يكن المازني بين كتاب جيله الشخص الأكثر تسترا علي حياته, ربما كان النقيض, لذا لم يحدث أن ضحي لمدة نصف يوم واحد برواياته, أو بحياته من أجل السياسة. لمفالسياسة عنده هي سطح العالم الضاج واللامع الذي لا يقف فوقه ويرقص عليه إلا الراغبون في الفضائح, كان المازني يقاوم جاذبية هذا السطح بالتنقيب في ذاته, وإذا بلغ أحد قيعانها البعيدة الرطبة, أطبق جفنيه, وصاح كأنه بلغ الساحل, ساحل أحلامه ورصيف لاوعيه, فإذا ضبطه صديقاه العقاد وعبد الرحمن شكري, صديقاه الأكثر رصانة, هتف فيهما, أيها الرفقة, أيها الأصدقاء, أنتما تعودان إلي الخلف مرارا, وتذهبان إلي الأمام مرارا, أما أنا, فإنني أقفز في مكاني, أنظر إلي أعلي, هكذا, وإلي أسفل, هكذا, لذا تسيل الموسيقي من دماغي وجوفي, فأنصرف عن الزمان, أعرف أن الزمان هو تلك الذكري التي إذا ورثها أحدنا, أصبح مثل قبعة في جورب, أعرف أنه هو تلك الضحكة الصفراء,هاهاهاها, يقلد المازني اصفرار الضحكة, فتتغير بشرتا صديقيه, تصبح بشرة العقاد صفراء مثل عصا الراعي, وبشرة عبدالرحمن صفراء مثل قلب الضابط, وينصرف المازني تحت إبطه مسودة مقالته عن أبي الهول وتمثال مختار, ولأنني أحفظها عن ظهر قلب, أري كفيه تدفعان تمثال نهضة مصر, ولا تتحاشيان المرأة التي يدها مسنودة علي رأس أبي الهول, فيما المازني يقول: أما التمثال في شكله الحالي, فلا أكتم القراء أني أحس كأني أحمله وقاعدته علي ظهري, ولايسوء مختار قولي هذا, فإنه يعلم أني من أجهل الناس بالفنون, وأن ليس لي من الوسائل المعينة علي حسن التقدير, سوي رأس واحد وعينين اثنتين ليس إلا, في تلك اللحظة يختفي المازني فأبحث عن ناشريه, ولما لا أجدهم أتوكل علي الله وأذهب بالترتيب إلي الأمناء الأربعة للمجلس الأعلي للثقافة منذ عماد أبوغازي وحتي سعيد توفيق, باستثناء عزالدين شكري فشير, الذي أعتقد أنه لم يعرف المازني عن قرب, وربما لم يعرفه عن بعد, سأحاول أن أنسي محمود مختار لأنه أحد أسلاف عماد أبوغازي, إنه خال أبيه, وسوف أطالبهم, الأمناء جميعا, باستكمال نشر أعمال المازني كاملة, المنشورة في كتب, وغير المنشورة في كتب, في منتصف أيام الثورة, حين كان عماد هو الأمين العام رجوته برسالة هاتفية أن يستقيل, ولم يفعل, وفي أيام وزارته, كتبت له, ياعماد العمل معهم خيانة, واستمر حتي انتفخت بطنه فاستقال, بعد يومين من استقالته, كنت أدخل ميدان التحرير من شارع طلعت حرب, وفوجئت به يخرج من جوف محطة المترو, نويت أن أتفاداه, لكنه عاجلني واحتضنني بيدين ذكرتاني بأحضان الماركسيين الثوريين أيام السبعينيات, همست في أذنه, ياعماد ألست غاضبا مني, أجابني بسرعة لا, لقد كنت علي حق, بعد أيام أخري, وأيضا في شارع طلعت حرب, كانت المسيرة التي يقود هتافاتها كمال خليل, تقطع الشارع, لما التفت جهة اليمين, رأيت عماد يسير علي الحافة, هذه المرة فاجأته واحتضنته بحنان, فاحتضنني بقوة, قلت له: أنا فرح باستعادتك ياعماد, قال, وأنا فرح باستعادة نفسي, بعد كلمة نفسي افترقنا, وبعد افتراقنا خرج من قلبي شبح المازني, ليلاحق عماد, ويربت علي كتفيه, ثم عاد, الشبح, وأمسك ذراعي وهو يوشوشني: فيه براءة تفوق القدر المسموح به لوزير, وفيه إخلاص ورطه في التمسك بمحبة رؤسائه السابقين الذين كانوا بعض أعمدة فساد الدكتاتور, وصاروا أعمدة الحنين إليه, في سنة 1889 ولد المازني, وبعد ستين سنة من ميلاده سنة 1949 مات, كان موته أيام أفول ملكية فاروق, وقبل الانحدار نحو هاوية دكتاتورية عسكرية كنست بغلظة أسماء اللائحة السوداء, العقاد, أحمد لطفي السيد, إبراهيم ناجي, زكي مبارك, محمود حسن