يشهد الله على فرط حبى الكبير له، وإعجابى البالغ، وتقديرى العميق، وتبجيلى بلا حدود، وانبهارى الدائم، وتمجيدى المقيم لأستاذى الأديب الكبير نجيب محفوظ الذى قال يوماً بصوته العميق المميز فى حوار مسجل مع الكاتب الزميل محمد سلماوى الذى قام مشكورًا بإهدائى شريط التسجيل : «ملاليم الست سناء ولا جميع ملايين العرب».. وبالفعل كانت لا تتعدى الملاليم فهى أربعمائة جنيه شهريًا فقط لا غير فى مقابل القصص الطويلة والقصيرة، أو التى أطلق عليها اسم «أحلام فترة النقاهة» وكان يرسلها لنا فى توقيت محدد كالساعة على يد سكرتيره الحاج صبرى فى مظروف حكومى كبير مذيلا بتحياته وإمضائه العالمي، وتلك الأحلام الأخيرة كان عددها لا يقل عن ثمانية أحلام شهريًا إن لم تزد تبعاً لتجليات صاحب نوبل الرمزية، وبالفعل جاءته عروض تمثل ثروات ضخمة بالريالات والدراهم والدنانير من أشقائنا العرب لنشر إبداعاته تلك فى مجلاتهم وصحفهم لكنه كان نجيب الملتزم بكلمته.. الصادق فى وعده.. ابن البلد الشهم الذى لا يترك الميدان أو المعترك.. الذى لا يتركنا ولايا ويروح لغيرنا.. الذى يكمل معنا المشوار مهما لمعت مرايا وتلألأت هدايا وفُرشت الأرض بالزبرجد والطيلسان.. قالها وصدق الأديب.. كل ما أكتبه سأرسله لك بشرط واحد وهو ألا يعاد نشره فى كتاب خاص فقد وعدت ناشرى الأوحد بحقوق نشر جميع أعمالى.. وتعهدت لكبير الكتابة بالالتزام، وبقيت على عهدى، وإن داعبنى أمل منحنا شرف إصدار كتاب عن أعماله فى «نصف الدنيا» ولكن ضاع الأمل بعدما طلب الأستاذ إبراهيم المعلم جمع أحلامه المنشورة على صفحاتنا لإصدارها فى كتاب يصدر من دار الشروق وكانت قد بلغت 146 حلماً بخط يده قبل أن تُرْهق اليد تماماً فيمليها على سكرتيره، وإن كنت بعدها قد اقترحت عليه أن يكتب كلمتين فقط بأصابعه مع بداية كل حلم حتى يحمل العمل نوعاً من الحميمية، فقبل الأستاذ اقتراحى.. قدم إبراهيم المعلم عرضه للكاتب الكبير الذى اشترط كما يمليه ضميره أمام جميع الحاضرين فى صالون منزله بمناسبة عيد ميلاده وعلى رأسهم الأستاذ محمد حسنين هيكل ألا يتم ذلك إلا بعد كتابة اسم سناء البيسى على الغلاف كإعداد وتقديم، وأن يعهد إليها أيضاً بكتابة المقدمة، وهذا ما تم بالفعل فى عام 2005 دون مقابل وإن كان قد طبع من الكتاب طبعتين، الأولى منهما قد غُفل فيها وضع اسمى عليها كشرط لصاحب الأحلام، والثانية تداركت الخطأ ونفذت الشرط فظهر غلافها يحمل الاسم كمعدة ومقدمة، وكان مصمم الطبعتين الأستاذ سيف سلماوى نجل الكاتب الكبير محمد سلماوى الذى قام بترجمة الأحلام إلى الفرنسية لتنشر فى باريس سابقة على الطبعة العربية كما جاء فى كتابه الأخير «نجيب محفوظ المحطة الأخيرة» الصادر عن دار الشروق أيضاً ولم يرسل لىّ الأستاذ سلماوى من الطبعة الفرنسية نسخة واحدة كهدية ربما ظناً منه أننى لا أعرف الفرنسية!! وفجأة وبينما يأتينى كشف المكافآت الهزيلة ويرحل من تحت يدى لمشواره المقفر إلى الخزينة تبعاً لميزانية نصف الدنيا الشحيحة حيث كان الزملاء يفضلون توزيع منحة عيد ميلاد المجلة المتواضعة عليهم كل عام بدلا من تبديدها سدى فى حفل دعائى لسنا فى حاجة إليه شعرت بإحباط شديد، وعصرنى خجل لا مثيل له من مبلغ مكافأة الكاتب العملاق نجيب محفوظ التى يقبلها منا بمروءة وتسامح بالغين، ولم ينقذنى من معاناتى سوى موافقة المسئولين على تصحيح الخطأ بشكل