البغاء كما أن تيارات »الفرنجة» التي أصابت القاهرة بعد الاحتلال الانجليزي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر عرضت مصدر رزقة للاختناق وجعلت هذه المحال موضة قديمة، ولم يكن الخبر الذي وصل الى الأسطي عبود سوي حادث سعيد كان ينتظره وزوجته إذ رزقا، بمولود حمدا الله عليه وأسمياه أحمد. ورغم حياتهما البائسة حاولا تجنيب ابنهما مهنة الخدمة في الحمام الشعبي التي لامستقبل لها، كان التعليم هو طوق النجاة بعد أن أخذت صنعتها طريقها للاندثار. وكان نجاح ابنهما في المراحل الأولوية انجازا لايتكرر عند أبناء طبقته أماّ التحاقه بمدرسة «المهندسخانه» فقد كان من المعجزات الكونية التي بذلا في سبيل تحقيقها مئات التضحيات حتي يجنبا الطالب الشاب بؤس الإدارة اليومية للعمل داخل الحمام الشعبي.. رسمت الخط الدرامي الأول في حياة أحمد عبود معادلات الحياة في المحروسة وقوانين «النشوء والارتقاء» وهى النظرية التى كانت موضوعا رئيسيا فى الأهرام كتبه شبلى شميل أيام ميلاده الأولى ،أما الخط الدرامى الثاني الذي فاق كل الاحلام والتوقعات فهو أن «اسم عبود» سيعد مرادفا للثراء الفاحش بلا حدود ويضرب به فيلسوف الشعر الشعبي بيرم التونسي المثل في تكاليف السيارات وأعبائها حين يقول: لو كنت «عبود» مااشتريت سيارة واردم عليها لو تجيني هدية كما سيصير صاحب هذا الاسم صانع قرارات مصر ويضرب بسلطته الأديب «إحسان عبدالقدوس» المثل علي قدرة المال في حكم مصر ، وصناعة القرار في روايته «حتي لايطير الدخان» حين يقول: عبود باشا بيشتري الوزارات.. دفع للملك خمسة ملايين علشان يسقط وزارة ويجيب وزارة.. انا سأطلب من بابا الباشا تعيين عبود رئيسا للوزراء «ماحدش يقدر يحكم مصر غير مليونير«! وبين انتصار الأمل علي واقع العوز والفقر ..إلى انتصار المال في خيال إحسان عبدالقدوس علي صناعة القرار السياسي أكدت مرحلة حياة أحمد عبود أن نجاحاته المتواصلة كان وراءها أدوات من الفهم والذكاء والوعي الوطني يملكها أحمد عبود لم تتوافر للكثيرين غيره، مكنته من اقتحام مجالات عديدة كانت حكرا علي الأوربيين وحدهم وادار شركاته بعلم واقتدار واستيعاب للمتغيرات العالمية والمحلية. فقد كان الاقتصاد المصري في مطلع القرن العشرين كما يقول مصطفى بيومي مؤلف »رواد الاستثمار» يقوم علي أساس الاقتصاد الحر وعلي كل فرد أن يضع قانون عمله الاستثماري وفقا لما يراه، وكانت الدولة غائبة، وتركت المجال لرأس المال الاجنبي يرتع في البلاد منذ الاحتلال الانجليزي الذي جاء لحماية هذا التغلغل منذ البداية. ومع الأزمة العالمية الاقتصادية منذ 1929 بدأ التراجع عن الحرية الاقتصادية المطلقة ونشطت عمليات التمصير، كما شرعت الدولة في التدخل بفرض الحماية الجمركية وإعادة النظر في الانفاقات التجارية مع أوروبا، وفشلت وعجزت الرأسمالية الأوروبية في فرض ارادتها علي الدول التابعة واتسع المجال أمام رأس المال المحلي للتصنيع ،وسد حاجة السوق مع عدم القدرة علي الاستيراد. ورغم أن المصريين لم ينفردوا وحدهم بالعمل في الساحة إلا أن إزاحة الأجانب كان سلوكا متكررا عندما تتهيأ الظروف أمام المصريين وكان أحمد عبود في طليعة من استثمروا المناخ الجديد.. بعلاقات صداقة مع المندوب السامي ومصاهرة مع الانجليز ومودة مع الملك فؤاد ورؤساء الوزارات. وحقق الاسطول البحري الذي يملكه أرباحا طائلة من الارتفاع الجنوني للاسعار خلال الحرب الثانية واشتري معظم أسهم شركات السكر والتكرير ثم آلت له ملكيتها بعد ذلك. وخلال الفترة نفسها حظي بمقعد بالبرلمان وبمجلس الشيوخ ثم ترأس مجلس إدارة النادي الأهلي عام 1949، فعرفت القلعة الحمراء معنى احتكار البطولات. مما يؤكد تزايد نفوذ عبود باشا وقوته أنه اجبر طلعت حرب باشا أشهر أعلام النهضة الاقتصادية المصرية علي الاستقالة من بنك مصر الذي أسسه واقترن باسمه بعد أن اتفق مع محمد فرغلي باشا ملك القطن علي سحب ودائعهما من البنك حتى أجبر «ناظر مدرسة التمصير» علي الاستقالة وتعيين حافظ عفيفي رجل الملك بدلا منه! وبعد ثورة 23 يوليو1952 قضي أحمد عبود عشر سنوات قريبا من رجال الثورة وأهدافها في تشجيع الرأسمالية المصرية للمشاركة في عمليات التنمية مما يشير الي أنه لم يكن من رجال العهد