أثار الحوار الإستراتيجى الأخير بين مصر وأمريكا التساؤلات حول طبيعة ومستقبل العلاقات بين البلدين فى ظل حالة الشد والجذب التى تشهدها منذ ثورة 30 يونيو, ففى الوقت الذى اعتبر فيه البعض انعقاد الحوار عودة العلاقات لطبيعتها, رأى آخرون أنه لم يسهم فى تغيير الموقف الأمريكى بما يعنى استمرار حالة التوتر والتباعد. والواقع أن كلا الرأيين ينطلق من تبسيط مخل لطبيعة العلاقات المصرية الأمريكية, التى تتميز بخصوصية شديدة تنبع من حجم المصالح المشتركة والتشابكات المختلفة التى تربط بينهما, وتجعل هناك إطارا واضحا تتحرك فيه تلك العلاقات ويضع سقفا محددا لمدى وحدود التباينات والاختلافات فى المواقف بينهما بحيث لا تصل إلى مستوى الصدام أو القطيعة, وتنبع أيضا من حرص البلدين على تحقيق التعايش بين مصالحهما الإستراتيجية المشتركة, وبين التعارض فى المواقف والسياسات لكل منهما الآخر, والذى قد يؤدى إلى توترات وحالة من الجفاء. لقد شهدت العلاقات المصرية الأمريكية تغيرات مهمة بعد ثورتى 25 يناير و30 يونيو, نقلتها من النمط التقليدى الذى كانت فيه الولاياتالمتحدة المتغير المستقل, ومصر المتغير التابع, إلى نمط جديد يقوم على التعامل بندية, نتيجة لاستقلالية السياسة الخارجية المصرية وتعدد دوائرها, حيث لم تعد مقصورة فقط على الولاياتالمتحدة وأوروبا, بل شملت أيضا الدول الكبرى الأخرى فى النظام الدولى كروسيا والصين, وتنويع مصادر تسليحها حيث لم تقتصر على الولاياتالمتحدة فقط كمصدر للتسلح, كما برز فى صفقة الرافال من فرنسا, كما أن الإدارة الأمريكية أضحت فى موقع رد الفعل الذى فرض عليها أن تتعامل مع مصر وفقا للتغيرات الكبرى والمتسارعة التى شهدتها فى السنوات الأخيرة, ولم يعد لها تأثير فى توجيه تفاعلاتها الداخلية كما كان فى السابق, ولذلك فإن السياسة الأمريكية, حاولت جاهدة تحقيق التوازن بين اعتبارات المصالح الإستراتيجية مع مصر, وهى الحفاظ على معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية والمرور العسكرى فى قناة السويس, وحشد دعم مصر فى الحرب على الإرهاب, وبين اعتبارات المثالية المرتبطة بالديمقراطية وحقوق الإنسان, والتى اعتادت على توظيفها كورقة للضغط على النظام المصرى لتحقيق مصالحها الإستراتيجية, كمان كان إبان عهد مبارك. ولذلك أدى الارتباك الأمريكى فى بلورة رؤية وإستراتيجية واضحة المعالم تجاه مصر بعد الثورة إلى تخبط سياستها, كما حدث بعد 30 يونيو عندما فرضت العقوبات على المساعدات الاقتصادية والعسكرية السنوية لمصر, والإصرار على دمج جماعة الإخوان المسلمين فى العملية السياسية, وهو ما أدى لحالة من التباعد والجفاء, وليس القطيعة, فى العلاقات بينهما, لكن فى ذات الوقت فإن واقعية السياسة الأمريكية ومصالحها مع مصر, والدور البارز الذى لعبته مصر فى محاربة الإرهاب فى سيناء ومحاربة داعش فى المنطقة, ودورها المهم فى التسوية السلمية لأزمات المنطقة فى سوريا والعراق واليمن وليبيا, إضافة إلى إنجازها لمعظم خطوات خريطة الطريق مثل الدستور والانتخابات الرئاسية, وهى على وشك إجراء الانتخابات البرلمانية, كل ذلك دفع الإدارة الأمريكية إلى مراجعة مواقفها, والإفراج عن المساعدات, وتزويد مصر بالأسلحة المتفق عليها, كما حدث فى طائرات الأباتشى وطائرات الإف16 واستئناف مناورات النجم الساطع, واستئناف الحوار الإستراتيجى بعد انقطاع ست سنوات, والذى أسهم نسبيا فى ترميم بعض الشقوق فى جدار العلاقات القوى بين البلدين, لكن تظل بعض الثقوب فى ظل استمرار الاختلافات فى المواقف حول بعض القضايا العالقة كوضعية الإخوان المسلمين, حيث تصنفها الحكومة المصرية كجماعة إرهابية مارست العنف ضد المجتمع والدولة, بينما تصر واشنطن على دمجها سياسيا, كذلك قضية الدور الأمريكى المطلوب فى عملية السلام, الذى تراجع بشكل كامل وهو ما ساهم فى تزايد العدوان الإسرائيلى على الشعب الفلسطينى وتوارى القضية الفلسطينية وتراجعها على الأجندة الدولية, إضافة لقضية الإستراتيجية المثلى للحرب على الإرهاب, فالإستراتيجية الأمريكية الحالية فى محاربة الإرهاب وتنظيم داعش الإرهابى ثبت عدم جدواها, ولم يعد هناك مفر من الحل السياسى وضرورة المواجهة الشاملة للإرهاب. كذلك الموقف من إيران ما بعد اتفاقها النووى مع الغرب والمخاوف المصرية والخليجية المشروعة من تمدد نفوذ إيران وتزايد دورها السلبى فى المنطقة وفى اشتعال وتعقد أزماتها, وفى ظل التقارب الأمريكى مع طهران على حساب المصالح العربية. وبالتالى فإن العلاقات المصرية الأمريكية ترتكز على جانبين: جانب الاستمرارية التى تفرضها المصالح الإستراتيجية المشتركة والتى لا تتأثر بتغير الإدارة الأمريكية, ومن ثم استمرار التعاون الثنائى العسكرى والاقتصادي, ومواجهة الإرهاب والتنسيق حول قضايا المنطقة, وجانب التغير المرتبط بالسياسة الأمريكية تجاه الديمقراطية والإصلاح السياسى وملف الحريات وحقوق الإنسان فى مصر. ورغم حرص واشنطن على الفصل والتعايش بين الأمرين, إلا أن التطبيع الكامل فى العلاقات أو استمرار حالة الشد مرهون بالأساس بواشنطن ومدى تغييرها مواقفها وتخليها عن المشروطية السياسية وربط المساعدات بالديمقراطية وفرض مسار معين للتفاعلات السياسية الداخلية المصرية, والذى كان سائدا إبان نظام مبارك, كما أنه مرهون أكثر بتغير الإدارة الحالية, التى لا نتوقع تغييرا كبيرا فى مواقفها من القضايا الداخلية المصرية, وقدوم إدارة جديدة تستوعب حقيقة التغيرات فى مصر وطبيعة السياسة الخارجية المصرية ما بعد ثورتين, وأدت إلى تغيير قواعد اللعبة والنمط التقليدى للعلاقات الذى استمر لعقود بينهما, لكن فى كل الأحوال فإن مستوى العلاقات المصرية الأمريكية سوف يظل يتراوح بين حالة اللاتطبيع واللاتباعد مع تعايش المصالح المشتركة. لمزيد من مقالات د . أحمد سيد أحمد