من الأشكال السريعة، وقفزت فى ذهنى صورة السيدة الجليلة «عطية الله» زوجة الأديب الكبير ووالدة كريمتيه أم كلثوم وفاطمة، وكيف كانت خير معين للزوج فى رحلته مع الكتابة، فوجدتها فرصة سانحة لتكريمها فى عيد ميلاده الذى يطرق الأبواب، مما سيدخل ولابد سعادة إلى قلب الزوج الذى قال عنها: «إن كان لأحد فضل فى المكانة التى وصلت إليها بعد الله سبحانه وتعالى فهى زوجتى عطية الله التى كانت بالفعل عطية من الله سبحانه وتعالى لىّ».. وذهبت أطرق بابها أحمل إليها هدية نصف الدنيا تعبيرًا عن اعترافنا واعتراف مصر كلها بجميلها علينا، فهى الزوجة التى تفهمت طبيعة حياة الكاتب ونظامه، وتعايشت مع ذلك النظام، حريصة على توفير الإطار الذى يمكنه من الكتابة، باذلة كل طاقتها كى تبعده عن كل ما يعطله ويشغل فكره فأعطانا أدباً راسخاً كان جديرًا بجائزة نوبل.. ومازلت أذكر أحاديثى الطويلة مع الكاتب الساخر محمد عفيفى مارك توين مصر الذى زاملنى فى حجرة واحدة بالدور الأول فى مبنى أخبار اليوم لسنوات طويلة قبل انتقالى للعمل بالأهرام عام 1964، وكان أحد أفراد شلة الحرافيش الرئيسيين حول نجيب محفوظ مع أحمد مظهر والأديب عادل كامل والمخرج توفيق صالح والدكتور يحيى الرخاوى.. الشلة التى تجتمع كل خميس فى حديقة منزل عفيفى بالهرم أو فى صالون نجيب، ومن خلال صباحيات سهرة الحرافيش عندما يأتى عفيفى إلى مكتبنا فى أخبار اليوم عرفت منه الكثير من دقائق حياة نجيب محفوظ، حتى إننى عندما لاقيته للمرة الأولى فى مكتبه بالأهرام، وكان عفيفى قد حدثه عنى، شعرت بسقوط حاجز الاغتراب بيننا، واعترفت له بأننى كثيرًا ما ألححت على «عفيفى» للانضمام لسهرتهم ولو مرة واحدة، لكنه كان دائماً يخرس تطلعى بقوله القاطع: «ممنوع منعاً باتاً اصطحاب جنسكم للسهرة الرجالى».. فأجابنى نجيب محفوظ بجملة لا أنساها بدايتها «غلطان».. وبعدها: «كانت هناك الكثيرات اللاتى يحضرن ومنهن الكاتبة حُسن شاه وقد كتبت عن بعضهن خاصة فى رواية «ثرثرة على النيل».. وإذا ما كنت قد مكثت طويلا على شاطئ نجيب محفوظ فإننى بعدما قررت النزول إلى مجرى النهر الواسع واقتربت من المنهل العذب حتى شاركنى بروائعه فى العبور ب«نصف الدنيا» لشاطئ النجاح منذ عددها الأول ليقترن اسمها به كأبرز مقومات نجاحها، إلى جانب باقة القمة الأدبية: الدكتور يوسف إدريس والأساتذة أحمد بهاء الدين وخيرى شلبى وإدوارد الخراط ووديع فلسطين، وفى تلك الأيام المزهرة ظل الكاتب والصديق جمال الغيطانى شفاه الله وعافاه يحسدنى علانية ووجهاً لوجه لأن أستاذه الروحى نجيب محفوظ لا يقبل مطلقاً نشر سطر واحد من أعماله فى جريدته الأسبوعية «أخبار الأدب» بعدما وعد شخصى الضعيف بإبداعاته جميعاً.. وكنت حريصة على أن تكون هناك ريشة خاصة تصاحب قلم محفوظ باللوحة على صفحات المجلة، فكانت أولا للفنان المبدع عنانى وبعدها صاحبته ريشة الفنان المتفرد محمد حجى مع جميع أحلامه ليتعانق الفن والأدب فى أسلوبهما الرمزى والسريالى فى لقاء غذاء الروح حيث أقام حجى بعدها فى دار الأوبرا معرضاً خاصاً للوحاته المرافقة للأحلام وأحلام فترة النقاهة تلك كان يكتبها صاحبنا بعد إصابته بخط غير واضح لا يستطيع غيرى بعد تدريب طويل فك طلاسمه، وكثيرًا ما كنت فى البداية ألجأ إليه شخصياً لأستجلى منه حقيقة بعض الكلمات، إلا أنه كان يلقى الكرة من جديد فى ملعبى طالباً منى تليفونياً