لعلّ أكثر الحقائق العربية إثارة للصدمة والعار أن ما قُتِل من العرب على أيدى العرب فى اقتتالهم الداخلى يفوق ما قُتِل منهم على أيدى أعدائهم الخارجيين.. قد يكون لهذه الحقيقة تشخيص تاريخى (فالصراع جزء من تاريخ العرب) أو تشخيص اجتماعى (النزعة القبلية للعقل العربي) أو تشخيص سياسى (فالديكتاتوريات تتقاتل بينما الديمقراطيات لا تتقاتل) أو حتى تشخيص جينى (متروك لعلماء الوراثة والسلالة).. لكن المؤكد أنه مثلما هناك سمات فردية للبشر هناك أيضاً سمات جماعية للشعوب.. ولعلّ أبرز ما يتسم به العرب عبر الزمن وحتى اليوم ظاهرة الاختلاف والتشرذم والاستقواء بالغير. فى هذا العالم العربى العصيّ على الفهم يُوجد إخوةٌ أعداء. على المستوى القومى إخوةٌ أعداء. فى رحاب الدين الإسلامى الواحد إخوةٌ أعداء. فى كل قطر عربى إخوةٌ أعداء. وفى كل حزب سياسى إخوةٌ أعداء.. وكل مؤسسة صغيرة أو كبيرة لا تخلو من إخوةٍ أعداء. قد يرى البعض أن هذا يحدث أيضاً لدى الآخرين، فالحرب العالمية الثانية خلّفت عشرات الملايين من الضحايا ولم يكن العرب طرفاً فيها. لكن أوروبا لم تتقاتل منذ سبعين عاما.. فما هو استثناء لدى الآخرين يبدو أنه يمثل الأصل لدينا. منذ فترة أعلن مسئول المخابرات الإسرائيلية السابق «عاموس جلعاد» أنه منذ إنشاء الدولة فى عام 1948 لم تعش إسرائيل أياماً أفضل مما تعيشه الآن. الرجل محقٌّ فها هى الفوضى والحروب الأهلية تعصف بأكثر من بلد عربى حيث المؤسسات تتقوّض، والأراضى تتجزأ، والجيوش تتفكك.. والكراهية تفتك بأبناء الوطن الواحد والدين الواحد.. وها نحن اليوم نكتشف أن إسرائيل تعيش أزهى لحظاتها فى عمرها القصير جداً.. تربح إسرائيل تقريباً فى كل السيناريوهات المطروحة التى قد تسفر عنها الفوضى العربية مثل لاعب الورق أو الدومينو المحظوظ الذى يكتشف أن كل ما لدى منافسيه من أوراق وقطع يجلب له الربح. 1- تربح إسرائيل إذا سقط بشار الأسد حيث تتفتت سوريا إلى دويلات، وتسقط من الذاكرة العسكرية السورية مرتفعات الجولان المحتلة، ويرحل حليف مهم لحزب الله فى لبنان.. لكن إسرائيل تربح أيضاً إذا لم يسقط بشار الأسد حيث يبقى جريحاً ضعيفاً كالبطة العرجاء ليتواصل مشهد اقتتال الإخوة الأعداء فى سوريا. فهذا سيناريو مثالى لإسرائيل ولبعض القوى الدولية الكبري.. وهذا ما يفسر سر الموقف الغربى من تنظيم داعش الإرهابي. 2- تربح إسرائيل فى كل خسارة يلحقها الجيش المصرى بقوى الإرهاب فى سيناء، لأنها تخشى من لحظة يتحول فيها جنون الإرهاب إلى حدودها، مهما بدت هذه اللحظة بعيدة أو صعبة.. لكن إسرائيل تربح أيضاً فى كل خسارة يُمْنَى بها الجيش المصرى فى سيناء على يد قوى الإرهاب لأنها تدرك أن كل استنزاف لقوة مصر العسكرية هو إضافة لقوتها هي. 3- تربح إسرائيل إذا انتصرت إيران الشيعية على الإرهاب السنى لتتخلص من كوابيس محتملة بعيدة المدي، لكنها تربح أيضاً إذا كسر الإرهاب السنى شوكة إيران المزهوّة بقوتها بعد اتفاقها النووى الأخير فى فيينا مع القوى الدولية الكبري. ثم تربح إسرائيل أكثر فأكثر إذا ظل الصراع السنى الشيعى مستمراً يستنزف قوى وموارد الإخوة المسلمين الأعداء.. يمتد الربح هنا إلى أمريكا وفرنسا وروسيا ودول أخرى مصدِّرة للسلاح فى العالم.. إذ يكفى أن نعرف أن المسلمين الأعداء فى منطقة الشرق الأوسط يشترون سنوياً 40% من مبيعات السلاح فى العالم، وأن السعودية وحدها قد اشترت فى عام 2014 أسلحة جديدة بقيمة 80 مليار دولار. 4- تربح إسرائيل إذا نجحت السعودية فى مواجهتها العسكرية مع الحوثيين فهذا يُحجّم الطموح الإيرانى ويكسر عرف الطاووس المختال. وتربح إسرائيل أيضاً إذا ظل الحوثيون المدعومون إيرانياً شوكة فى حلق السعودية التى تمثل فى العقل الإسرائيلى الباطن خطراً عقائدياً ساكناً وكامناً. ثم تحقق إسرائيل أقصى الربح إذا طال الصراع العسكرى ليستنزف قوى وموارد الجميع. 5- تربح إسرائيل بإقصاء الإخوان المسلمين من المشهد السياسى المصرى لأنها أولاً لم تصدِّق مهادنة الإخوان لها فى العام الذى حكموا مصر فيه، ولأنها ثانيا تدرك أن استمرار الانقسام الاجتماعى والتشرذم السياسى فى مصر يَصب بالضرورة فى مصلحتها. لكن إسرائيل لن تخسر إذا عاد الإخوان المسلمون إلى الساحة السياسية مرة أخري، لأنهم فى هذه الفرضية سوف يحتاجون إلى مهادنتها، كما أن عودتهم ستعنى العودة إلى مربع الانقسام والتناحر فى مصر (وربما ما هو أكثر). 6- تربح إسرائيل باستمرار الخلاف والصراع بين السلطة الفلسطينية فى رام الله وحركة حماس فى غزة، فقد كان هذا حلمها الذهبى وقد تحقق. وهل هناك من حلم ذهبى لسلطة احتلال أكثر من أن يسقط رفاق المقاومة فى صراع داخلي؟ لكن إسرائيل تربح أيضاً إذا كسرت السلطة شوكة حركة حماس فى معرض اختيارها بين السيء والأسوأ. 7- تربح إسرائيل إذا قامت دولة كردية تُستقطع من أراضى العراقوإيرانوسوريا وتركيا لأن هذا بالنسبة لها خصم من قوى وموارد هذه الدول تفضلاً عن أنه يؤذن بتحقيق حلمها الذهبى الثانى تفى إشعال ملف الأقليات فى محيطها العربي، فهذا يُضعف من الفكرة القومية العربية، لكن إسرائيل تربح أيضاً إذا بقيت القضية الكردية سلاحاً فى خاصرة دول الجوار العربي. حالة وحيدة تخسر فيها إسرائيل بكل تأكيد، لكنها حالة بعيدة المنال ما أن ندنو منها حتى تفلت منا وتبتعد.. ما أن نمسك بها حتى تتسرب من بين أصابعنا. ------------ قالوا.. الخوف من مواجهة عيوبنا يوقعنا فى عيوب أسوأ. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم