عن وحيد الطويلة، عن سلمي الخضراء الجيوسي، في حوارها بإحدي المجلات، أنها قالت: ظل محمود درويش يطالع تجارب كل الشعراء الآخرين، من أجل أن يغربلها ويفرمها ويعجنها، ليجعل منها قاعدة تمثال، يعتليه ويقف فوقه، ويصبح هو نفسه صاحب التمثال، يصبح هو نفسه الشاعر الجميل المتجاوز، وظل أدونيس يطالع كل التجارب، ويتأملها ويتمثلها، ثم ينكرها وينصرف عنها دون ازدراء، ليصنع تجربته الفردية، فيصبح هو نفسه الشاعر العظيم، ويصبح هو نفسه الشاعر الوحيد المستحق لجائزة نوبل، وفي أواسط الثمانينيات، أصبحنا نسمع صوتا بدأ في السبعينيات كهسيس خفيض، ثم قوي وأصبح جلجلة، تعصف بنا، لنصدق أن نجيب محفوظ مثله مثل سور حديدي مدبب، يمنع قصص الستينيات التي تتجاوزه وتتفوق عليه من الوصول إلي قرائها، وأن نصدق أن روايات نجيب محفوظ تشبه بدلة نجيب وعصاه ومشيته، وتشبه أحياءه القديمة خان الخليلي وزقاق المدق والسكرية وبين القصرين وحزب الوفد وسعد زغلول ومصطفي النحاس والعباسية القديمة والعوالم والفتوات وأم كلثوم ومنيرة المهدية ومحمد عبد الوهاب وحسين حجازي، وتشبه أكثر، ذلك الموظف الغلبان المدعو نجيب محفوظ، في أواخر الثمانينيات، ولما اعترف الغرب عن طريق جائزة نوبل، بأهمية محفوظ تراجعت الجلجلة حتي تلاشت، وتواصي الذين كانوا ينادون بضرورة موته، تواصوا بالإصرار علي مديحه، وكأن كل العناصر يمكن أن يعاد طحنها في أجران الحي الغربي، الذي ننسحق أمامه دائما. تذكرت درويش وأدونيس ومحفوظ وأنا أري صلاح عيسي يرفع يده في وجوهنا ويصيح: تلاميذ طه حسين تجاوزوه، حاولت، ولم أستطع أن أسامحه، وأدركت أن مثله مثل الكاتب العمومي يملأ صحيفة طه حسين، هكذا في خانة يكتب الأكاديمي، في خانة يكتب الناقد، في خانة: الوزير، في خانة: العنوان فيلا رامتان الهرم، في خانة: العميد، وفي آخر خانة يكتب مات وانتهي دوره والكاتب العمومي غالبا لا يسأل أحدا عن معني النقد، ولا معني لأكاديمي، فأرشيفه يضم كل المعارف المطلوبة، ويغنيه عن سؤال سواه، هو يعرف أن النقد وحيد الخلية مثل الأميبا، ونحن نعرف النقد طبقات، فهو عند البعض محض علم ونظريات ومناهج وطرق تحليل، من حفظها، أجاد استعمالها، لأنه هكذا يكون العلم مطية ذلولاً للدارسين والمتعلمين والحفظة، جديده يلغي قديمه، والبنيوية والتفكيكية والنقد الثقافي والكولونيالي والنسوي وما بعدها، كل هذه النظريات تحل محل النظريات السابقة عليها، ويكون التجاوز، وأن النقد عند البعض الآخر علم وفن، كسب وفطرة، نظريات وذوق، مناهج وانطباعات، فيه ما يمكن تجاوزه، وفيه مالا تجري عليه أحكام التجاوز، وأن النقد عند البعض الثالث، مثل طريقة أبي نواس في التربية الشعرية، تحفظ ثم تنسي، تحفظ النظريات، ثم تنساها كاملة، والنسيان سيعقبه غالباً الانتباه إلي دقات القلب، وما فيها من استشراف ورؤية وذوق وتأسيس وإنشاء علي غرار الإنشاء الأدبي، فالنقد عند هؤلاء الأخيرين، خيانة دائمة للسلوك الأكاديمي، النقد عندهم يخضع لما يخضع له الأدب ذاته، يخضع للتجاور لا للتجاوز، النقطة الساقطة عن حرف كلمة التجاوز الأخير، سوف تتحول إلي قارب ينجيك من الغرق، وبقاء النقطة يبقيك في الأسر. وطه حسين الأكاديمي، صاحب المنهج، ظل مغلوبا أمام الأديب، صاحب الفطرة، فهو ينقد بهاجس البحث عن أسلوب، لأنه يخلق نصوصه خلقا، ولأنه يعمل كرجل مجذوب، وليس كرجل متعلم، وما المنهج والنظريات إلا حيوانه