اقترحت عليه الفكرة، فلم يبد عليه التحمس لها، لم أيأس لأن هذا هو رد فعله تقريبا لكل شىء! لا يشكو، لا يتذمر، لا يطلب أو يقترح. ألححت، فلم يحتج، أخبرته أنى سجلت اسمه بالفعل فلم يعترض. تأجل موعد الرحلة عدة مرات لظروف خاصة بالموقع وتنظيم الزيارات. لم يبد عليه أي اعتراض أو ترحيب. تحدد الموعد ليكون فى أكتوبر القادم وتملكنى إحباط كبير عندما أخبرته فلم يرد ولم يعقب. فجأة تحدد أن يكون موعد الرحلة بعد عشرة أيام. هكذا كنا على موعد فى ذلك اليوم، حيث ألقاه على “الجبهة” لنزور معا موقع مشروع قناة السويس الجديدة. لم تنته الحرب بالنسبة له أو لى!! لذلك ستظل ضفة القناة لكلينا دائماً هى “الجبهة”! زففت إليه الخبر، أخبرته بالموعد النهائي: الأول من إبريل 2015، وأكدت عليه ضرورة الحضور فى الموعد المحدد. “ أريد أن أرى الجبهة معك وبعينيك”! فلم يقل سوى “إن شاء الله يا حبيبتي”! عندما انطلقت بنا الحافلة لم يكن معنا، رغم أنى حجزت له مقعده بجانبى. لكن عند وصولنا موقع المشروع وجدته بالفعل هناك، يقف بين الضباط والمجندين بزيه العسكري، هادئا راضيا كما أعرفه. ... استمعنا للشرح ثم بدأنا جولتنا معا.. أنا وعمى إبراهيم. ... شارك فى حرب 67، والاستنزاف وأكتوبر، وشاهد رفاقه فى الكتيبة 330 مدفعية، لواء 12 مشاة يتحولون إلى أشلاء تطير فى الهواء. عبر عمى إبراهيم القناة عشرات المرات من الضفة الغربية إلى الشرقية وبالعكس، عدة مرات، من موقع كتيبته إلى بيته فى القاهرة وبالعكس، ومن صحراء سيناء إلى سجن عتليت ثم إلى القاهرة ومن القاهرة إلى سيناء. لكنه هذه المرة يعبرها معى! شاهد مجرى القناة الجديدة، تأمل الكراكات والبلدوزرات والعمال وسيارات النقل تعمل كأنها خلية نحل، لمحت الدهشة تومض فى عينيه تعقبها ابتسامته الوادعة. ... يقشر لى عمى ابراهيم البرتقالة فى شكل وردة ثم يفصصها لى، ويلون لى كراساتى ويرسم لى ورودا وفراشات على حواف الصفحات، ويعطينى هدايا صغيرة تبهجنى وحلوى، ويعد لى بيديه الشاى والعصير والقرفة بالسمسم واللبن، ويصر على أن أنهى طبق الكريم كراميل، ويضع أمامى الصينية الممتلئة بما أعده لى من أطباق قرع العسل المكسو بالمكسرات وكعكة البسكويت بالشوكولاتة والآيس كريم والبطاطا الحلوة بالبشامل والزبيب، ولا يترك لى حرية الرفض أو الاختيار. أحب أن أزوره مع والدى لكنه يظل صامتا معظم الوقت، يسألني عن أحوالى، ودراستى وقراءاتى، ثم يصمت. كل حكاياته أعرفها عن طريق والدى فى طريق ذهابنا إليه أو عودتنا. أقول لوالدى إنى أحب عمى إبراهيم لكنه لا يتكلم، فيرد ابى “لأنه رأى كل شىء”، لم يعد شىء يدهشه! الدهشة تدفعنا للكلام والبوح. نعلق على ما رأيناه أو نحاول أن نقترب من فهمه حتى نسكن دهشتنا او نزيدها تأججا، لكن الصمت يعنى أن الحياة فقدت قدرتها على ادهاشنا.. تخبو اللمعة فى أعيننا وننتظر النهاية فى صمت ودون مقاومة. ... وقع عمى إبراهيم فى الأسر فى سيناء ثم نال حريته فيها!! صدرت له الأوامر بالانسحاب من “مكسر الفناجيل”. لم تبد عندئذ الأوامر منطقية له أو لجنوده لأن موقعه حصين «لا يسمح بمرور نملة»، لكن الأوامر هى الأوامر. تم الانسحاب. حكاية العودة مريرة ومهينة، عندما