إعادة كتابة الكلمة المنغلقة كما أتخيلها وأتوقعها «وكنت استشعر حرجاً بالغاً فهو الذى قال: (لا أحد على وجه الإطلاق يقرؤنى قبل النشر، بل منى إلى المطبعة مباشرة، لا الزوجة ولا ابنتاى ولا أصدقائى، ولا أحب أن أطلع أحدًا على ما أكتبه قبل النشر)».... ولا أنسى أبدًا إشراقته الكبرى عندما زف لى فى أول فبراير 1999 وهو ابن الثمانين، وقد أضاع كراسة فلسفته فى الحياة، خبر كتابته سيرته الذاتية بأشهر الأغانى التى سمعها من الطفولة إلى الشيخوخة مرورًا بالمراهقة، فهتفت فرحاً واعدة إيّاه بأن تأخذ أغانيه تلك شهرة الأغانى للأصفهانى، وأننا سنعلن عنها فى الصفحة الأولى بالأهرام، وقمنا بنشرها بخط يده مع إعادة كتابتها بجوارها بحروف المطبعة فى عدد خاص بالمجلة لأهميتها التى تمثل أنها المرة الأولى والأخيرة التى يؤكد فيها نجيب محفوظ بقلمه وخطه إنها سيرة ذاتية كما دونتها الأغانى التى تمثل الدندنات والألحان التى صاحبت وتغلغلت وسكنت مشوار حياة الأديب المصرى العالمى فى الطفولة والمراهقة والحب والطريق ونحو السماء والشيخوخة.. وهى إذا ما كانت تؤرخ لحياة الكاتب فإنها بالتالى تؤرخ أيضاً لتطور فن الأغنية منذ سمعها لأول مرة تطرق أذنه «نام وأنا أجيب لك جوز حمام» إلى عصفورى يمه عصفورى لألعب وأوريله أمورى التوت التوت شرباته.. حلاوة التوت يا حلاوة .. .. .. يا بلح زغلول.. يا حليوة يا بلح ياعم حمزة.. احنا التلامذة مايهمناش فى القلعة نبات ولا المحافظة «الطريق» أنا المصرى كريم العنصرين .. .. .. نصيبك فى الحياة لازم يصيبك .. .. .. واللى انكتب ع الجبين لازم تشوفه العين .. .. .. من بعد تلاتاشر سنة ارتحت بعد التعب «نحو السماء» سلوا قلبى غداة سلا وتابا.. بربك يا من جهلت الغراما يا نسيم الصبا تحمل سلامى.. أدر ذكرى من أهوى ولو بملامى رأيت الهلال ووجه الحبيب.. يا آل مصر هنيئا فالحسين لكم أهلا ببدر أتم روح الجمال.. مولاى كتبت رحمة الناس عليك ويظل أبدًا صوت أم كلثوم يسكن نجيب محفوظ لنعرف منه أواصر تلك الصلة الفنية: «كنت فى الماضى حين أصحو بعد الظهر أستمع إلى إحدى أغنيات ثومة وأنا أتمشى فى صالة البيت ثم أجلس بعد ذلك بغرفة المكتب لأكتب، وأنا لازلت أذكر فضلها علىّ فكنت لا أستطيع الكتابة إلا بعد أن أسمع صوتها وأظل أروح وأجىء فى الحجرة ثم أشرع فى الكتابة مباشرة، لحسن صوتها وجماله بصورة لا تجدها فى أى حنجرة أخرى، وكنت أحرص على حضور حفلاتها منذ كانت تغنى كل خميس بتياترو «الماجستيك».. أم كلثوم ليست نبوغًا فى الصوت ولكن فى الشخصية، كيانها أكبر من مجرد مطربة، هى أشبه بالشخصيات السياسية المهمة، فقد ساعدت بصوتها على توحيد العرب، والمقابلة الوحيدة لىّ معها كانت فى «الأهرام» عندما أراد صلاح جاهين الاحتفال بعيد ميلادى الخمسين فذهب للأستاذ محمد حسنين هيكل قائلا له: خصص لنا ركناً فى الأهرام نحتفل فيه بعيد ميلاد الأستاذ نجيب فقد ضاق علينا كازينو قصر النيل، فقال هيكل لصلاح: نحن أى الأهرام سنحتفل بالأستاذ.. ولم أصدق نفسى عندما أحضر لىّ هيكل خصيصاً كوكب الشرق أم كلثوم والموسيقار محمد عبدالوهاب وفاتن حمامة، وحضر عيد ميلادى توفيق الحكيم فضلا عن الحرافيش وكثير من أهل الأدب والفن، وكان احتفالا هائلا ومبهجاً حقاً ولا يمكن أن يتكرر، وأذكر أن الحكيم أهدانى طقطوقة من فضّة قائلا: هذه من حرّ مالى.. ولكن أجمل ما فى تلك الليلة