باستئناف الحوار الاستراتيجى بين القاهرة وواشنطن فى أغسطس 2015، تكون الولاياتالمتحدة قد أحدثت استدارة استراتيجية فى سياستها الخارجية نحو مصر، بعد سنوات من تجريب مسار انتهى بالفشل. مع ذلك يمكن أن ترتد العلاقات أشد توترا إذا عاودت إدارة أوباما سياساتها وسلوكها ثانية. فلم تعد العلاقات قابلة للعودة إلى مرحلة عصر مبارك، ولا مرحلة الابتزاز السياسى خلال سنوات الثورة، ولكنها –مع ذلك- ما زالت غير قادرة بعد على أن ترتقى إلى علاقة ندية مناظرة للعلاقة الأمريكية مع إيران. فعلى مدى السنوات 2011 - 2015 لم تتعامل إدارة أوباما مع مصر باعتبارها دولة ذات أهمية استراتيجية وتمثل مفتاحا للإقليم العربي، وإنما سعت إلى تهميشها، وتصرفت بمصلحية وانتهازية بحتة مستفيدة من سنوات طويلة انتهت بمصر إلى علاقة أقرب إلى التبعية. فوجهت انتقادات للأوضاع الداخلية، وتبنت إجراءات عقابية لا تمارس بين الأصدقاء أو الحلفاء؛ فتدخلت للدفاع عن الجمعيات الحقوقية والنشطاء السياسيين، وتباطأت فى تسليم طائرات الأباتشى وإف 16، وعملت على تخفيض المعونة العسكرية والاقتصادية، ووقفت متفرجة أمام الإرهاب الذى تعرض له المصريون. وبإيجاز راهنت الولاياتالمتحدة على فصيل سياسى وحيد، واصطفت طائفة وقررت منحها الفرصة كاملة للتجريب فى دولة مثقلة بالهموم وب 90 مليون مواطن. تغيير الوجهة لقد أظهرت تصريحات وزير الخارجية جون كيرى فى جلسات الحوار الإستراتيجى انكسار هذا الاتجاه؛ فبينما استمرت بعض جوانب لغة الخطاب التى تستبطن النقد والهجوم، فإن الوجهة الكلية للخطاب اتجهت للتغيير؛ فليس هذا هو الخطاب الأمريكى بعد 11 سبتمبر خلال إدارة بوش، ولا هو خطاب إدارة أوباما بعد 30 يونيو 2013. ويشير ذلك إلى نتيجة رئيسية توصلت لها إدارة أوباما، وهى أنها تخسر الأصدقاء والحلفاء، دون أن تضمن أصدقاء وحلفاء جددا، وأنها خسرت كثيرا برهانها على قوى ما دون الدولة. وعلى الرغم من أن هذا التصحيح يأتى متأخرا، إلا أنه يؤكد أن منطق التفكير الأمريكى يتميز على منطق التفكير القبيلى لقطر وتركيا - أردوغان. فعلى الرغم من أن إدارة أوباما كانت بطيئة الاستجابة، فإنها لم تتصلب فى الرؤية أو تمانع تغيير سياستها بكل واقعية، لأن المصالح القومية هى الأهم وليس الرؤية الأيديولوجية أو العناد الشخصي، كما أنه بالنسبة لها فإن الإخوان ليسوا سوى أوراق لعبة، والعلاقة بينها وبينهم ليست علاقة بيولوجية أو رابطة أيديولوجية، وهو ما أوقع كلا من قطر وتركيا ضحيتين للعمى الأيديولوجي. والسؤال هو: ما حدود الثبات فى السياسة الأمريكية تجاه مصر؟ وهل تعاود الولاياتالمتحدة تجريب سياساتها ومواقفها سالفة الذكر، وإلى أى حد تعيد توظيف هذه الكروت والأوراق؟ بالتأكيد اكتسبت إدارة أوباما حكمة أكثر بعد سبع سنوات فى الحكم، وهى الآن تستعد لتمهيد الأرضية للقادم الجديد إلى البيت الأبيض. وتاريخيا، لم تكن هذه الإدارة هى التى بدأت الانقلاب على الأصدقاء، وإنما بدأ ذلك فى مرحلة الرئيس بوش الذى فضلت إدارته التعامل مع الدول الصغيرة على حساب الكبيرة، واعتبرت أن بإمكانها ضبط تفاعلات الإقليم أكثر إذا عززت تحالفها مع قطر وليس السعودية أو مصر. التوازن الإقليمي إن المتمعن فى تصريح أوباما منذ أيام يخلص إلى ما يشبه تصور أمريكى جديد للتوازن الإقليمي، حين أكد أننا أنفقنا 3 تريليونات دولار بحرب العراق وافتقدنا الحكمة، وأن «الميزة الوحيدة التى حصلنا عليها من هذه الحرب أن نعزز من جمهورية إيران الإسلامية