البائد ولا الملك ولا الأحزاب بل كان رجل أعمال والتي التقت مصالحه مع المصالح الوطنية في فى مراحلها الأولي. حتي بعد صدور قرارات التأميم تعامل معه الرئيس عبدالناصر بشكل ودي وقدر للرجل دوره في تقدم الصناعة الوطنية. وفي وقت كان فيه التمصير هدفا وطنيا التقت فيه اراداة الحركة الوطنية منذ ثورة1919 ثم ثورة يوليو 1952.. أسهم أحمد عبود في اطار الظروف التاريخية في تحقيق هذا الهدف واقتحم مجالات وصناعات اقتصادية كانت حكرا علي الاجانب وحدهم واستطاع ان يدير صناعات بكفاءة وجدية وإصرار ،واثبت قدرة المصريين علي التسلح بالخبرة والعلم لتحقيق التفوق والانتصار لكنه لم يجد بدا من الاستسلام أمام الارادة الوطنية حين آلت مشروعاته جميعا للثروة الوطنية التي تجاوز الافراد والحكومات. ومما يزيد من مكانة أحمد عبود ويعلي من قدر وشأن كل من شاركوا في تمصير الاقتصاد الوطني وآلت ملكياتهم بالتأميم للدولة هو ماجري لهذه الثروة الوطنية بعد ذلك من انهيار متعمد بسوء الادارة قبل تعرضها للنهب المنظم حتى تهاوت لصالح تجار الانفتاح، و صارت لقمة سائغة لمقاولي الخصخصة ومليونيراتها قبل ثورة يناير .2011 اعترافات فرغلى ملك القطن: أيدت «الانقلاب» خوفا من فاشية الإخوان! بداية الكوارث.. زواج المال بالسياسة! الموظف شريك لا أجير عند صاحب العمل * سألت ملك القطن بداية: من أنت؟ محمد أحمد فرغلي، من أسرة ميسورة الحال من قرية أبوتيج بأسيوط هاجرت إلى الإسكندرية فى أطارالهجرات الداخلية التي تحتفظ فيها الأسرة بقيمها الريفية ولهجاتها ولغاتها ثم يكتسب النشء عادات البيئة الجديدة، لذلك جاءت تربيتي نتاج خليط بين ثقافتين، الثقافة الفرعونية الصعيدية بتقاليدها الصارمة، والثقافة التجارية المنفتحة على العالم في البيئة الساحلية وبوابة مصر الي العالم الغربي، كان جدي ووالدي من كبار تجار الحبوب، وقد حرص والدي علي بث قيم الشجاعة والثقة بالنفس، والمغامرة التجارية دون خوف من النكسات. ثم سافرت الي انجلترا وأكملت دراستي في مدرسة لندن للدراسات الاقتصادية، وبعد مرض الأب عدت قبل استكمال الدراسة لرعاية العمل التجاري لوالدي، أفادني جيدا إتقاني للغات الفرنسية والإنجليزية ،وانفتاحي علي المفاهيم العصرية الحديثة في علوم الاقتصاد والإدارة. .. وما حكاية ملك القطن؟ تجيب أوراق محمد أحمد فرغلى : كانت البداية المالية هي رأسمال الوالد الذي كان يقترب من 30 ألف جنيه، وتعاملي مع خليط من الإنجليز والفرنسيين والبلجيك واليونان واليهود والأرمن، وكانوا هم المحتكرين لكل أعمال البورصة في »مينا البصل» بالثغر حيث كانت بؤرة النشاط التجاري في القطر المصري كله، وكانت أرباح هذه البورصة تصب في جيوب الأجانب الذين كانوا يتربعون علي قمة التصدير والاستيراد، وبينما كان المصريون لا يملكون فيها إلا أعمال »العتالة»وحمل إنتاجمواطنيهممنالفلاحينعليأكتافهمفيخدمةالغرباءوالوافدين. أما البداية العملية لي فكانت حين سألت نفسي: لماذا لا أعمل بالتصدير مثل هؤلاء الأجانب الغرباء، وآمنت أنهم لم يحققوا مجدهم إلا بالعمل الجاد فلماذا لا يتحرك المصريون ويعملون مثلهم وينافسونهم ويحطمون احتكارهم؟ ثم تحولت الي تجارة الأقطان، فكانت المغامرة سلاحى وحققت خسارة فادحة أسعدت والدي بقدر ما أتعستني فقال لي والدي لا نجاح بلا مغامرة ولا مغامرة إلا بتوقع الخسارة! وبعد وفاة الوالد واصلت المشوار وحدي في تجارة القطن. .. ولماذا القطن! كان معيار تقدم الأمم وقتها بمدي قدرتها علي المنافسة في صناعة القطن، وقد لعب هذا المحصول منذ أدخل محمد علي زراعته دورا خطيرا في تعزيز مكانة مصر بين الأمم، وقد دعم هذه الصناعة الخديو إسماعيل، وقد حقق دافعا مهما لطموحاته الإصلاحية خاصة بعد الحرب الأهلية الأمريكية بين عامي 1963 و1964 وزيادة أسعاره، وحتي الحرب العالمية الأولي كان الأجانب هم الذين يهيمنون علي السوق ويحتكرون العمل ويحصدون الأرباح. واكتشفت الحقيقة من عبقري الشعر بيرم التونسي وهو يقول: لولا زمام مصر ما كانت مصانعهم ولولا فلاحينا ما كانت بضايعهم وإن كان ها تلعب بأسعارنا صوابعهم وعملت بنصيحته حين قال: .. واما سمسار واشنطن إن طلب قنطار فشعلق السعر في سابع سما إن طار لحد ما تروق وتطمن علي الأسعار