لا تثير علاقة بين دولتين يفترض أن بينهما علاقات تسمى الاستريجية جدلا مثلما تثيره العلاقة بين مصر وأمريكا إلى الحد الذى لم تعد طبيعة هذه العلاقات مفهومة، فعدد المرات التى شهدت فيها توترا منذ عودتها فى السبعينيات بعد قطيعة وعداوة كاملة استمرت طوال الستينيات، أكثر من أن تحصى. ولا يسرى ذلك فقط على مرحلة ما بعد 30 يونيو بسبب المواقف الأمريكية السلبية، ولكنها كانت كذلك أيضا خلال فترة حكم مبارك خاصة فى السنوات الأخيرة منه . وفى كل مرة تتصاعد لغة الخلاف و تتباعد المواقف و تجتهد وسائل الإعلام من الجانبين فى انتقاد الطرف الآخر بلغة صاخبة متوعدة حتى يظن البعض أن تلك العلاقات قد وصلت إلى طريق مسدود أو إلى نقطة اللاعودة، ثم فجأة تأتى لحظات أخرى تسجلها عدسات الكاميرات واللقاءات الرسمية تناقض كل ما سبق، وتؤكد على عمق «المشاركة الاستراتيجية» بين الدولتين ، ثم ما تلبث أن تعود العلاقات إلى سيرتها الأولى حتى باتت هذه التقلبات والتناقضات «نمطا» للعلاقة وكأنها تدور فى حلقة مفرغة . ولا تخرج زيارة جون كيرى، وزير الخارجية الأمريكية للقاهرة عن هذا النمط، فرغم أهميتها الرمزية و إعلانها عن قرب الإفراج عن دفعة من المساعدات الأمريكية (527 مليون دولار ) ومعها صفقة طائرات الأباتشى المتأخرة، إلا أن ذلك لا يعنى أن هذه الخطوات الجزئية قد أجابت عن كل التساؤلات والمشكلات التى تعترى علاقات القاهرةبواشنطن فى هذه المرحلة الدقيقة التى تمر بها منطقة الشرق الأوسط برمتها. ففيما يخص العلاقات مع مصر مازال الملف مفتوحا، إذ إنه قبيل زيارة كيرى، كانت لجنة الاعتمادات الخارجية بالكونجرس قد صوتت بأغلبية كبيرة على مشروع قانون بتخفيض المساعدات الأمريكية لمصر بمقدار 400 مليون دولار للعام المالى الجديد أى العام القادم، بواقع 300 مليون دولار من المساعدات العسكرية البالغة 1٫3 مليون دولار وهو أمر غير مسبوق و100 مليون أخرى من المساعدات الاقتصادية، صحيح أن مجلس النواب لم يقر هذا المشروع و اتجه إلى الإبقاء على المساعدات كما هى، إلا أنه يظل مؤشرا على عدم ثبات مواقف الدوائر ذات التأثير و النفوذ على صناعة القرار و توجيه السياسات الأمريكية. وقبل ذلك كان هناك مشروع قانون آخر أُقر فعلا من مجلسى الشيوخ والنواب منذ شهور قليلة يخص الاعتماد السنوى الحالى للمساعدات الموجهة لمصر (التى جمدتها واشنطن عقب 30 يونيو) والذى وضع قيودا على الإفراج عنها و جعلها على دفعات مشروطة بشهادة دورية، يقدمها وزير الخارجية الأمريكية للجنة الاعتمادات بالكونجرس تتعلق بثلاثة أمور أساسية وهى، التزام مصر بمعاهدة السلام، محاربة الإرهاب فى سيناء، وأخيرا مدى التقدم فى التحول الديمقراطى فى الداخل. وبالتالى فالإعلان عن تسليم دفعة من تلك المساعدات التى أعلن عنها كيرى فى زيارته، هى ترجمة لهذا القرار. وهو أمر قابل للتغيير أو التعديل سلبا أو إيجابا، وفقا لتقييم الأحداث على أرض الواقع كما ينص هذا القانون . أما عن تقارير مراكز الأبحاث الأمريكية، التى تلعب دورا أساسيا فى توجيه السياسات العامة و الخارجية، فأغلبها يحمل تقييمات سلبية للأوضاع فى مصر، وكذلك الحال بالنسبة لكثير من كبريات الصحف الأمريكية مثل «الواشنطن بوست»، «النيويورك تايمز»، أو تلك المتخصصة مثل «الفورين بوليسى»، اذ مازالت تتحدث عما تسميه «الديمقراطية الزائفة» بل تنتقد موقف أوباما من الحكم الجديد فى مصر و تصفه ب «الضعيف». ولاشك أن الضجة التى أثارتها تلك الدوائر مؤخرا حول ما تعتبره انتهاكات لحريات التعبير والتقييد على النشطاء السياسيين بمناسبة الأحكام التى صدرت مؤخرا ضد المجموعة المعروفة إعلاميا ب «خلية الماريوت»، وهى انتقادات أو مواقف لا تبدو بعيدة عن موقف كيرى نفسه، ومن الشأن الداخلى إلى الأوضاع الإقليمية، يظل غموض المواقف محل تساؤل أيضا، فقد صرح كيرى بأن جانبا مهما من زيارته لمصر يتعلق بأزمة العراق الذى يحتدم فيه الصراع الآن بين حكومة المالكى الشيعية المدعومة من إيران والمعارضة السنية المسلحة التى يمثلها التنظيم المتطرف داعش (الدولة الاسلامية فى العراق والشام) والمعروف أن هذا الصراع المسلح ليس سوى مظهر من مظاهر الفشل السياسى فى تحقيق التعايش والتوافق الوطنى بين مختلف القوى السياسية والاجتماعية الموزعة بين تيارات ومذاهب وطوائف وقبائل وعشائر ويرتبط كل منها بقوى مختلفة دوليا (أمريكا فى المقدمة وتليها روسيا) وإقليميا (إيران فى الجانب الشيعى و السعودية فى الجانب السنى) وقد أعلنت السعودية صراحة أنه لا حل سياسى للصراع فى العراق فى حال استمرار حكومة المالكى التى تنتهج سياسة اقصائية ضد السنة. ولن يختلف موقف مصر كثيرا عن مثيله السعودى بحكم التحالف الاقليمى الحالى بينهما. أما الولاياتالمتحدة التى انفتحت مؤخرا على طهران فقد يكون لها اعتبارات و حسابات مختلفة رغم استمرار تحالفها التقليدى مع الرياض، أى أنها قد لا تحسم موقفا لمصلحة أحد طرفى الصراع العراقى (تحديدا السنة والشيعة) أو لا تُمكن طرفا من تحقيق انتصار كامل على الطرف الآخر، ونفس الشيء ينطبق على الحالة السورية إذ يرتبط الملفان السورى والعراقى بحكم التداخل بين كثير من أطراف الصراع محليا وإقليميا ودوليا. وفى نفس السياق مازالت بعض الدوائر تتحدث عن سيناريوهات مطروحة للتقسيم فى إطار ما يعرف ب «سايكس بيكو» الجديدة نسبة الى الاتفاقيات التى حملت نفس الاسم بعد الحرب العالمية الأولى وقسمت تلك المنطقة تحديدا، التى كانت تعرف ببلاد الشام أو سوريا الكبرى أو الهلال الخصيب، إلى دول و دويلات أخذت بريطانيا بعضها وفرنسا بعضها الآخر. وهذه السيناريوهات ربما تزداد احتمالاتها مع تصريح أوباما الأخير حول أزمتى العراق و سوريا ، بأنه «ليس هناك معارضة معتدلة تضمن حلا سياسىا فى الحالتين» وهو ما يعنى أن حل هذه الصراعات قد يُترك لتوازن القوى على الأرض. وهذا يعنى أن مواقف القوى الدولية والإقليمية قد تتباعد بأكثر ما تتقارب فى لحظات الحسم والاختيار، فلكل حساباته، أمريكا، روسيا، السعودية، مصر، ايران، والدول الاقليمية الأخرى التى مازالت تتصارع على النفوذ فى هذا الاقليم المضطرب, وهو ما يلقى بظلاله مرة أخرى على العلاقات المصرية الأمريكية، فواشنطن تنتظر أن تتوافق التوجهات المصرية مع سياستها، والقاهرة من جانبها تسعى لاستقلالية قرارها وسياستها، وبين هذا الموقف وذاك تظل معضلة العلاقة بين البلدين . لمزيد من مقالات د . هالة مصطفى