بسبب زوال منافسيها(العراق)». فهل يشير ذلك إلى مسعى أمريكى لتعزيز مكافئ إقليمى لإيران فى المنطقة، بتحالف عربى تقوده السعودية ومصر والإمارات. وإذا أوغلنا أكثر فى التفكير فى النيات، فإنه ربما أراد إحياء نظام أمنى بديل للخليج يجرى إنضاجه، وهو خيار إقليمى قبل أن يكون توجها أمريكيا، بتعزيز العلاقات الخليجية المصرية كمكافئ استراتيجى عربى لإيران. وربما يؤكد ذلك عملية إعادة قراءة الاتفاق النووى من قبل الحلفاء الخليجيين، الذين أكدت كتاباتهم أخيرا أن الاتفاق يصب فى مصلحتهم، وأنه يحجّم إيران. فى ضوء ذلك من المؤكد أن أى عراقيل جديدة تنشأ عن الأوضاع الداخلية فى مصر لن تكون عقبة فى تطوير العلاقات، وأن ملف النشطاء والحقوق والحريات والإخوان وملفات الوضع الداخلى قد تراجعت ضمن الأولوية الراهنة لإدارة أوباما، وأن ما يشغلها أكثر هو حالة الإقليم وعالم الدول. ولا يعنى ذلك أنها لن تعاود توظيف هذه الملفات مع مصر، أو اختفاء انتقاداتها للأوضاع الداخلية، لكنها فى الأغلب ستكون على غرار حديث أوباما عرضا عن الأوضاع فى دول الخليج خلال حواره مع توماس فريدمان. تصحيح المفاهيم تتبدى أهم عراقيل العلاقات المصرية الأمريكية فى الاختلاف حول المفاهيم؛ فبعد أربعة عقود تقريبا ومنذ حرب أكتوبر 1973، انتهى الأمر بأن أصبحت العلاقات مختلة تماما؛ تدخلية من جانب أمريكا واستسلامية من جانب مصر، ووفق الدبلوماسية المصرية التى مالت إلى التسكين وإطفاء الحرائق، سارت العلاقات بهدوء وتجاوزت حرائق كثيرة فى محطات متعددة، حتى انفجرت فى شكل سوء فهم كبير بعد الثورة. فبعد أن بدا تباين مصالح بين المصريين واختلاف حول الوضع الداخلى اعتقدت إدارة أوباما أنها فرصة ذهبية لقطف الثمار فى مجتمع ودولة منكوبين بكل الثقوب والثغرات. لقد برزت الأخطاء فى المفاهيم بعد أربعة عقود من تحالف استراتيجي، لتقدم نموذجا سيئا لكيف تنتهى علاقات أمريكا بالدول الحليفة، وهو ما تبدى فى عدد من الثنائيات التى كشفت عن أن الخلاف ليس فى السياسات فحسب وإنما فى المفاهيم والثقافة؛ حيث برزت ثنائية الحريات والإرهاب، حين فقدت الإدارة القدرة على التمييز بين الاثنين، وغضت الطرف عن محاولة جماعات وفصائل حسم الخلاف الداخلى بالعنف والإرهاب. وانتظرت ثلاث سنوات تراهن على قوى الإسلام السياسي، التى فضلتهم على الليبراليين والنشطاء والدولة والجيش. ولقد عزز ذلك مشاعر المصريين بعدم الثقة فى أمريكا على نحو ما كشفته استطلاعات الرأى العام غير الدورية والشعارات المرفوعة فى ميدان التحرير. الرؤى الحدية أما الثنائية الثانية فهى الحقوق والأمن القومي، فلم يكن من الصعب على الولاياتالمتحدة بأجهزتها الاستخباراتية والمعلوماتية العجز عن الاكتشاف المبكر لإمكان وقوع الدول العربية فى حرب أهلية طاحنة وحكم جماعات الإرهاب، إذا انهارت الجيوش. لقد بدا الفهم الأمريكى لأوضاع مصر متراوحا بين رؤيتين، إما الإيمان بفكر الفوضى الخلاقة، التى تعنى الثقة بإيجابية تمكين البشر من إطلاق طاقاتهم، وهى تتغافل عن أن بعض البشر فى مجتمعات هذه المنطقة يحملون فى صدورهم وعقولهم حمما وشرورا ونيران غضب يمكنها حرق الأخضر واليابس، أو أنها استبطنت نيات سيئة للدول لإدخالها فى حروب طويلة، وفى كلا الأمرين خطأ كبير. أما الثنائية الثالثة فهى ثنائية الدولة والجماعة: حيث وضعت الإدارة الدولة فى كفة والجماعة فى كفة أخرى، ورجحت كفة الجماعة على الدولة. وصحيح أن إسقاط الجماعة يمكن رؤيته فى وقتها -بالمنظور