واكتشفت أن مزراحي وقرداحي وهم من رجال المال اليهود والأجانب يملكون القطن عمليا، أما الفلاح المصري المنتج هو اليتيم الخاسر، ووتبوح ملفات »ملك القطن»عنأسرارها: كنت أول مصري يدخل مجال التصدير بحصة لا تتجاوز 25٪ وبعد 10 سنوات صارت حصتى 15٪ من جملة المحصول،واعتليت المركز الأول في قائمة المصدرين، كما كنت أول مصري يكسر احتكار الأجانب للمناصب القيادية حين انتخبت سنة 1935 وكيلا لبورصة »مينا البصل«، وكنت جديرا بلقب »بك« الذي منحني إياه الملك فؤاد بعد مقابلة عام 1941 وفي ظل وزارة حسين سري حصلت علي الباشوية، ورغم الرتبتين حرصت علي عدم الدخول في معترك السياسة لأن كارثة الكوارث هي الزواج بين السياسة والمال، ورفضت منصب وزير المالية في وزارة حسين سري وحسن صبري حتي قامت ثورة يوليو 1952، وبقدر رفضي الانخراط في السياسة كنت حريصا علي علاقات طيبة مع رؤساء الوزارات والوزراء لأنها ضرورة لتسيير العمل في الاتجاه الصحيح. كما أنني كنت معجبا شخصيا بفكر عضو مجلس قيادة الثورة خالد محيي الدين ولم أخف حيرتي من أمره وكيف انه هذا الرجل الارستقراطي اعتنق المبدأ الماركسي وأعجبني فيه تمسكه بالمبادئ حين قرر الانسحاب بعيدا عن بريق المناصب ولإيمانه بالديمقراطية. كما أنني أيدت الثورة خوفا من كابوس جماعة الإخوان المسلمين فإنني أنفر من أفكارهم ورؤاهم، وقد قلت ذلك لجمال عبدالناصر حين عاتبني: كيف لا أؤيد تغييرا يسعي الي تحقيق الأفضل؟ لأن البديل هو الإخوان، وهم رأسمالية فاشية بلا ليبرالية.. .. وما هي مواصفات رجل الأعمال الناجح؟ على رجل الأعمال الناجح ألا ينخدع بالمال ومع المال ومن أجل المال، وأن تكون ابتسامته مثل مصروفاته تخضع لحساب دقيق حين تضيق وتتسع! وأغلى نصيحة؟ سر نجاح رجل الأعمال في تحويل الموظفين معه الي شركاء! .. ثورة 23 يوليو فى كلمة مختصرة : كنا رأسمالية في دولة مستعمرة يحكمها ملك ليس من أبنائها أصبحت رأسماليا في دولة مستقلة تحكمها إرادة أبنائها، اليس الرأسمالي في وطن حر مستقل أفضل من نظيره في وطن مستعمر وتابع! وقد كانت ثورة يوليو أفضل البدائل الثلاثة وهي كانت محصورة في استمرار الحكم الملكي بتخبطه وفساده، أو قيام انقلاب أو حركة عسكرية أو سيطرة جماعة الإخوان المتطرفة علي السلطة، وهي بديل رجعي فاشي فوجدت أن الانقلاب العسكري هو الأفضل موضوعيا وعمليا. آسيا داغر روعة الفن.. وقوانين السوق المسئولية.. والمتعة! تفوقت على أقرانها فى اختيار توقيت الاعتزال إسلام «آسيا» انتصر على التنظيم القطبي
* قد يصل الكتاب المطبوع، والمقال المنشور في صحيفة أو مجلة إلي عدة آلاف من القراء، أما الرسالة التي يحملها فيلم سينمائي فتصل إلي عدة ملايين من مختلف الطوائف الاجتماعية دون تمييز بين غني وفقير، ومثقف وجاهل. وهنا تأتى المسئولية الاجتماعية السينما كصناعة وتجارة وتسويق وكسب وخسارة ، لكن السعي إلي الربح وحده لا يصنع فنا، إنما المعادلة المثالية جسدتها سيرة «رجل الأعمال « الفنانة آسيا داغر هى : روعةالفن،وقوانينالسوق. والذين يدرسون تاريخ هذه السيدة التى تفرغت لإنتاج أفلام السينما لنحو نصف قرن، ولم يقتصر دورها علي الإنتاج، بل احترفت التمثيل والتألق، وفي كل الأحوال ظلت الفنانة والمنتجة تقدم كل فكر جاد يحترم عقل المشاهد دون النظر إلي التكاليف. وقد تنوعت مضامين أعمالها ما بين الفلسفة الاشتراكية، ومناصرة الحق وقيم العدالة الاجتماعية، والدفاع عن النظام الرأسمالي ،في أعمال فكرية جادة ومحترمة لكبار الكتاب. فلا تحتاج ريادة مصر السينمائية إلي حديث مطول، فهي منذ بدايتها مع العروض الأجنبية والسينما الصامتة قبل ميلاد القرن العشرين حتي فترة الازدهار والقوة التي اقترنت بجيل كامل من الرواد والمؤسسين تحت مظلة مؤسس بنك مصر طلعت حرب، رائد النهضة الاقتصادية الوطنية، وتحولت السينما إلي أداة فاعلة في بنية الاقتصاد المصري. وكما يقول مصطفى بيومي مؤلف «رواد الاستثمار» كانت السينماهيالمصدرالثانيمنحيثالأهميةبعدالقطن،ومثلماهوالحالفيالمسرح والغناءوالصحافة والأدبوكلأدواتالقوةالناعمة، لم تميز مصر يوما بين أبنائها والوافدين من الأقطار الشقيقة. وقد أثير في بعض حقب الفتنة أن الوجود العربي في القاهرة يهدد الفن المصري، وكان الرد العملي من الذوق والضمير للمواطن المصري العادي الذي يستمع للفن الرفيع أناء الليل، وأطراف النهار أيا كان دون النظر إلي مصادره لبنانيين أم سوريين أم عراقييين أم سودانييون أم مغاربة. لكن لماذا كانت آسيا داغر نموذجا عبقريا لذوبان ما هو مصري فيما هو عربي؟ تجيب سيرتها:أنها حصلت علي الجنيسة المصرية قبل أن تستكمل الأوراق الرسمية، والإجراءات الروتينية بسنوات من خلال عشرات الأفلام، وعشرات القضايا المصرية الخالصة، أو عشرات النجوم الذين آمنوا بفكرها ووضعوها بموقع الريادة في قلوب المصريين، سر عبقرية آسيا داغر فى أنها لم تنشغل بالربح فقط في أعمالها التي جمعت بين الفكر والفن والاقتصاد، وأنفقت سنوات عمرها في صناعة البهجة، وهي حينما تعرضت أعمالها للخسارة كانت تصر علي أن في نجاح أعمالها فكريا وجماليا ما يعوض خسارة المال. ولدت آسيا داغر في قرية تنورين بلبنان قبل أيام من نهاية القرن ال 19، وهي ابنة أسعد داغر الذي سبقها إلي مصر وعمل صحفيا بال «الأهرام» قبل قدومها مع شقيقتها ماري، وابنة شقيقتها ماري كويني عام 1923. لم تقدم آسيا داغر أدوارا فذة كممثلة، فإنها تميزت بعد مشوار قصير من التمثيل عن مثيلاتها باختيارها الوقت المناسب لاعتزال التمثيل، بعد أن وصلت إلي اقتناع بأنها لن تستطيع أن تجمع بين التمثل والإنتاج. لكن ما هو سلاح هذه الفاتنة الرقيقة في عالم الأرقام الجاف فى الإنتاج والمال والأعمال؟ تجيب مذكراتها: إنها الإرادة والإصرار برغم الخسارة، فالفيلم الأول لها، وهو السابع في تاريخ السينما المصرية، وهو فيلم «غادة الصحراء» قدرت تكاليفه ب 300 جنيه، وعند تسلم الفيلم من محال كوداك اكتشفت أن تكاليفه زادت علي الألف جنيه.. ! مما عرضها لمحنة غير مسبوقة، وقد استفادت منها في فيلمها» وخز الضمير»، واستطاعت أن تحقق نجاحا ملموسا وكرمتها الدولة المصرية بمنحها الجنسية تقديرا لأعمالها، واشترت وزارة المعارف نسخة من الفيلم مقابل 160 جنيها عام 1931. وعبر 40 سنة توالت النجاحات حتي السبعينات من القرن العشرين عندما أنتجت آخر أفلامها »أوهام الحب» عام 1970. وظلت آسيا طوال حياتها ترحب بإنتاج أفكار جادة محترمة حتي ولو اختلفت مع أفكارها الشخصية، المهم أن تقدم عملا يساعد في التنوير الفكري، وتجسد ذلك في «يوميات نائب في الأرياف» لتوفيق الحكيم، الذي تعرض لقضايا الريف المصري في الثلاثينيات من القرن الماضى مثل الفقر، وغياب القانون، وهزال السلطة المحلية، وتسلط الشرطة، وتدهور الخدمات، وهو ما مهد لثورة 23 يوليو .1952 ثم يأتي فيلم «الناصر صلاح الدين» الذي قدمت به المنتجة المسيحية الكبيرة أقوي أفلام الدفاع عن الإسلام في مواجهة الغرب المسيحي لتخرس ألسنة المتاجرين بالدين وبالصليب، وهي الحجة التي كان يتذرع بها الاستعمار المسيحى القادم من الغرب منذ الحملات الصليبية الأولي. وحتى الحرب الصليبية الأخيرة التى شنها بوش الابن على افغانستان والعراق وليبيا تحت شعار محاربة الأرهاب وحتمية صراع الحضارات. وكشف الفيلم عن الجوانب الإنسانية في شخصية القائد المسلم الكردي الأصل صلاح الدين، وما يتمتع به من مهارة سياسية، وبراعة دبلوماسية، وحنكة وحس إنساني رفيع كما قدم قصة حب فتاة صليبية متطرفة متعصبة سرعان ما تقع في غرام فارس عربى «عيسي العوام»،وينتصر الفيلم بفكرة التعايش والاندماج بين الحضارات قبل صدام الحضارات .. وبرغم نجاح فيلم الناصر صلاح الدين ، الذي مازال من العلامات الخالدة من المنظور الفكري والفني، فإنه لم يكن كذلك بالمنظور الاقتصادي، فقد خرجت منه آسيا مدينة بمبلغ 65 ألف جنيه، وتكلف إنتاجه 200 ألف جنيه، لكن ما يعوض الخسائر المتلاحقة هو القيمة الفنية المحترمة، والقضية السياسية النبيلة، والروح التى تضع الوطن فوق المذاهب والمعتقدات، والدعوة للسلام القائم علي العدل، وغرس شعور الكرامة والثقة بالنفس في مرحلة البناء الذهبية، للرد علي دعوات تكفير المجتمع التي تبناها الجناح القطبى لجماعة الإخوان الإرهابية في الستينيات وما أدراك ما الستينيات! امبراطور الأتوبيس باب الملايين لايفتحه الأغبياء * بعد تقدم شهورالحمل استأذنت الأم من زوجها وهو أحد رجال أعيان مدينة إسنا أن تعود الي السودان لتضع مولودها الأول لتكون بعد