إذا كان تحليل الإرث المتحدِّر إلى المسلمين المعاصرين من العصور الوسطى يكشف عن انطوائه على الكثير مما يُخاصم رؤية القرآن وروحه، فإنه بدا أن هذا الكثير، الذى يتخاصم مع روح القرآن، هو نتاج رؤية العالم التى قام عليها بناء العصور الوسطى، والعالم القديم السابق عليها. فإذ يلحظ المرء أن القرآن يلح على تأكيد مبدأ التسوية بين البشر فى الدماء؛ وإلى الحد الذى جعل ابن عباس يقرر- حسب ما أورده الفخر الرازى فى تفسيره- أن سبب نزول آية: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) يتمثل فى أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فنزلت هذه الآية؛ وبما يعنيه ذلك من أن الآية قد نزلت لنقض مبدأ التمييز والتراتبية التى حكم واقع الممارسةً السائدة آنذاك، فإنه لن يبقى- والحال كذلك- إلا أن ما ينطوى عليه الإرث المتحدِّر من العصور الوسطى من التمييز بين البشر فى الدماء هو تمييزٌ لا يرتبط بالقرآن، بل برؤية تراتبية للعالم تنتظم بناء القرون الوسطى فى الشرق (الإسلامى) والغرب (المسيحى). وإذن فإنه يبدو أن البشر كانوا هم الذين يمايزون فى الدماء، وأن القرآن هو الذى جاء لرفع التمييز فى هذه المسألة، ثم ليفتح الباب أمام رفعه فى غيرها من المسائل. لكنه يبدو- لسوء الحظ- أن هذه الرؤية القائمة على التراتبية والتمييز قد فرضت نفسها على القرآن وقامت بإخضاعه لتوجيهها على نحوٍ كامل؛ وإلى الحد الذى راح يجرى معه اعتبارها جزءاً من بنائه هو نفسه، وبما أدى إلى إخفاء حقيقة أصلها كجزء أصيل من بناء العصور الوسطى. وبالطبع فإنه يلزم التعرُّف على الكيفية التى جرى بها إخضاع القرآن لسطوة هذه الرؤية؛ وإلى حد استعمارها له على نحوٍ كامل. ابتداءً من قداسة القرآن المقترنة بإلهية مصدره، فإنه لم يكن ممكنا لرؤية العصور الوسطى، القائمة على التمييز والتراتبية، أن تفلح فى إخضاع القرآن لسطوتها إلا عبر تحويل نفسها إلى أصلٍ مقدسٍ بدورها؛ وذلك عبر ما جرى من التعالى به إلى مقام الصدور عن الله أيضاً. ولعل ذلك يستلزم ضرورة رصد الآليات التى جرى من خلالها توسيع دائرة المقدس فى الإسلام، لتستوعب، إلى جانب القرآن، أصولاً أخرى غيره. وضمن هذا السياق، فإنه يمكن الإحالة إلى أصلين مركزيين انسربت من خلالهما رؤية العصور الوسطى، وأفلحت فى إخضاع القرآن لسطوتها، بعد أن اتسعت لهما دائرة المقدس فى الإسلام. وإذا كان الأصل الأول قد تمثَّل فى المدونة الحديثية التى كان تضخُّمها بالانتحال والوضع على لسان النبى الكريم هو إحدى النوافذ الرئيسة التى تسللت منها الرؤية الوسيطة، فإن الإجماع الذى يحيل، فى الجوهر، إلى رؤية الجماعة البشرية فى لحظةٍ بعينها كان هو الأصل الثاني. وفضلاً عن ذلك، فإن مفهوم النسخ بما ينطوى عليه من معنى رفع حكمٍ ثابتٍ بالقرآن يظل أحد المفاهيم التى راحت رؤى العصر الوسيط تُحْكِم من خلاله قبضتها على القرآن. ولقد تمثلت نقطة البدء فى التعالى بالمدونة الحديثية فى النظر إليها على أنها من الوحي؛ وبما راح يترتب على ذلك من اعتبارها حاكمة على القرآن، وناسخة له. يقول حجة الإسلام الغزالي، فى سياق بيانه لجواز نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن، أن المقصود أنه ليس من شرطه أن يُنسخ حكم القرآن بقرآن، بل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بوحيٍ ليس بقرآن. وإذ يقطع الغزالي- والحال كذلك- بأنه ليس من شرط الناسخ للقرآن أن يكون قرآناً، بل يجوز نسخ القرآن بغير القرآن مما هو منسوبٌ إلى الرسول، فإن ذلك، لا محالة، هو ما كان لابد أن يفتح الباب أمام إخضاع القرآن لرؤية العالم السائدة خارجه. إذ الحق أن الوضع قد طال الكثير مما تتضمنه المدونة الحديثية مما هو منسوبٌ إلى النبى الكريم. ولعل ذلك ما يؤكده التضخُّم الهائل الذى طرأ على المدونة الحديثية التى تطورت من بضع أحاديث معدودة أشار إليها الإمام على بن أبى طالب بقوله: ليس عندنا إلا القرآن وما فى هذه الصحيفة التى عدَّد أحاديثها بنفسه، إلى ما يدنو من الأربعين ألف حديث حسب مُسند الإمام ابن حنبل (المُتوفى فى منتصف القرن الثالث الهجرى). ولا مجال هنا للاحتجاج بأن ما جرى من ضبط سلاسل الإسناد بالجرح والتعديل قد أدى إلى حصار الأحاديث الموضوعة على لسان النبي، لأنه يبقى أنه لم يتمخض عن هذا الضبط إلا أن حديثاً واحداً (هو- للغرابة- من كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده فى النار) هو من المتواتر المنسوب بيقين إلى النبى الكريم. وكل ما سوى هذا الحديث هى أحاديث آحاد ليس لها يقين المتواتر أبداً. وإذ يبقى- والحال كذلك- احتمال أن بعض ما تتضمنه المدونة الحديثية هو- حسب ابن الجوزى- من الموضوعات التى يستحيل اعتبارها من الوحى، بقدر ما هى مجرد أقوال بشر، فإن هذه الأقوال البشرية ستكون هى النافذة التى تتسلل منها رؤية العالم السائدة بين الناطقين بها لتتحكم فى القرآن، عبر ما قيل من قدرتها على الحكم عليه ونسخه. وإذ تكون المدونة الحديثية، هكذا، هى أول ساحة تسربت عبرها أقوال البشر ورؤاهم لتتحكم فى القرآن، فإن الإجماع كان ساحة أخرى لإنجاز عملية إخضاع القرآن. فإذ الإجماع مردودٌ بطبيعته إلى الناس لأنه إجماعهم، فإنه قد جرى التعالى به إلى حيث أصبح- مع الغزالي- أعظم أصول الدين لأنه يُحكَم به على كتاب الله تعالى وعلى السنة المتواترة. وإذ يبدو هكذا أن كلاً من المدونة الحديثية والإجماع قد كانا هما الأصلين اللذين تسرَّبت من خلالهما رؤية العصور الوسطى القائمة- عكس القرآن- على التمييز والتراتبية، فإن ذلك ما يؤكده أنه إذا كان الفقهاء الأحناف قد تمسكوا بمبدأ عدم التمييز فى الدماء مستندين إلى ما قالوا أنها الآية المُحكمة من القرآن (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس)، فإن غيرهم من جمهور الفقهاء (الشافعية والمالكية والحنبلية) قد أسندوا ما يقولون به من التمييز فى الدماء على مرويات كلٍ من المدونة الحديثية والإجماع. لمزيد من مقالات د.على مبروك