هو حضورأم كلثوم لها فقد جاءت إلىّ أنا مخصوص لتغنى فى يوم مولدى، وزمان فى السنوات الخوالى كنت أذهب إلى حفلاتها كسميع قديم مفتون بفنها وأشترى تذاكر الحضور وأجلس وسط المستمعين.. قالت أم كلثوم فى كلمة قصيرة: «لقد أسعدنى نجيب محفوظ برواياته وقصصه وأرجو أن يسعدنى خمسين عاماً قادمة».. اهتززت وانتفضت أرد على أم كلثوم بصوت هادئ مرتجف: إذا كانت كتاباتى قد أسعدت أم كلثوم فماذا يستطيع إنسان أن يفعل إزاء إحساسه بأنه أسعد مصدر سعادته؟!».. وتتعدد عشرات الكتب.. المئات.. بالعربية والإنجليزية والفرنسية وجميع لغات الأرض خاصة بعد حصول نجيب محفوظ عبدالعزيز إبراهيم أحمد الباشا على نوبل عام 1988 وآخرها بعنوان «محاكمة أولاد حارتنا» بقلم محاميه الدكتور أحمد السيد عوضين الناقد والأديب والقانونى الذى دافع عنه عملياً أمام محكمة الجنايات ليثبت سلامة موقفه وطهارة مقصده وسمو مراميه وبراءته من كل ما هو منسوب إليه، مقدماً فى مؤلفه الجديد من نوعه فى عالم الأدب إحاطة شاملة لقضية الرواية بعرض قصتها وتحليل شخصياتها، وما صادفها من عقبات، وما ثار حولها من مقولات، وما اتخذ بشأنها من إجراءات جعلت الناس لا تدرك الحقيقة بشأنها لزمن طويل، عارضاً ردود الأفعال الكثيرة تجاهها من مؤسسة الأزهر، ومجمع البحوث الإسلامية، وخطباء المساجد والصحفيين والكُتّاب وأصحاب الأعمدة كل بحسب توجهاته ورؤاه، ثم عرض للمحاكمة نفسها أمام القضاء وما انتهى إليه الحكم من براءة الكاتب الكبير من تهمة ازدراء الأديان مما مهد لطبع الرواية فى مصر بعد أن ظلت محظورة طويلا.. ولا يترك الكاتب الناقد المحامى الدكتور عوضين تأويلا أو قولا مغرضا أو اتهاما لنجيب محفوظ حول الرواية إلا وناقشه بهدف إجلاء الحقيقة حول عمل فنى ليس المقصود منه بحال من الأحوال التحدث عن الأديان أو استعراض قصص الأنبياء، وإنما كان مجرد عمل روائى يستعرض الحياة المصرية متمثلة فى إحدى الحارات على أساس أن الحارة هى نموذج لتلك الحياة حيث تبرز سماتها الأصيلة، وأسرارها الدفينة، وطِباعُها المتأصلة، وحيث تتعقد مشاكلها بحثاً عن لقمة العيش حيناً، وصراعاً بين القوى فى أحيان أخرى، ولكنها فى جميع الأحوال تؤكد أنها ملحمة البحث عن الحق والعدل والمساواة.. وكيف لنجيب محفوظ أن يرموه بتهمة ازدراء الأديان، أو أن تكون روايته «أولاد حارتنا» هى الدافع لاختياره لنيل جائزة نوبل فقد كتبها فى عام 1958 لتنشر فى «الأهرام» فى عام 1959 بينما حصل على الجائزة فى عام 1988 أى بعد ثلاثين سنة!.. وهو القائل المتفاخر فى كلمته أمام أعضاء الأكاديمية السويدية باستكهولم بحضور ملك السويد «أنا ابن حضارتين: الفرعونية وعمرها سبعة آلاف سنة، والحضارة الإسلامية وعمرها ألف وأربعمائة سنة وعن تلك الحضارة الإسلامية لن أحدثكم عن دعوتها إلى إقامة وحدة بشرية فى رحاب الخالق تنهض على الحرية والمساواة والتسامح، ولا عن عظمة رسولها، فمن مفكريكم من كرّمه كأعظم رجل فى تاريخ البشرية، ولا عن فتوحاتها التى غرست آلاف المآذن الداعية للعبادة والتقوى والخير على امتداد أرض مترامية ما بين مشارف الهند والصين وحدود فرنسا، ولا عن المؤاخاة التى تحققت فى حضنها بين الأديان والعناصر فى تسامح لم تعرفه الإنسانية من قبل ولا من بعد، ولكنى سأقدمها فى موقف درامى مؤثر يلخص سمة من أبرز سماتها، ففى إحدى معاركها الظافرة مع الدولة البيزنطية ردّت