الولادة في رعاية أهلها المقيمين في أم درمان حين كانت المدينتان فى بلد واحد ! وكان للأم ما أرادت، وعاش طفلها سنواته الأولي بين الكتاتيب والمدارس الأولية، فى السودان وقنا قبل أن تنتقل به الأم الي القاهرة ليلحقه والده بالمدرسة السعيدية الثانوية ليكتسب شخصيته العسكرية الجادة وتظهر مواهبه كحارس المرمي الأول بالمدرسة ولاعب التنس ذي الشخصية الاجتماعية المرحة المحبوبة بين زملائه. ويواصل الشاب مشوار اغترابه في القاهرة ،ويلتحق بكلية التجارة، ويمارس العمل الحر ليعول نفسه ،وبعد تخرجه ساعده الحظ بفرصة للعمل في بنك مصر واستطاع أن يوفر 34جنيها بعد جهد جهيد اشتري بها آلة كاتبة ومكتباً وطوابع بريد وعين موظفاً ليعاونه علي الأعمال الحسابية بمرتب خمسة جنيهات في الشهر! وهكذا شق عبداللطيف أبورجيلة طريقه نحو لقمة العيش المستقلة، متأملاً ومستفيداً من تجربة صاحب بنك مصر طلعت حرب باشا، ثم سافر في منحة من البنك لتأهيل العاملين الي لندن ، فاكتسب الثقة والخبرة العملية، عاد بعدها ليقدم استقالته من الوظيفة ويبدأ نشاطه المستقل في التصدير والاستيراد، لينافس الأجانب في هذه الوظيفة الجديدة علي المصريين. وصارت ال34جنيها الأولي التى وفرتها بجرأة في حياتى يقول أبو رجيلة فى أوراقه كالحبة التي أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، كانت السنة الأولي كفاحاً والسنة الثانية نجاحا ،وبعد ثلاث سنوات اتجهت سفينة العمل الي بر الأمان، وصار رأس المال بالملايين، وفي غمرة الفرح بالنجاح والمال اندلعت الحرب العالمية الثانية فضاع كل شيء في غارات طيران الحلفاء علي الموانئ الايطالية التي كانت فيها كل بضائعي فتحولت من نجاح وصعود الي إفلاس وهبوط حتي صرت علي الحديدة! ولم أغادر إيطاليا رغم أهوال الحرب. واقترنت فيها بزوجتي لندا ،وهي صعيدية من» كالاباريا» جنوبايطاليا كما أنا صعيدي من إسنا المصرية وعشت حياة جميلة وسعيدة داخل البيت، ولم أكن أصحب زوجتي الي السينما الا كل ثلاثة أشهر .. ندخل في منتصف الفيلم وأتركها وأخرج قبل نهايته وأثناء جلوسي في السينما أفكر في برنامج عملي في الغد!! أصبح لي نشاط تجاري واسع وثروة طائلة قبل أن أعود الي القاهرة بعد غياب طويل عام 1949 واشتريت قطعة أرض وسط القاهرة ،ومزرعة 400 فدان في منطقة عين شمس، وتوسع عملي بين التجارة في الحاصلات والحبوب الزراعية وصناعة الخزف والصيني وتيل الفرامل وأسست شركة القاهرة للتأمين، كما شاركت في توريد الأسلحة للجيش المصري بين عامي 1948و 1952 كما شاركت في إمداد مصر بالأسمنت اللازم لإعادة تعمير مدينة بورسعيد بعد العدوان الثلاثي عام 1956 ومنحني عشق العمل الزراعي واستصلاح الأراضي فرصة لتصدير المانجو والموالح إلي الأسواق الأوروبية. وهكذا... صار أبورجيلة واحدا من أنجب تلاميذ طلعت حرب الذين قادوا سفينة العمل الوطني المسكون بالروح المصرية والرغبة الصادقة في اقتحام كل جديد في مجالات شتي، فالنجاح المهنى أن تعمل وتفكر في النجاح وتكون شجاعا وذكيا فإن باب الملايين لايفتحه الأغبياء! وكيف كان الانتقال من التجارة إلى النقل ؟ تعرضت الشركات الأجنبية لخسارة وفشل ذريع بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد ثورة 23يوليو 1952 كان رجل الساعة القادر علي تمصير هذه الصناعة هو عبداللطيف أبورجيلة يقول: استدعاني عبداللطيف البغدادي وزير الشئون البلدية لإنقاذ شبكة النقل من الفشل والتخبط والاضطراب وسوء الإدارة، ومن منطلق المصلحة الوطنية وافقت علي تحمل المسئولية بعد فشل جهات عديدة في النهوض بها مثل أحمد عبود وبنك مصر وشركة ترام القاهرة، ووافقت بلا أي شروط بعد أن دفعت أجور العمال المتأخرة و50ألف جنيه مستحقة للبلدية من «النظام السابق». وخلال عامين من الإدارة المنضبطة، اشترى أبورجيلة أحدث ماركات الأتوبيس العالمية من إيطاليا وألمانيا وفرنسا ، وبني جراجات علي أحدث مستوي في القاهرة والجيزة، وأسس مصنعين لليات وتيل الفرامل، وصار لدي مصر 400 أتوبيس ،تقدم خدماتها بكفاءة غير مسبوقة ،وبمواعيد يضرب بها المثل في الانضباط والاحترام لوقت الراكب وقيمته في المجتمع، وبعد أن كانت المدنية في مصر تسير بسرعة الحمار وعربة السوارس صار يضرب المثل فيها بالسرعة