تداولت الصحف على مدى الأيام القليلة الماضية العديد من القضايا المتعلقة بالرشاوى من جانب البعض للحصول على امتيازات معينة تتعلق بممارسات او مزايدات قامت بها بعض أجهزة الدولة، وهو ما يجعل المشتريات الحكومية تمثل قضية أساسية ومحورية فى الشفافية والفساد، خاصة وان الحكومة مازالت هى المنتج الرئيسى للعديد من السلع والخدمات، كما أنها المستهلك الأساسى لسلع وخدمات كثيرة. ويتسع نطاق المعاملات الحكومية بصورة كبيرة، إذ لا يقتصر على مجرد شراء السلع والخدمات التى تحتاجها أجهزة الدولة والتى تظهر ضمن الباب الثانى للموازنة العامة للدولة (شراء السلع والخدمات)، ولكنها تمتد لتشمل كذلك الباب السادس (الاستثمارات) حيث يرتبط بكافة المشروعات الاستثمارية التى تقوم بها أجهزة الدولة مثل مشروعات البنية الأساسية كالطرق والمرافق، وكذلك شبكات السكك الحديدية والموانئ والمطارات، كما تشمل كذلك الخدمات العديدة مثل نقل البضائع والركاب وغيرها. كما انها تتضمن الأعمال التى تقوم بها أجهزة الدولة المعنية (الجهاز الإدارى للدولة أو الهيئات الخدمية والمحليات) جنبا إلى جنب مع الهيئات الاقتصادية، وكذلك شركات قطاع الأعمال العام أو شركات القطاع العام فضلا عن الشركات القابضة المملوكة للدولة. ويضاف إليها المشروعات المشتركة بين الحكومة والقطاع الخاص. وتتزايد عمليات انعدام الشفافية والفساد فى المشتريات الحكومية إذا توافرت مجموعة من الأمور والشروط منها، على سبيل المثال وليس الحصر، قصر توريد الخدمة على عدد صغير من الموردين أو الشركات، إذ إنه كلما كان عدد الشركات قليلا أدى ذلك إلى زيادة احتمالية التواطؤ فى العملية.ووضع العراقيل أمام مشاركة المجموع الأكبر من المنتجين وبما يخدم مصلحة فئة محددة هى التى تدرج ضمن قوائم الموردين، وحرمان الباقى من هذه العملية، وبالتالى عدم دخول موردين جدد إلى لائحة المشتريات الحكومية. ولا يخفى ما لسوء تنظيم المشتريات الحكومية من آثار على المجتمع ككل إذ تؤدى إلى زيادة تكاليف الحصول على الخدمة أو السلعة الحكومية مع ما يؤديه ذلك من زيادات فى التكاليف والأعباء على الخزانة العامة للدولة. ومن ثم يعيق عملية النمو الاقتصادي. كما يمكن أن يضر بمناخ الاستثمار وبيئة الأعمال، حيث يشوه عملية وضع السياسات على نطاق واسع وتقوض مصداقية الحكومة، كما أنه يمثل ضريبة إضافية على نشاط الأعمال، وبالتالى تحويل الموارد بعيدا عن الخزانة العامة للدولة. وكان من الطبيعى فى ظل هذه الآثار السلبية أن تحظى بالاهتمام العالمى جنبا إلى جنب مع الاهتمام المحلي، وذلك نتيجة التشابكات والتداخلات التى أصبحت السمة الأساسية للاقتصاد العالمى فى ظل العولمة الحالية، وهو ما تبلور فى اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد والتى تطالب بوضع نظام للمشتريات الحكومية شفاف وتنافسى وقائم على معايير موضوعية تمكن الجميع من المشاركة. لكل ما سبق يصبح من الضرورى العمل على إجراء تحديث جذرى فى الفلسفة التى يستند إليها نظم المشتريات الحكومية، وإعادة النظر فى قانون المناقصات والمزايدات رقم 89 لسنة 1998باعتباره القانون المنظم لعملية المشتريات الحكومية، حيث يقوم بتنظيم كافة الإجراءات والأمور المرتبطة بالمشتريات والمبيعات الحكومية، اى تلك التى تبرمها جهات الدولة. وقد أشار القانون إلى ضرورة ان تخضع كل المناقصات العامة والممارسات العامة لمبادئ العلانية وتكافؤ الفرص والمساواة وحرية المنافسة. كمبدأ عام، مع وضع العديد من الاستثناءات التى تجعل التعاقد يتم عن طريق المناقصة المحدودة أو المناقصة المحلية أو الممارسة المحدودة أو الاتفاق المباشر، بشروط محددة