الأسرى فى مقابل عدد من كتب الفلسفة والطب والرياضة من التراث الإغريقى العتيد..» ويقول الأديب الجليل مثال التسامح والاعتدال ونموذج الدأب فى العمل الجاد، وقدوة لا نكران لها فى التواضع وكرم القلب حول الحرية والعدالة الاجتماعية والعلم إنها جميعاً لا تتناقص لدينا كأبناء للحضارة الإسلامية مع الحضارة الغربية، فالحرية إسلامية، والعدالة الاجتماعية كذلك، والتضامن إسلامى، والعلم عبادة فى الإسلام، وكان أولى بمن اشتركوا فى المحاولة الآثمة لاغتياله استيعاب ما جاء فى سورة المجادلة لو كانوا حقاً يتبعون دين الإسلام حيث يقول تعالى: «يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات»، وقد تعلَّمَ نجيب منذ أُلحق بكُتّاب الشيخ بحيرى بالجمالية حيث ولد فى آخر عام 1911 وإلى أن تَخَرَّجَ فى الجامعة وشَرَعَ فى الإعداد لدراسة الماجستير برسالة عنوانها «مفهوم الجمال فى الفلسفة الإسلامية» بإشراف الشيخ مصطفى عبدالرازق.. لقد عبَّ نجيب من مِعين الثقافة ما لا آخر له ليُصعِّده علمه درجات وليس ليكون جزاؤه طعنة غائرة فى العنق آملَ مرتكبوها أن تقضى عليه تمامًا، حتى أنه قد جاء حديث صحفى نشرته جريدة الأهرام مع المتهم الأول بتاريخ 26 ابريل 1994: س: اسمك وانضمامك للجماعة وأفكارها فى اغتيال الشخصيات؟ ج: محمد ناجى محمد مصطفي، فنى إصلاح أجهزة إلكترونية، حاصل على دبلوم صنايع من مدينة السلام ومقيم بعين شمس التى وفدت إليها من ملوى بالمنيا، وقد بدأت أتردد على مساجد الجماعة بعين شمس منذ أربع سنوات ومنها مسجد «الصفا» وقرأت الكثير من الكتب الخاصة بالجماعة وكتاباتها التى تخص عمر عبدالرحمن وعبود الزمر، وهدفنا الذى تعلمته هو تحكيم كتاب الله، ولنا أهداف كثيرة ننفذها وكان من بينها اغتيال الكُتَّاب والشخصيات وضباط الشرطة س: وهل الإسلام يُقر القتل؟! ج: إنها وسيلة نلجأ إليها لإرهاب كل من يحاول منعنا من أداء رسالة الجماعة التى ننشرها الآن والغاية تبرر الوسيلة، وسوف نحاسب يوم القيامة على النيّة، ولا يهم سقوط ضحايا عند تنفيذ أهدافنا.. س: اغتيال نجيب محفوظ لمصلحة من؟ وكيف وضعت الخطة وتفاصيلها؟ أجاب المتهم: تكليف الاغتيال لمهاجمته الدين الإسلامى فى رواية «أولاد حارتنا» ولم نناقش مثل هذه الأمور، فكل ما علينا إطاعة الأوامر وتنفيذها فقط، والفتاوى حسب علمى صدرت من عمر عبدالرحمن وقادة الجماعة داخل السجون تماماً كما يجرى الآن فهؤلاء أباحوا دمه مثلما حدث تجاه الدكتور فرج فودة، وقد قمت برصد منزل الكاتب محفوظ وحددنا موعد تنفيذ العملية يوم الخميس السابق على الحادث. س: خطتكم؟ ج: باستخدام سلاح أبيض «مطواة» نظرًا لطبيعة المنطقة والانتشار الأمنى الذى رصدناه فيها، وتوجهت مع الزميل «باسم» للمنزل مساء الخميس لذبح نجيب محفوظ بالداخل وكنت أحمل مطواة ومسدساً أخفيهما وسط ملابسى «القميص والبنطلون»، وكان باسم يرتدى ملابس خليجية، وهدفنا القتل، وحملنا معنا باقة زهور وعلبة شيكولاتة بحجة تقديمها هدية للكاتب، وصعدنا إلى شقته.. طرقناها ففتحت سيدة «زوجته» فأفهمناها برغبتنا فى مقابلة الأستاذ فاعتذرت لعدم وجوده، وأبلغتنا بإمكانية مقابلته فى كازينو قصر النيل غدا الجمعة الخامسة مساء.. وقال: ربنا لم يُيسر الأمر.. أى أن العملية لم تتم.. ونزلنا. س: تقصد عملية ذبح الكاتب أمام أسرته؟! ج: هدفنا كان ذبحه داخل منزله، وحملت المسدس معى