والدقة التي تتميز بها اتوبيسات أبورجيلة التي نقلت المواطن المصري من عصر إلي عصر، فقد آمن أبورجيلة أن التقدم الحقيقي للبلد يقاس بكفاءة المواصلات ،وحالة الطرق ،وسيارة الأتوبيس هي أول رسالة يتلقاها من المواطن العادي من الدولة بعد الخروج من بيته ، وهي جزء من نسيج الحياة اليومية ومن حقه أن يقضي الوقت فيها راضيا مستمتعا بالمعاملة الطيبة والجو المريح... والأهم أن يتم ذلك بانتظام، وكان مسموحا لسيارات أبورجيلة بالتأخير دقيقة واحدة ثم يكون التحقيق لمعرفة الأسباب ولامعني للحديث عن الحوافز والمكافآت دون حديث مماثل عن العقوبات توقع علي المهملين والمقصرين. وبعد التأميم سافر أبورجيلة الي إيطاليا ثم أقام مشروعا ناجحا للنقل في الخرطوم ، وبعد عودته في السبعينيات كانت وصيته لإنجاح هيئة النقل العام وحركة النقل في القاهرة تتلخص في خطوتين. الخطوة الأولى : تخليص المرفق من الرشاوي والسرقات والإهمال والتسيب والثانية: البدء في تنفيذ مشروع مترو الأنفاق الذي سبق أن نادي به عام 1957 حين كانت تكلفته لاتزيد علي ستة ملايين جنيه. ويذهب أبورجيلة وتبقي نصائحه التى تحتاجها اليوم ،أن الوظيفة والمسئولية الاجتماعية لرجل الأعمال أهم مما يملكون من أموال ذلك أنها تذكرهم دائما بأنهم أحرار من ديكتاتورية المال ولايعيشون في جزيرة خاوية من البشر! سيد ياسين عاشق النجاح وفكرة العمل كسبت معارك الأتوبيس فصرت ملك الزجاج! روشتة النجاح: مشروعات النفع العام وإبداعات طلعت حرب! * عاش محمد سيد ياسين كما يقول مؤلف «رواد الاستثمار» مصطفي بيومي حياة حافلة بالبناء والعطاء للاقتصاد الوطني، أدخل صناعة نادرة، وأنتج ما يكفي السوق المحلية ويفيض للتصدير، ووفر فرص عمل، وصنع كفاءات وخبرات بلا فساد أو احتكار، وقبل كل ذلك كان مخلصا لقيمة «العمل»،ومنصفالمنيعملون. البداية رواها سيد ياسين بنفسه: تفتحت عيناي فوجدت والدي سيد بك محمد ياسين يمارس الأعمال الحرة في تقوية وتكسية جسور النيل، ويدير «رفاصات» لنقل الركاب والمحاصيل بالمراكب الشراعية. كيف كانت البداية؟ حين هبطت المحروسة في شتاء عام 1921، وكانت الشوارع قد تحولت لكتل طينية، وكنت أحمل حقيبة ثقيلة لدي خروجي من محطة القطار، كانت عربات الترام متوقفة بسبب إضراب عمال النقل. واستأجرت عربة «حنطور» طلب مني الحوزي سبعة أضعاف الثمن، سألته عن السبب فأشار إلى الطين والوحل والإضراب، دفعت النقود صاغرا وأنا أتألم لحال المارة والمساكين والفقراء الذين كانوا ينتظرون أو يمشون حفاة علي الجانبين لضيق ذات اليد، أمام هذا الاستغلال والابتزاز سألت نفسي: لماذا لا تجرب وسيلة أخري من المواصلات في القاهرة للقضاء علي احتكار أصحاب الحناطير، واستغلال عمال الترام الذين اختاروا الإضراب في يوم مطير! وكانت الوسيلة التي فكرت فيها هي عربتي لوري توجهت بأوراقهما إلي قلم المرور بمحافظة «مصر» للترخيص لهما كوسيلة نقل، وهناك فوجئت بأن الأجانب المسيطرين علي منح التراخيص يتعنتون ويرفضون ويتفننون في إبداء أسباب الرفض، قال لي الضابط الإنجليزي حامل أختام التراخيص ساخرا: كيف «تولف» لوري اخترع لنقل الدبش ليصبح أتوبيسا صالحا لنقل البشر بمجرد وضع عدة كراسي فيه، ثم أسند ظهره للمقعد ووضع ساقا فوق ساق وشرح:مطلوب أولا أن تحول «مدقات» السير إلي شوارع تتحمل «ثقل» اختراعك الجديد لنقل الناس! وكان عليّ أن أخوض معركة ثانية لأثبت لرجل الروتين الإنجليزي أن الأتوبيس الجديد صار أخف وزنا من اللوري الإنجليزي، بعد تخليصه من كتل وعدد حديدية ضخمة لوضع كراسي خشبية صنعت فى مصر مكانها. وكانت هذه أول معركة «وطنية» أخوضها قبل أن يتحول الأتوبيس الواحد إلي اثنين وثلاثة وعشرة، ثم تخلصنا من الضابط الإنجليزي المتعنت وصار المرفق كله تديره عناصر مصرية! ووصل عدد اللوريات التي كنت أستخدمها في نقل الدبش والحجارة من جبل المقطم لتكسية شاطئ النيل، إلي 22 أتوبيسا، خرجت من جراجاتها و سارت في شوارع القاهرة تبحث عن الركاب، لكني اكتشفت أن الناس لا يركبونها، فقد سرت شائعة أنها عالية السرعة وكانت تسير بسرعة لا تزيد عن 20 كيلو فى الساعة وأن سرعتها تعرض حياة الركاب للخطر بعد أن اعتادوا ركوب الدواب والحناطير والترام البطيء، ومضت 44 يوما لا يقبل