الذي يركبه، وعندما يصل البيت، يقيده أمام الباب، إنها علمه المكتسب الذي إذا أغفلناه، لأن قوة أدبه أجبرتنا علي ذلك، ازداد سرور طه، هذه هي آيته الكبري التي تجاور آيات الجاحظ والتوحيدي والرافعي والمازني وزكي مبارك ومارون عبود وخالدة سعيد وعبد الفتاح كيليطو، والتي تذكرنا بغيابها عن كتابات محمد مندور وشوقي ضيف ومحمد غنيمي هلال وعبد القادر القط وسهير القلماوي إلخ إلخ، لأن نقداتهم لا تبحث عن أسلوب، عن شخصية، عن صوت خاص، كأنهم لا يتركون وراءهم نصوصاً، يتركون تقارير قابلة للمحو والزوال، مثلها مثل طب جالينوس وابن سينا، تقارير رائدة فعلاً، غير أنها قابلة للعطب السريع، قابلة للنسيان التام. وإذا كانت كتابات طه بأدبياتها محصنة ضد التجاوز، فإن أغلب تلاميذ طه يمارسون النقد كما تمارسه النحلة الشغالة، يمارسونه حسب الكتالوج، دون كتابة، دون نصوص، دون أسلوب، والأدهي دون ذوق، والأدهي أيضا أن كتالوجاتهم لا تعصمهم من الزيغ والهوي، ليس بينهم نحلة ذكر، تموت إذا قطعت السباق، وبلغت روح المحبوب وجسده، وليس بينهم نحلة ملكة لا تخضع للأعراف، ولكنها تستنُّ الأعراف، تلاميذ طه يكتبون تقارير سوف تمحوها وبسرعة تقارير التالين عليهم، مادام الزمان خطيا، والنقد خطياً، والنظريات جديدها يلغي قديمها، إنهم أي التلاميذ، عبيد إحساناتنا، لأنهم لا يملكون ما يجعلهم سادة، إنهم يجهلون أن الأعمال الأدبية لا تبقي ثابتة، مادامت التأويلات تتغير، يجهلون أن عملية القراءة هي نوع من تجسير الفجوة بين الماضي والحاضر، وتاريخية الأدب لا تستند إلي تلك المؤسسة الوحيدة التي عرفها صلاح، مؤسسة الحقائق والتواريخ الأدبية، بل إلي التجارب السابقة التي قام بها قراء الازمنة المختلفة مع العمل الأدبي ذاته، مؤسسة صلاح يصح لها أن تقول إن تلاميذ طه حسين تجاوزوا محمد مندور ويكون قولها صائبا. عموماً المدهش أن طه حسين المظلوم يتجاوز تلاميذه له حسب فقه الشيخ صلاح، تجاوزه أيضا معاصروه، وسابقوه، وسابقو السابقين، فهو بسبب عجز أصابه بالعمي، توقف عن المعاينة والمشاهدة، وفقد لذة الرؤية، إنه فقط يسمع العالم، يشمه، يلمسه، قد يلحسه، ولكنه لا يراه، ولا يري السينما والمسرح والباليه واللوحات والجبال وطائر الوروار وملابس النساء ونهر الدانوب والغوازي ومؤخرة شاكيرا ومقدمة نجاة والكتب المطبوعة والسماء الزرقاء، إنه وحسب فقه مولانا الشيخ صلاح محكوم عليه بالتجاوز الأدبي، معاصروه تجاوزوه بالنظر، والتلاميذ بالنظريات، وصلاح عيسي سابقا، وصلاح عيسي لاحقا، شاهد علي الأمرين، شاهد يكتم الشهادة، لأنه فضل أن يغالط في الفصل بين الأستاذ وتلاميذه، لا يمكن أن تغفل موقع طه حسين من زمنه، إنه في المقدمة، الأصح أنه المقدمة، ولا أن تغفل موقع تلاميذه من أزمانهم، إنهم علي الأقل ليسوا في الصفوف الأمامية، إلا إذا كانت السلطة هي الصفوف الأمامية. يبدو أن صلاح رغم انتقاله إلي أماكن، منافعها جمة، إلا أنه مع ذلك ظل محكوما بنظرته الفوقية التي تمتع بها مثقفو اليسار الماركسي الستاليني، فهو يتكلم بصفته الذات الفاعلة، بصفته الوجود المطلق، فيما المثقف من أي فصيل مخالف، لا يمثل عنده سوي الآخر. فليكن، الغريب أن تلاميذ طه الذين تجاوزوه، لم يتجاوزوه حتي في حظوظهم من السلطة، فطه في أوله عضو في حزب الصفوة، الأحرار الدستوريين، وفي آخره عضو بحزب الأغلبية، الوفد، بعض تلاميذه فعلوا مثله، وانتقلوا