لإرهاب أسرته ولمقاومة محاولة طلب النجدة، وكانت تلك خطتنا.. ثم أضاف: فى يوم الجمعة صباحاً التقى أفراد المجموعة الخمسة واتفقنا جميعاً على أننا «إن شاء الله نقتله» عصر الجمعة، وذهبت ومعى «عمرو محمد إبراهيم» إلى منزله، وكان سيلحق بنا الثلاثة الآخرون بسيارة لتنفيذ العملية سواء أمام المنزل أو فى الكازينو.. بأى شكل لن نعود إلا ومعنا رأس «نجيب محفوظ»، وفى الخامسة إلا ربع تقريباً نزل الكاتب ومعه شخص آخر ووقف بجوارى لحظات مرّت وكأنها الدهر، يدى داخل ملابسى تتحسس المطواة أحاول طعنه، وانتظرت حتى جلس فوق مقعده.. هممت بكل ما أوتيت من قوة وقمت بطعنه فى رقبته لإنهاء حياته، وتركت المطواة وهربت واستعملت سيارة أجرة إلى ميدان التحرير ثم إلى عين شمس لمقابلة بقية المجموعة السابق تحديد موعدنا للقاء لبحث الموقف عقب تنفيذ العملية، وأول المقابلة أخذ كل منا الآخر بالأحضان وكانت كلمة «مبروك» هى شعار هذا اليوم.. وأصدرت المحكمة العسكرية العليا حكمها بمعاقبة المتهم الأول «محمد ناجى مصطفى» والمتهم الثالث «محمد خضير أبوالفرج المحلاوى» بالإعدام شنقاً، وب«المؤبد» على المتهم الثانى والرابع، وبالأشغال الشاقة لمدد تتراوح ما بين 15 سنة و3 سنوات، كما قضت ببراءة ثلاثة متهمين.. ولقد طَعَن نجيب محفوظ المتكلمون بالباطل والساكتون بالباطل».. ويقدم الناقد الأديب الدكتور مصطفى عبدالغنى رؤية جديدة فى أعمال أديب نوبل المصرى بعنوان «نجيب محفوظ الثورة والتصوف» يهتم فيه بالمرحلة التى تبدأ من نهاية الخمسينيات حتى نهاية الثمانينيات، أى من عام 1959 حتى 1989.. ثلاثون عاماً من الإبداع العبقرى الصامت لم ينتبه إليه أحد ولم يلتفت إليه أهم نقاد نجيب وكتابه، حيث يُلقى المؤلف الضوء على وعى نجيب بالتصوف كأهم القضايا التى تستاهل تخصيص مساحة تطبيقية ونظرية شاسعة عنها، فما بين الثورة والتصوف يقف نجيب ناقدًا لا منحازًا، شامخاً لا مخفضاً رأسه، واعياً فأكثر ما يكون الوعى «الممكن» النبيل.. و..فى حواره مع الأديب العالمى يقول محفوظ: «أتحدى أى قارئ يجىء لى بقصة قصيرة أو سطر واحد فى رواية يعارض القومية العربية أو يهاجمها»... ويضرب عبدالغنى مثلا باتجاهات الأجواء الشعرية الصوفية عند محفوظ وذلك فى ملحمته «الحرافيش» فى قوله: «فى ظلمة الفجر العاشقة فى الممر العابر بين الحياة والموت، على مرأى من النجوم الساهرة، على مسمع من الأناشيد البهيجة الغامضة، طرحت مناجاة متجسدة للمعاناة والمسرات الموءودة لحارتنا»، ويُنهى نجيب حواره مع عبدالغنى حول روايته «أولاد حارتنا» بالنظر إلى بعيد، ثم القول كمن يحدث نفسه: «أرجو أن يُعيد الأساتذة الأفاضل من علماء الدين قراءة الرواية بعين التأمل والإنصاف بعد التخلص من غشاوة الاتهام والله يحكم بينى وبينهم فى الدنيا والآخرة..».. ودائماً ما يتجه الصديق الصحفى الأديب الباحث إبراهيم عبدالعزيز إلى بوصلة الجهد المضنى للكشف عن جوانب جديدة فى حياة العمالقة، حيث قدّم لنا من قبل كمثال الملف الشخصى لتوفيق الحكيم ومسرحية لم تنشر له من قبل بعنوان «رصاصة بين قلبين»، وذكريات مطويّة ليحيى حقى بالاشتراك مع ابنته نهى حقى، وأوراق مجهولة لطه حسين، ورسائل خاصة بين طه والحكيم، وكتاب لم يُنشر للسندباد الدكتور حسين فوزى، وفى جولته التفتيشية عن سيرة نجيب محفوظ الشخصية التى يقطف منها زهرات عطرة توقفت طويلا لأستنشق عبيرها