علي ركوبها إلا المغامرون و المضطرون أو الراغبون في الانتحار، واقترح البعض أن نقلل عددها مادام الناس لا يركبون، لكنى حرصت علي استمرار سيرها في مواعيدها فارغة بالشوارع ، حتي يتعود علي حركتها الناس، وبلغت خسارتي آلاف الجنيهات، وكانت هذه معركتي الثانية التي انتصرت فيها أيضا علي سمعة الأتوبيسات في أذهان المصريين وبعد مرحلة التعود هجم الجمهور علي الأتوبيسات بعد ذلكو جاءت الثقة وجاء معها الرزق! وأعقبت ذلك أرباح طائلة، وتوسع وتحسين، وزغلل الاختراع الجدى اللورى المولف في عيون الحكومة فقررت أن تبيع رخص الأتوبيس وتمنحها لشركة إنجليزية، وتوقفت الشركة بضعة أيام، تمكنت خلالها من رفع قضية تعويض علي الحكومة، وخيروني بين الحصول علي تعويض فوري 16 ألف جنيه، أو أنتظر لأحصل على تعويض قدره مائة وخمسين ألفا بعد عشر سنوات، ففضلت المبلغ العاجل. وكانت هذه معركتي الرابعة التي كسبتها أيضا حين قررت الحصول علي التعويض العاجل الصغير لأبدأ علي الفور بناء مشروع مصنع للزجاج! لكن هدفي لم يتغير في أن أختار المشروعات التي لا أقصد من ورائها الربح الشخصي، بل التي تحقق النفع العام، ولم يسبقن إليها أحد، وكان ذلك في بداية الثلاثينيات! لكن.. كيف بدأت مرحلة الزجاج؟ وبرغم أن صناعة الزجاج كانت مزدهرة عند المصريين القدماء الذين نقلوها عن الفرس، ثم سرقها الرومانيون عندما احتلوا الإسكندرية، ثم انتقلت إلي الدولة البيزنطية، وتزينت شوارع القاهرة بالثريات والمصابيح، كما انتشرت في الجوامع والنوافذ بعد الفتح العربي، ثم توقفت هذه الصناعة تماما منذ القرن الرابع عشر الميلادي وانتقلت إلي أوروبا، حتي شهد عصر محمد علي بعض محاولات الإحياء التي لم يكتب لها النجاح، وعندما جاء الاحتلال الإنجليزي كان المناخ الاقتصادي والاجتماعي الذي أشاعوه لا يشجع علي أي جهود للنهضة في هذا المجال، وقد كانت هذه سياسة مقصودة افتخر بها اللورد كرومر في تقرير له من القاهرة حين كتب مفاخرا لحكومته «لقد اختفت الصناعات المصرية من الأسواق ولم يعد موجودا إلا السلع الأجنبية»! وعندما قرر محمد سيد ياسين أن يخوض مغامرته الجديدة كان متسلحا بخبرات وتجارب سابقة من المغامرات في مجال التجارة والحبوب والنقل، وكانت قناعاته أن هذه الصناعة تحتاج إلي رأس المال والعلم والخبرة، ثم الإدارة الواعية. بدأت بمصنع صغير لإنتاج زجاج لمبة الجاز التي لا غني عنها في الريف، استمرت المحاولات ثلاث سنوات، كنت أتكبد خسائر جسيمة لضعف الإنتاج، وتلف الخامات، وجهل العمال، ولولا دعم وتشجيع رائد الاقتصاد محمد طلعت حرب ما اختصرنا وقتا طويلا في تطوير هذه الصناعة وتحمل الخسائر، فقد طلبت سلفة من بنك مصر 80 ألف جنيه رفضت الإدارة طلبي في البداية، إلي أن وصل الأمر إلي يد طلعت حرب فلم يكتف بالموافقة علي السلفة بل استمر في مراقبة المشروع ومتابعته وتشجيعه. وهكذا تطور المشروع وأنشأ سيد ياسين أول مصنع للزجاج المسطح في الشرق الأوسط، ولم تتوقف طموحاته فانطلق لبناء مصنع جديد يعتمد علي أحدث تقنيات صناعة الزجاج في العالم، وزار مصانع الزجاج في ألمانيا واستعان بعمال مدربين من التشيك حتي تجاوز مرحلة الخسائر إلي مرحلة الانطلاق والإنتاج الضخم الذي تألقت فيه هذه الصناعة المصرية الخالصة وارتبطت باسم سيد ياسين عند انطلاقها إلي الآفاق العالمية.
من أين لك هذا .. يا سيد جلال؟ ارفع راسك فوق.. أنت عتال! المكان: قرية «بني عدي» التابعة لمديرية أسيوط، أفقر مديريات القطر المصري، الزمان: العام الأول من القرن العشرين ، البطل: طفل فى الخامسة تفتحت عيناه وهو فى الخامسة بلا أم ولا أب . البداية: يتحايل الطفل الصغير على الرزق بالعمل أجيرا في الحقول وحمالا للحبوب قبل أن تفتح له إحدي المراكب النيلية أشرعتها،وتحمله إلى النداهة قرر الطفل سيد البقاء حمالا في مخبز بمنطقة العدوية ببولاق، مقابل وعد بأجر يوم يقدره خمسة عشر مليما، وبعد شهر ونصف الشهر من الشقاء وحمل الأثقال يقرر إعطاء ظهره للقاهرة،لان صاحب المخبز خصم من أجره الشهري ثمانية عشر قرشا دون سبب أوجريرة، ويسافرالي بورسعيد ليعمل ساعيا في إحدي شركات الغلال ينقل الأوراق بين الموظفين، واكتشف أنه لايفهم لغة معظم الزبائن البورسعيدية والأجانب، فيقرر