الأمريكى والغربي- على أنه ضد الديمقراطية، لكن كان بالإمكان على أجهزة صنع القرار فى هذه الدول معرفة ماذا يعنى تجاهل الواقع فى مجتمعات تستبطن كل عوامل الخلاف والعداء، وماذا يعنى تشجيع طرف داخلى على العصيان وإيقاظ الفتنة. لقد راهنت إدارة أوباما على طرف اعتقدت أنه قوى فى اللحظة لاغتنام الفرصة والقفز على السلطة. وفى الوقت الذى سعت إلى إطلاق طاقات البشر فى مصر (انحيازا للفوضى الخلاقة)، لم تكن لديها القدرة على التعامل إلا مع طرف وحيد هو الإخوان. أربعة متطلبات وفى الأخير، لن يجرى تصحيح العلاقة مع الولاياتالمتحدة إلا بعد التشديد على أربعة أمور: العودة إلى علاقات الدولة – دولة: فسوف تظل العلاقات تتسم بالخلل طالما فرطت الدولة فى مصر فى وضعية الندية فى التعامل مع الولاياتالمتحدة، لتصل الأمور بعد سنوات إلى حالة شبيهة بحالة دولة أواخر عصر مبارك، التى خُدش حياءها بعد أن أُثقلت بهموم التوريث. فمن المهم بناء قواعد اللعبة الداخلية عبر الاحتكام السياسى بين المصريين وبموازين القوى المصرية، عبر حالة استقلالية تجمع بين صلابة عبدالناصر وبراجماتية السادات، وتتخلص من تركة مبارك. تقليص المنافع الحيوية الحصرية: ستظل عقلية الاستحواز الأمريكية قائمة فى التعامل مع مصر، طالما ظل حجم الشراكات الحصرية فى المجالات الحيوية بين مصر والولاياتالمتحدة مطبقا على عنق الدولة، فمن الممكن إيجاد بدائل استراتيجية للولايات المتحدة فى الصادرات والواردات الاقتصادية، لكن من المهم فك الارتباط معها فى الشراكات التى أصبحت حصرية، خصوصا صادرات السلاح والمعونة العسكرية، التى اعتادت عليها البيروقراطية المصرية المدنية والعسكرية، وهو ما شكل أكبر خطيئة فى حق مصر. وفى السياق ذاته أيضا من المهم فض الأشكال والمعاملات التمييزية للجمعيات والأنشطة الحقوقية العاملة فى مصر، ومراقبة التزامها بالمعايير الدولية والقيمية. تطوير النموذج القيمى والنهضوى الداخلي: تجربة إيران نموذج يجب علينا الاستفادة به ودراسته جيدا، فلم تكن الولاياتالمتحدة لتحترم إيران، وتنكسر أمامها بالاتفاق النووي، لولا قدرة الأخيرة على تطوير بدائلها الداخلية، وتأكيد وضعيتها بأنها لاعب لا يمكن التغاضى عنه فى الحسابات الدولية، وتؤكد تجربة إيران أن امتلاك أوراق الضغط على أمريكا والتعامل معها من زاوية علاقات التناظر أجدى وأكثر نفعا من الوفاء فى العلاقات معها. ولذلك من المهم أن تسعى مصر خلال السنوات المقبلة إلى الحفر لأجل بناء معادلة علاقات جديدة، قائمة على الندية والاقتدار الداخلي، وفى وقت الضرورة التخلى الكامل عن العلاقة حالة تكثيف الضغوط. الاستمرار فى التحالف الاستراتيجى العربي: من أكثر ما دفع الولاياتالمتحدة لتعديل مواقفها نحو مصر، هو قدرة مصر على إعادة الإمساك بأوراق اللعبة الداخلية، ونجاحها فى البحث عن خيارات وبدائل لتحالفات دولية فى الخارج، من خلال تصحيح العلاقة مع روسيا والصين، وبعض المجموعات الدولية، والاستمرار فى سياسة توسيع الخيارات والشراكات الاستراتيجية هو أكثر ما يعيد الولاياتالمتحدة إلى مصر. لكن الأهم من كل ذلك هو اتجاه المنطقة إلى تفعيل خياراتها من داخلها عبر الشراكات والتعاون البينى فى ما يشبه تحالفا استراتيجيا منيعا، ربما يشكل اجتيازا لعراقيل كثيرة، مازالت تعرقل الفكر العربى أكثر مما تعرقل الواقع. وإن نموذجا من إعلان القاهرة بين مصر والسعودية هو أكثر ما يدفع إدارة أوباما على استعادة وبناء علاقات قائمة على الاحترام.