عندما يقول محفوظ: • «أعتبر التصوف واحة جميلة أستريح فيها من الحر، حر الحياة، ولكن لا أؤمن به أبدًا، المتصوفون عندى حكماء، ولكنهم ينسحبون من الحياة، نادمون عليها، فالتصوف الحقيقى رفض للحياة، وأنا لا يمكن أن أرفض الحياة، أنا لا أدعو إلى رفض الحياة ولا إلى الانسحاب منها، أنا أدعو إلى الانغماس فى الحياة، فمن العجيب جدًا أن نُمنح الحياة وأن نوجد فيها، فتكون فلسفتنا هى رفضها، ولكن لأن التصوف رقيق، ولأنه يرفض فقط لأسباب روحية جميلة، فإنى أستريح إلى قراءته.. أقرأه كالشِعر الجميل..». • «صدْمتى بمرض السكر لم تكن بسيطة، تأقلمت معها بالشدة مع النفس خصوصاً بعد عام 1980 عندما أصابت شبكة العين، فتغلبت على ذلك باختصار ساعات القراءة والكتابة والالتزام الحرفى بنصائح الأطباء.. اكتشفت نفسى من خلال هذا المرض الجنتلمان الذى يحترمك إذا بادلته الاحترام، ويغدر بك إذا تهاونت فى حقه.. اكتشفت أيضاً أنى صبور، وأنى أستطيع أن أتكيف..». • «من الناحية الطبيعية أنا شاهدت الفتوات وتأثرت بهم وبهرونى، الفتوة كان حامى الحارة، ولكنه مثل بعض الحكام أحياناً يكون حاميها حراميها»! • «الإنسان طوال فترة حياة أمه يعتمد عليها فى أشياء كثيرة قد لا تكون بالضرورة أشياء مادية، ولكن يعتمد عليها عاطفيا، لكن برحيلها يفقد سندًا عظيماً فى الحياة، ويدرك أنه قد أصبح الآن وحيدًا فى هذا العالم، قد يكون له أصدقاء، وقد يكون له أبناء وأحفاد، ولكن يعلم أن مكان الأم قد أصبح شاغرًا إلى الأبد.. رحيل والدتى أثر فىّ كثيرًا رغم أننى كنت قد تخطيت الخمسين». • «أنا من عشاق الشِعر، وفى الصباح وبعد الإفطار لابد أن أقرأ حتى ولو بيت شِعر واحد قبل أن أبدأ عملى». • «لعبت أمى دورًا كبيرًا جدًا فى حياتى من الناحية المعرفية، كانت مولعة بزيارة الآثار القديمة رغم أنها كانت سيدة كبيرة وأميّة، وزرت معها الانتكخانة عشرات المرات، والهرم وأبوالهول، وجميع الآثار الإسلامية والقبطية ومنها كنيسة مارجرجس، وزرنا حجرة المومياوات عدة مرات وبالطبع أثر فىّ هذا كثيرًا ولذلك كتبت روايات عديدة منها «كفاح طيبة» و«رادوبيس».. لقد كانت أمى جوّالة وتعرف شهرة الأماكن التاريخية فتختارها بالتحديد وكنت أصحبها منذ سن الرابعة أو الخامسة». • «أعتبر الدين شيئاً مهماً فى أعمالي، ولقد أبرزت من خلاله حقيقة المواطن المصرى بعاداته وتقاليده وشخصيته، لذلك لم يكن ممكناً أن يختفى عنصر الدين من أعمالى، وكان القرآن الكريم من أوائل قراءاتى، وكان القصص القرآنى أول ما شَكَّلَ عندى مفهوم الفن الروائى من حيث المضمون السامى لهذه القصص، وأيضاً من حيث الأسلوب الفنى فى روايتها، وهو تأثير ممتد فى كتاباتى بشكل عام لكن لعله أوضح ما يكون فى (حديث الصباح والمساء)». • «مازلت أتذكر مونولوجاً حفظته وأنا طفل يقول: يا عديم الخال.. يا قليل المال رفعتك محال.. فى زمان الأنذال الدنيا دى زى الأنجر.. مليان فتة وسط الأزهر حواليه خفر ونقيب أكبر.. يدى لقرايبه ويبعتر ويهب فى فقى غلبان» • «وجدت فى بداياتى إهمالا شديدًا من جانب النقاد الأدبيين، ولكننى أدركت أن هذه عقبات طبيعية وبمثابة اختبار للتحمل، ومدى عشق الإنسان لعمله وتصميمه عليه». • «كان تأميم قناة السويس عام 1956 إحدى محطات السعادة فى حياتى، فقد شعرنا بأننا نسترد ما هو لنا بعد سنوات طويلة من الاغتصاب، وجاء التأميم ليؤكد لنا وللعالم أن