أشرف عمى إبراهيم على الضفة الشرقية من القناة أراد العبور ليلا لكن جنوده كانوا منهكين وبعضهم لا يجيد السباحة، لم يكن يستطيع أن يعبر ويترك خلفه جنوده الذين توسلوا إليه أن يسمح لهم بالمبيت والعبور صباح اليوم التالى. نام الجنود وبَقى عمى مستيقظا يحرسهم ويعد لهم طوفا من ألواح خشب الأسِّرة من استراحة الضباط على القناة. فى الساعات الأولى من الصباح سمع عمى إبراهيم جنازير الدبابات الإسرائيلية تقترب من الاستراحة وتحاصرها. خرج الصوت غلمانيا رفيعا عاليا ومتوترا -وربما خائفا- يأمره بلهجة عربية غريبة أن يخرج من مخبئه ويرفع يديه “ويسَكِّر” عينيه، أحصى عمى إبراهيم عدد البنادق التى كانت مع مجموعته ثم اتخذ قراره أن يسلموا أنفسهم أسرى حرب. ... أصر عمى إبراهيم أن يعود إلى الجبهة، لم يكن هدفه أن يحرر الأرض فحسب كما كان عندما قرر الالتحاق بالكلية الحربية. زاد على الهدف ثأره الشخصى ممن أسروه وأطلقوا الرصاص على زملائه عندما تزاحموا على صنابير المياه فى المعتقل أو تقاتلوا على أوراق كرنب عفنة بعد أيام من الجوع! أنقذ عمى إبراهيم من الموت أنه كان مجهدا فلم يستطع أن يقوم مع من قاموا طلبا لشربة ماء فقتلوا!! لم ينخدع عمى إبراهيم بالمحاضرات والزيارات والهدايا التذكارية والمطبوعات المصقولة ومحاولات غسيل المخ لكن صوته سكن داخله فازداد صمتا!! أسر عمى إبراهيم بيديه طيارا اسرائيليا يصغره سنا ويفوقه قوة، تلك حكاية طويلة لا يحب أن يحكيها بنفسه، يرضيه أنه عاشها.. يكفيه أنه حَدَّق فى الخوف المرتعد فى عينىّ أسيره الإسرائيلي فعوضه عن مرارة تسعة أشهر فى الأسر وست سنوات على الجبهة انتظارا لهذه اللحظة. ... يكتفى بأن يجلس بيننا صامتا غير عابيء بعبارات الإعجاب ببطولته التى نحاصره بها، لكنى أستعيد الحكاية بكل تفاصيلها من والدى عند الطلب. يحكى لى كيف جلس عمى ابراهيم فى موقعه ليلا وخرج من ملجئه ليدخن سيجارة، عندما رأى عندئذ طائرة للعدو يصيبها صاروخ من مدفعيتنا فتتحول إلى كرة من لهب يندفع من جوفها مقعد الطيار منطلقا فى مدار مقوس بعيدا عنها فى صحرائنا. ألقى عمى إبراهيم سيجارته التى كان لتوه أشعلها وأنطلق بحماس عفوى تجاه موقع هبوط المقعد. عندما أشرف على تل رملى يختبيء خلفه الطيار وقف يراقبه. كان الطيار يلملم مظلته آملا ألا يكون هبوطه قد رصده الجيش المصرى. ألقى عمى إبراهيم بنفسه فوق الطيار الذى شعر به والتفت إليه وتشابكا فى معركة بالأيدي، بخبرته أدرك عمى إبراهيم أن الطيار شاب رياضى وشرس وشعر بيد الطيار تمتد خلسة إلى جيب جانبى حيث غالبا يخبىء سلاحه، عندئذ حسم عمى إبراهيم المعركة عندما عاجل الطيار الشاب بضربة قوية بجبهة رأسه كسرت أنفه، اكتسى وجه الطيار بدمائه وانقلب إلى طفل مذعور باكٍ. هنا نتوقف لنراجع عمى إبراهيم فى الحكاية التى يحكيها والدى فى حضوره “بالروسية يا عمو؟!”.. فيضحك عمى إبراهيم نصف ضحكة ويضع كوب الشاى على مائدة صغيرة أمامه ويقلب كفيه كأنه يقول لنا “ وماذا كنت أفعل؟” لا يحب عمى إبراهيم أن يتذكر أو يُذكره أحد ماذا حدث بعدما حاول العودة إلى وحدته فى الظلام “مجرجرا” خلفه الطيار الذى يترنح من أثر الضربة القوية ويئن من ألم أنفه المكسور، كيف استُقبل عمى إبراهيم عندما عاد بالطيار إلى صفوف الجيش المصرى؟ وماذا فعل بالطيار الإسرائيلي؟ تلك حكاية أخرى نهايتها ساخرة مريرة وموثقة غيرت مسار حياته. لم يعبأ بالنتائج، لكنه يعلم أن فى مكان ما فى إسرائيل الآن طيار حربى متقاعد يلمس أنفه المعوج الكبير فى خوف كلما سمع اسم مصر! ... فى الإسماعيلية زرت أنا وعمى إبراهيم «تبة الشجرة» التى شهدت بطولات أفراد الكتيبة 12 ، انتظرنى فى الخارج جالسا على التل الرملى، ودخلت أنا الموقع الذى احتله الإسرائيليون حتى حررته الكتيبة 12، وتجولت داخله وتسلقت الكثب الرملى صاعدة نحو القمة حيث رأيت النصب التذكاري فى موقع استشهاد الفريق عبدالمنعم رياض. كانت بيادة عمى ابراهيم تخطو برفق فوق الرمال الناعمة التى تكسو الموقع وتترك آثارا خفيفة عليها، تتبعنى تارة ثم تسبقنى تارة أخرى إلى القمة، وعندما انهارت الرمال تحت خطواتى وكدت أتعثر كانت يد عمى ابراهيم تنهضنى وتدفعنى نحو قمة التل. ... فى كل موقع نزوره كان يستسلم لرغبتى فى الاحتفاظ بحُفنات من رمال سيناء فى علب صغيرة، والتقاط الأحجار والحصى وجمعها فى أكياس بلاستيكية. يعلم أنها هواية حرصت عليها منذ بدأت سكة أسفارى المتعددة. كان يحمل الحبيبات البلورية الشفافة فى كفه بحنو وتتمتم شفتاه بآيات من القرآن وهو يدعها تنساب برفق فى العلب الصغيرة كأنه يضع رضيعا فى مهده! سأصنفها حسب الموقع الذى جمعتها منه، سأنسق الرمال والحصى والأحجار فى آنية زجاجية تتوسط مائدة عربية صغيرة فى حجرة المعيشة وسأتذكر وأستعيد حكاية كل حُفنة وموقعها، الرمال آلناعمة المشربة بحمرة التى استخرجت من قاع القناة الجديدة، أو التى كست سفح «تبة الشجرة»، أو الحبيبات الخشنة الملونة على قمة التبة. وسأهديه آنية يضعها على مكتبه لتذكرنا برحلتنا أنا وعَمَى إبراهيم إلى موقع القناة الجديدة. ... على ضفة القناة الجديدة جلسنا نحتسى كوبين من الشاى، ذكرت عمى إبراهيم عندما عاد من الجبهة أول مرة فى 73 وكان حريصا فى أول إجازة له أن يتوقف عند منزل صغير فى مصر الجديدة عند حديقة المريلاند قبل توجهه إلى بيته. وقفت طفلة فى السابعة تنظر بعينين مبهورتين إلى العربة الجيب المموهة التى توقفت أمام حديقة جدتها وقفز منها شاب وسيم بملابس عسكرية وبخطوات سريعة اقترب من الشرفة وقفز فوق سورها ليحتضن أباها ويقبله وتمنت الطفلة عندئذ أن يكون جميع الجيران فى الشارع مستيقظين فى هذه الساعة المبكرة لرؤية هذا المشهد. أخبرته أن هذا المشهد ترك فى هذه الطفلة شعورا بالفخر والتميز ظل داخلها حتى بِعد مرور أكثر من أربعين عاما. ... عند مغيب الشمس حان وقت الرحيل. تجمعنا حول الحافلة. بدأت المجموعة فى ركوب الحافلة وتراجع عمى إبراهيم خطوتين فسألته “ألن تركب معنا عائدا إلى القاهرة؟” قال “لا..سأبقى هنا” ثم أضاف متمتما بصوت خفيض ظن أنى لن أسمعه: “سأعود إلى كتيبتي.” انتظرنى حتى ركبت وسكنت مكانى. بدأت الحافلة فى التحرك ففتحت زجاج نافذتى ولوحت له فلوح لى مودعا. زادت سرعة الحافلة تدريجيا توقا لخوض مغامرة الطريق فيما كنت أراقبه وهو يلتفت ليمضى سائرا بخطوات ثابتة تعرف طريقها إلى ما بعد القناة الجديدة.