من حزب سيدي رفعت السعيد إلي الحزب الذي لا مثيل له، ومع ذلك ظل طه يتقدم تلاميذه بحزبيته الأجدر، ليس لأن الماضي أجمل، ولكن لأن شروط زمن طه كانت أفضل من شروطنا، ولما أصبح طه وزيراً للمعارف، زرع في نفوس تلاميذه بذرة حلم يابس، أن يصيروا وزراء، إلا أن نفوس التلاميذ تعكرت بمرارة سقوط الأحلام، طه حسين أصبح وزيراً دون أن يعمل وصيفاً لأحد، مازالت ذاكرتنا المثقوبة تحتفظ بصورة السيدة جيهان السادات متبوعة بالوصيفة سهير القلماوي، هناك صور أخري، تلاميذ طه حسين الذين لم يتجاوزوه في الأدب، مازالوا في الحياة، يلتحقون بجنائن السلطة، كل سلطة، ويسرقون الثمار، ويدافعون عن أنفسهم بالوقوف وراء بارفان اسمه بارفان طه، وإذا عوتبوا قالوا: العميد فعلها قبلنا، متجاهلين الفارق بين سلطة ساعية للاستقلال، وسلطة فخورة بالتبعية. ولعل الصحابة، صحابة طه الذين عاصروه، أو تتلمذوا عليه مباشرة، هم الأقل زعماً حول علاقاتهم به، ولعل التابعين وتابعيهم هم الأغزر في اختراع الحكايات، بعد وفاة طه مباشرة نشر غالي شكري الحوار الأخير الذي قال فيه طه أقواله كلها، الحقيقة أن غالي أثبت مهاراته في التقليد، وشاع أنه استنسخ طه حسين، وأنطقه، ثم سلم النسخة للريجيسير، ولما رجع أحمد عبد المعطي حجازي من باريس، أواخر الثمانينيات، وبدأ كتابة زاويته الأسبوعية بالأهرام، اختار يوم الأربعاء، ليكون خليفة طه، لكن الخلافة لم تسلم يوما من النزاع والضغينة، لذا نافسه بعض التلاميذ، وزعموا أن الأربعاء حقهم، كلنا نعلم أن تين، أظنه تين، أحد أساتذة طه، كان يكتب أحاديث الإثنين، وأن طه استلهمه ولم يقلده، وكتب حديث الأربعاء، ومثل غالي، ومثل حجازي، بدأ آخرون، أقل مهارة، وأكثر احتياجاً، انتظروا موت الشهود جميعاً، ورووا علينا لقاءهم بالمعلم، وكيف كانوا أذكياء عندما سألهم وأجابوه بشعر يحبه، فتنبأ لهم بالنبوغ والسيادة. في المدرسة العليا أصر معلم المنطق علي أن صلاح عيسي الماركسي تجاوز ابن خلدون، مادامت الماركسية تجاوزت الخلدونية، وأصر تلميذه علي أنه رأي صلاح يجلس علي كرسي الحمام إلي جوار ابن خلدون الجالس، وهنا روايتان، إما علي أحد كراسي البار العالية، وإما علي جذع نخلة، ارتفاعه ثلاثة أقدام، في الحالتين قدما ابن خلدون حافيتان، ونعله علي الأرض، لم أصدق ذلك الشاعر الذي كتب قصيدة عن شخص اختفي بذكر حرفي اسمه الأولين، صاد، عين، إلا بعد أن سمعتها تذاع في الراديو، القصيدة تقول: عاش في الماضي شخصان مختلفان، صاد، عين، سابقا، وصاد، عين، لاحقا، عندما كانا في عمر الثانية تعاركا بالأقدام والأيدي، في الثانية عشرة باللسان والحجارة، في الثانية والعشرين تبادلا إطلاق الشائعات، في الثانية والثلاثين تبادلا قناعيهما وظليهما، في الثانية والأربعين استسلما للحزب، في الثانية والستين استسلما للدولة والدنانير، في الثانية والثمانين استسلما للأميبا والبكتريا، في الثانية والمئة توفيا ودفنا في قبرين متلاصقين، بعد قرن التهمت عاصفة ممطرة قبريهما، العاصفة لم تلاحظ أن القبرين لشخصين مختلفين، التراب وحّدهما، والعاصفة الخائبة لم تكتشف من انتصر علي الآخر، من تجاوز الآخر، اندمجت في القصيدة، وكان خيال أمي المتوفاة يشاركني الاستماع، عند كلمة التجاوز، أغلقت أمي الراديو، ودعت لصلاح بالشفاء، ربنا يشفيك يا صلاح يا ابني، ويخرجك من الزنقة اللي انت فيها، وبسملت وحوقلت واختفت.