البلد بلدنا وأنه لن يتم استغلالنا بعد اليوم».. • «يجب أن يكون للأدب موقف يعبر عنه، ثم يجب عليه بعد ذلك أن يكون على استعداد لتحمل تبعات هذا الموقف، فهناك عصور اتسمت بهامش كبير من حرية التعبير، وأخرى ضاق فيها هذا الهامش إلى حد كبير». • «لقد جفت الدموع بعد موت سعد زغلول وكان أكثر أيام حياتى حزنا.. كان حب الناس له بلا حدود كزعيم شعبى يمثل الأب الروحى، أما يوم عبدالناصر فقد حدث لىّ ذهول وشىء أكبر من الحزن هو الخوف على مركب ليس لها ريس.. رحيل عبدالناصر كان مقترناً بالضياع، فعند وفاة سعد كان هناك خلفاؤه ولكن عند رحيل ناصر لم يكن نعرف له خليفة». • «عبدالوهاب ليس فى حاجة إلى دكتوراه وموسيقاه لن تزيد قيمته برتبة لواء، والتلاعب بهذه الدرجات دليل على اهتزاز القيم فى المجتمع». • «كنت فى منتهى الحزن الذى لا يمكن تصوره فى يوم اغتيال السادات، وأظن أنى كتبت فى وجهة نظر بالأهرام متسائلا: كيف يُقتل الرجل فى يوم نصره؟!».. • «بمرور الزمن سيحب الشعب المصرى السادات كما أحب عبدالناصر، فكما حرر عبدالناصر الطبقات الفقيرة، فقد ذقنا طعم الانتصار على يد السادات الذى حقق استقلالنا التام باستعادة سيناء، والتاريخ لن يترك خيرًا فعله أى منهما من أجل شعبهما لأنهما قدما أعمالا عظيمة، وفى رواية (أمام العرش) أعطيت كلا منهما ما يستحقه وما يؤخذ عليه، وفى النهاية أدخلتهما الجنة لإنجازاتهما العظيمة».. • «الكتابة ليست وظيفة يُحال بعدها الكاتب إلى المعاش، وهناك مقولة فرعونية: (الكاتب هو الوحيد الذى لا يرأسه رئيس ولا يُحال إلى الإيقاف، وكلما مرَّ به الزمن ازداد نورًا على نور». • «إهمال اللغة الفصحى فى نظرى هدم برىء أو غير برىء للقومية العربية».. • «تعودت على التفكير بقلمي، وبدون القلم لا تأتى الأفكار، بدون القلم تظل الورقة بيضاء لأن القلم كان أصبعاً سادساً فى يدى إذا تم بتره عجزت يدى عن الكتابة، وأكون مخطئاً لو قلت إننى أوجهه كيفما شئت فإن للقلم كيانا خاصا، وكثيرًا ما يعصى أوامرى فأبقى ممسكاً به ساعات طوالا لا يستجيب فيها لإرادتى، لكنه فى ساعات أخرى يجود علىّ بأجمل الكلمات وبأسمى المعانى». • «جاءتنى جائزة كبيرة جدًا من الناحية المادية بالنسبة لمستواى المعيشى، وتعتبر أيضاً كبيرة بالنسبة لمستواى الأدبى، لكن تعال لاستثمار هذه الأشياء الكبيرة: أنا فى سنى هذه لن ارتدى غير ما أرتديه، أو آكل غير ما سآكله، ولا حتى لى رغبة فى الحركة أو السفر أو تغيير المسكن، فليس لىّ مطلب من متاع الحياة، لأننى فى الفترة التى أفكر فيها فى الآخرة أكثر من الأولي.. عندما أخذت جائزة الدولة التقديرية وضعتها فى جيبى لأنها ملكى تخصني، وأخذت مدتها وفرحتها الكبرى ونسيت، أما نوبل فإن فرحتى بها تجاوزتنى إلى الناس، لذلك ففرحتى بها لا تنتهى، لأن أى فرحة شخصية تنتهى مثل: زواج من تحب، أول إنجاب.. أشياء وتمر، ولكن حينما تجد الناس من حولك فرحانين يذكرونك بفرحتك، فإن الفرحة هنا لا تنتهى، ولذلك فإن خير الأفراح من تجاوزت صاحبها إلى الآخرين».. • «أميل للانطواء من النوع الذى يحب من بعيد لبعيد فمثلا عشقت طه حسين والعقاد والمازنى وهيكل وتوفيق الحكيم.. دون أن أفكر فى أى لقاء.. كذلك أم كلثوم وعبدالوهاب.. الوحيد الذى تمنيت أن أراه ولم أستطع هو: سعد زغلول». • «أعتقد مخلصاً أن إصلاح الموظف هو من أكبر الخدمات التى يمكن أن نخدم بها شعبنا»..