فى القانون. وعلى الجانب الآخر فقد شهدت الفترة الماضية إدخال العديد من التعديلات التى أثرت بالسلب على القانون الأصلى ومن أهمها القانون رقم 191 لسنة 2008 حيث استبدل نص المادة 122 مكررا 1 والتى أصبحت تنص على جواز تعديل العقود التى تكون مدة تنفيذها ستة اشهر فأكثر فى نهاية كل ثلاثة اشهر تعاقدية بتعديل قيمة العقد وفقا للزيادة أو النقص فى تكاليف بنود العقد التى طرأت بعد التاريخ المحدد لفتح المظاريف الفنية أو بعد تاريخ التعاقد المبنى على الأمر المباشر، وذلك وفقا لمعاملات يحددها المقاول فى عطائه، ويتم التعاقد على أساسها، وقد كانت المدة المنصوص عليها قبل هذا التعديل هى سنة، وهى تعديلات تجعل المنافسة معدومة وتفتح أبوابا كثيرة للتلاعب فى هذه العطاءات خاصة وان فترة الأشهر الثلاثة قصيرة للغاية، وتؤثر بالسلب على التنافس الحر والمساواة فى الحصول على العقود. مع مراعاة ان هناك قوانين أخرى تؤثر فى هذه العملية، خاصة فى مجال النقل والبنية الأساسية مثل القانون رقم 149 لسنة 2006 والذى أجاز منح التزامات المرافق العامة للمستثمرين لإنشاء خطوط وشبكات السكك الحديدية الجديدة وتشغيلها، كذلك أتاح القانون رقم 229 لسنة 1996 تنظيم مشاركة القطاع الخاص فى مجال الطرق، وفى مجال الطيران المدنى اتاح القانون رقم 28 لسنة 1981 والخاص بالطيران المدنى والقانون رقم 3 لسنة 1997 والخاص بمنح الالتزام للمرافق العامة للقطاع الخاص، إنشاء وإدارة واستغلال المطارات، ومن جانب آخر فقد أتاح القانون رقم 1 لسنة 1998 للقطاع الخاص الفرصة لإنشاء الموانئ والأرصفة. مما سبق يتضح لنا أن التعامل الجدى مع المشكلة يجب أن يدور حول تعديل قانون المناقصات والمزايدات الحالى بغية العمل على تجنب وضع الحواجز غير الضرورية التى قد تقلل من عدد مقدمى العطاءات عن طريق وضع حدود دنيا من الشروط تتناسب مع حجم ومحتوى العقود، والتأكد إن أمكن من أن المبالغ المطلوبة للعطاءات توضع بشكل مناسب للجميع ومتسقة مع الهدف المراد الحصول عليه. جنبا الى جنب مع تسهيل إجراءات التقدم للمشتريات الحكومية والسماح لها بوقت كافٍ لكى تتمكن من تقديم العطاءات مع العمل على نشر التفاصيل من خلال الصحف والمواقع الإلكترونية. وتحديد الشروط بأقصى قدر ممكن من الوضوح والشفافية عند طرح المناقصة مع ضرورة تحديد المواصفات بما يسمح بوجود منتجات بديلة كلما أمكن ذلك، والعناية باختيار المعايير. كما يجب ألا تؤدى إلى إعاقة أصحاب المشاريع الصغيرة او متوسطة الحجم خاصة عند وضع معايير غير سعرية (مثل جودة المنتج وخدمة ما بعد البيع...الخ) كما يجب وصف وتحديد هذه المعايير مسبقا بشكل كاف. ووضع أطر وقواعد واضحة تضمن لكافة الأطراف حقوقها وتتيح تأدية الخدمة الحكومية فى أقصر وقت وبأقل تكلفة وبأعلى مستوى من الإنتاجية. وهذه المسألة تتطلب إنشاء آلية منظمة وفاعلة لتقديم الشكاوى من جانب الشركات للإبلاغ عن اى مشكلة تتعلق بالشفافية او الممارسة مع الأخذ بالحسبان وجود نظام لحماية الشهود والمبلغين. مع إحكام الرقابة والسيطرة التنظيمية على الأسواق بما يرفع من كفاءة الخدمة العامة ويقضى على الممارسات السلبية ويتيح العمل فى إطار مؤسسى وفقا لقواعد ومعايير محددة فنيا واقتصاديا وماليا. وكلها أمور تؤدى فى النهايةإلى خفض التكاليف ورفع الكفاءة الإنتاجيةوالتخلص من أعباء البيروقراطية الحكومية التى تحد كثيرا من فاعلية هذه المسألة، وتعزيز المنافسة والشفافية فى المشتريات الحكومية والمناقصات العامة والحد من مخاطر التواطؤ، وذلك عن طريق توفير كافة المعلومات اللازمة عند طرح المناقصة او الممارسة الحكومية. لمزيد من مقالات عبد الفتاح الجبالي