تعلم الحروف والكتابة والقراءة ولغة التجارة وأكل العيش التى تفتح أبواب الرزق، علم نفسه بنفسه وحفظ القرآن الكريم، بعد سنوات قلائل صار سيد جلال»أبوالعبد» واحدا من أهلها، حين اتقن الي جانب القراءة والكتابة والحديث باللغات العربية والانجليزية والفرنسية واليونانية والايطالية والأرمينية! وأصبح الساعي البسيط وكيلا لصاحب الشركة اليوناني طبقال«شريعة»المدينة العالمية التى لاتعطى ثقتها إلا لمن يفهم لغة التجارة ويجمع بين الأمانة وصدق النية والشطارة. ومثل كل قصص النجاح البديهية لخريجي مدرسة طلعت حرب الوطنية، يقرر سيد جلال ترك الوظيفة التابعة ويصبح سيد نفسه وقراره ويخوض غمار العمل الحر المستقل في التصدير والاستيراد واستصلاح الأراضي وتشييد المصانع ذات النفع العام، فكانت النتيجة إنجازا يشبه المعجزات! عاد الي القاهرة بعد اغتراب ربع قرن منتصرا هذه المرة، وسكن حي بابا لشعرية واشتري شركة الصناعات المتحدة للأدوية، وصار من أصحاب الأعمال ،وامتد نشاطه لاستصلاح الأراضي في أشمون وأصبح صاحب مزرعة كبيرة لإنتاج الموز والبطيخ، وقام بجولة في أمريكا وأوروبا ليتعرف علي أحدث الاختراعات في مجال الجيلاتينو الغراء والكرتون، وعندما هبت رياح التأميم بعد ثورة يوليو لم ينشغل بحجم الشركات التى أممت، لكنه راهن علي قيمة العطاء والعمل والعامل الذين كانوا أبرز ملامح وإنجازات هذه الثورة. وهكذا.. أعطت قصة نجاح سيد جلال معني جديدا للارادة والحلم والصلابة وصار بفضله وأمثاله العمل في الحقول شرف والعتالة مجد والمخبز مدرسة والسعاة يقومون بخدمات جليلة، أعطي ظهره لليتم والفقر والقي بحمله فوق ظهر مركب شراعي وسافر مع النيل فصار من أشهر المصدرين والمستوردين، وصار خبيرا بالمحاكم المختلطة ومعبود اللجماهير في دائرة باب الشعرية . كان في مكتبه بإحدي شركاته حين دخل عليه موظف يعرض مشكلة في العمل بخجل وضعف وإمعان في المسكنة، فجأة صرخ فيه سيد جلال بعصبية: ما هذا.. إنك تبدو وكأنك عبد ذليل أمام سيد متجبر متكبر.. ارفع قامتك بكرامة واجعل رأسك في السماء، واعلم أني لست خالقك، عندما كنت في مثل سنك كنت من السعاة ولكن اذا خاطبت مدير الشركة وقفت أمامه كما لو كنت مديرا عاما مثله! ............................. واذا كان مشوار حياة سيد جلال تجسيد لانتصار الإرادة والحلم والصلابة، فإن مشواره السياسي الحافل ، اختصره في هذه الرسالة التي كتبها ونشرتها مجلة «الجديد» في مارس 1953 أي بعد شهور من اندلاع ثورة 23 يوليو، وهي نصيحة الي الرئيس محمد نجيبو يحدد الضروريات التي يجب أن تهتم بها الثورة، في : برلمان من نوع جديد، لا تضيع فيه حقوق الشعب تحت أقدام النواب، والدعوة الي التصنيع وتقوية الجيش فلا أمل في تقدم بلا تنمية اقتصادية ولا ضمان لأي صناعة وتقدم إلا بوجود جيش قوي، أما الضرورة الثالثة فهي التحريض علي العمل بلا كلل أو تكاسل ولا جدوي من تدليل الشعب بالشعارات البراقة، كما طالب سيد جلال فى رسالته إلى الرئيس بمكاتب لتسجيل أسماء العاطلين تمهيدا لإلحاقهم بأي عمل ولو كانت جمع الأوراق الضالة! أما الضرورة الرابعة فكانت اللامركزية في التعليم الجامعى وطالب بضرورة، نقلها من القاهرة الي الأقاليم والأرياف! وفي النهاية يعطى سيد جلال للرئيس الأمل في أن الإصلاح يمكن دون التورط في خصومات قصيرة النظر! ............................. * وأخيرا.. التقت أهداف كل الوطنيين المصريين من رجال المال والاقتصاد والسياسة بما وضعه هدفا له سيد جلال منذ أول دورة برلمانية شارك فيها عام 1945 1950 حتي نهاية مشوار حياته، حول الدعوة لسن خمسة قوانين الأول : يحاسب الفاسدين «من أين لك هذا»، ..والثانى : عدم تملك الأجانب للأراضي المصرية، ..والقانون الثالث: ومحاربة استغلال النفوذ ومحاكمة الوزراء، أما القانون الرابع فكان هدفه خفض الإيجارات الزراعية والضريبة التصاعدية على الدخل العام للأغنياء! ومن العجيب أن هذه المبادئ التي أثارها تحت قبة البرلمان قبل سبعين سنة ظلت سببا وحلما لكل موجات مصر الثورية، وظل الاقتراب أو الابتعاد عنها معيارا لصدق نية الأنظمة فى الحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية حتى الموجة الثورية الأخيرة في 25 يناير و30 يونيو..!