اسماعيل, الرافعي, فقط توفيق الحكيم بسبب روايته عودة الروح و شعارها (الكل في واحد), الذي ظن البكباشي أيامها, أنه نبوءة مصنوعة علي مقاسه, فصفح عن توفيق, وفقط أيضا طه حسين الذي نجح في أن يؤسس جسورا من ورق, ويفردها بينه وبين حكومة البكباشية, وكما أن حداثة طه وثورته كانت أفضل أفعاله, فإن احتياله و قدرته علي التكيف و الوقوف تحت المظلة كانت الأسوأ, وأظن أن تلاميذه في الزمان المتأخر, لم يرثوا سوي القليل من حداثته و الكثير من احتيالاته, مما ساعدهم علي الطيران, عموما لما أصدر نجيب محفوظ روايته زقاق المدق, طلب المازني رؤية الروائي الشاب, الذي استجاب وذهب بصحبة عبد الحميد جودة السحار إلي بيت المازني في شارع فاروق, شارع الجيش حاليا, ضرب لهما المازني أمثلة بروايات الأيام لطه حسين, وسارة للعقاد, وعودة الروح للحكيم, وابراهيم الكاتب للمازني نفسه, ليدل الشابين علي أن الرواية المصرية تعودت أن تحكي ذات صاحبها, وأن زقاق المدق تنتمي إلي الواقعية, التسمية أيامها لم تكن شائعة, وأن المصريين لم يتعودوا إلا علي رواية السيرة, فإما أن تغير طريقك, وإما أن تنتبه للمخاطر, هكذا نصح المازني ضيفه, وهكذا أشار بسبابته و بنفس مقطوع إلي روايته ابراهيم الكاتب, لابد أنه كان يعتبرها من أندر النصوص التي كان يجد فيها ذاته,لابد أنه كان يرسم ذاته وفق الأمانة ووفق التحريف, لأن اللعب هو سبيله, هو ملهاته و مأساته, هو حظه, ولابد أنه سأل نفسه أكثر من مرة في أثناء الكتابة, هل استطاع أن يبقي علي ذاته صافية علي الرغم من تحريفاته, هل استطاع أن يحيا وهو يكتب, كان ابراهيم الكاتب أنطولوجيا كاملة لتلك الذات التي اعتبرها الناقد الطليعي أيامها محمود أمين العالم ذاتا متشائمة ويائسة ومتحمسة ليأسها, كلماتها تسئ لصاحبها, وتطعن الآخرين, حتي جهلها, كان بالضبط عصير حكمتها وعصارة معارفها, كان بالضبط رحيق عدميتها, لذا تجاسر محمود العالم, ونقل ابراهيم الكاتب, الرواية والمؤلف, إلي مكان زري من فردوسه المفقود, وعلي بعد خطوة جاء بالشاعر صلاح عبدالصبور, وعلي الحافة منهما ترك صحراء جافة سيشغلها نجيب محفوظ برواياته وبطبقته المتوسطة, وعلي الرغم من البشاشة هدد العالم بأنه قد ينقلهم إلي مكان في الجهة المقابلة, الجميع يعرفون أنه جحيمه الموجود, وبشر بأسماء الناجين, وعقب كل اسم, كان وحده الذي يسمع التصفيق الهائل, كمال عبدالحليم, تصفيق هائل, عبدالرحمن الشرقاوي, تصفيق هائل, وبعد انتهاء الحفل, تنفس العالم الصعداء, ثم استراح, وكان صباح, وكان مساء, الغريب أنه هناك التقي صلاح بالمازني, وقرأه, وقال لنفسه: لقد كان فنانا حتي أطراف أصابعه, وكان قلبه ثقيلا مجروحا, وزاد من مرارته أن حياته الخاصة لم تصف له, وأنه واجه الموت الجارح خمس مرات معلومات, أبوه, وأمه, وزوجه الأولي, وابنتاه من زوجتين, أما المجهولات فأكثر, يري صلاح أن أكبر كتاب أثر في المازني, هو سفر الجامعة بن داود, أحد فصول التوراة, والجامعة عند صلاح هو رائد الشعراء العدميين في التاريخ, نشيده: الكل باطل وقبض ريح, ومازني صلاح رجل قاهري, وابن بلد, والمدينة ليست الريف, المدينة وحدها هي التي تؤمن بفلسفة العدم, خاصة مدينة المازني, والموت في سفر الجامعة يشبه الموت في أطراف العاصمة قرب المقابر, حيث نشأ المازني, الجامعة لم يكن نبيا أكثر منه شاعرا, والمازني كذلك, كلهم رجل مؤلم يتحدث, كلهم شاعر, كلهم حصاد الهشيم, كلهم خيوط العنكبوت, كم غصت في لجة الحياة فما فزت بغير الصخور والحجر, مات الفتي المازني ثم أتي, من مازن غيره علي الأثر. المزيد من مقالات عبدالمنعم رمضان