عقل تقليدى اتباعى إذعاني، لا يستطيع أن يصل إلى الحقائق بذاته، وإنما يصل إليها من مصدر مغاير، يلقى إليه عنانه، كى يقوده إلى حيث يشاء. فهو عقل يكفيه الانتساب إلى الفرقة الناجية، فيما يقال له، فيسلمها قياده ويتلقى منها كل ما تأمره به، أو تدفعه إليه، دون سؤال أو شك، فالسؤال بدعة والشك ضلالة، وكل ما يفعله هذا العقل هو تصديق ما ينقل إليه عن السلف الصالح مذعنا له، ومصدقا لما جاء فيه، ولذلك فهو عقل موجود بالقوة وليس بالفعل، ومعارفه غيرية وليست ذاتية. والأطرف من ذلك أنه محاط بالشك، منهى عن الانطلاق الحر بذاته، سواء فى وجوده الذاتى من حيث قدراته وإمكاناته، فهو أداة معرفية معرضة للزلل والخلل والشطط إذا تركت لذاتها. ولذلك فلابد من لجمها بالنواهى والأوامر التى تضع حدودا لحركتها الذاتية، وقيودا تحول دون انفلاتها. وسوء الظن بهذا العقل سمة سلفية ونقلية، نقرأ عنها كثيرا، عندما نقارن بين المعرفة فى الميراث السلفى والاعتزالي، فالميراث الاعتزالى يؤمن كل الإيمان بإمكانات المعرفة اللانهائية التى خلقها الله فى العقل وجعلها فيه، منذ أن جعله حجته على خلقه. ولذلك كان المعتزلة يؤمنون بأن الإنسان يقع عليه التكليف بمجرد أن يصل عقله إلى درجة التمييز بين الخير والشر، عن طريق مبدأ التحسين والتقبيح العقليين، وأن هذا المبدأ لا يبتعد كثيرا عن إدراك سلسلة السببية التى ينطوى عليها الوجود، فتدل على الصانع الأول لكل ما فى الكون، وما ينتسب إليه كل مصنوع من المخلوقات التى تدل على خالقها. هكذا كان المعتزلة كالفلاسفة مؤمنين بقدرة العقل الذاتية على الوصول إلى المعرفة اليقينية فيما يتصل بخلق الإنسان والعالم على السواء. وهذا هو المغزى الكامن وراء قصة حى بن يقظان التى جعل منها فلاسفة من أمثال ابن سينا معادلا رمزيا لقدرة العقل الذاتية على الوصول إلى اليقين الكلى دون عون خارجي. إن تأمل العقل الاعتزالى والفلسفي، من هذا المنظور، هو رحلة صعود إلى ما لا نهاية فى كون المعارف والخبرات والمكتشفات التى لن يتوقف العقل الإنسانى عن اكتشافها، والتى يضيف فيها اللاحق إلى السابق إلى ما لا نهاية، فى سلم التطور الذى لا حدود لإمكاناته أو آفاقه المعرفية. وهو فهم يترتب عليه فهم ملازم ينطوى على معنى التطور الذى هو حالة من الصعود المتواصل التى تجعل من مبدأ التطور مبدأ أساسيا فى الوجود، تنطوى عليه حركة الكون والكائنات إلى ما لا نهاية، فى زمن لا يعرف النكوص أو العود على بدء، وإنما الحركة إلى الأمام. وحتى لو حدث توقف عارض أو تراجع عابر هنا أو هناك، فما دامت الحركة إلى الأمام مستمرة، فى مجمل حركة الزمن، فالتطور قائم بوصفه اللازمة المنطقية لمفهوم الزمن الاعتزالى أو الفلسفى الذى لا يفارق مفهوم الحرية. أعنى المفهوم الذى ينطوى عليه مفهوم الإنسان الفاعل لما يريد، والذى يصنع عوالمه على عينه، قادرا مختارا، مدركا أن اختياره كمسئوليته هما ما يميزانه عن مخلوقات الله الأدنى التى لم يميزها خالقها بما ميز به الإنسان الذى استخلفه على الكون. وعلى النقيض من ذلك تماما يتحدد مفهوم الإنسان فى الفكر السلفي، من حيث هو كائن ميال إلى الشر وارتكاب المعاصى لخلل مرتبط بتكوينه أصلا، خلل يجعله عرضة للخطأ دائما ما لم يؤمر بفعل الخير دائما، وما لم تفرض عليه الوصاية الدائمة التى تأمره بالبعد عن السقوط المحتمل فى كل خطوة يخطوها. وفى ظل هذه النظرة، يبدو الإنسان كائنا ضعيفا ناقصا، لا يستحق ذلك التكريم الذى كرمه به خالقه عندما فضله على كثير من خلقه، وعندما أمر الملائكة بالسجود له، وجعله مصدرا للمعرفة، بعد أن خلق الله آدم على صورته وعلمه الأسماء كلها. وإذا كانت المعتزلة وغيرها من الطوائف الفلسفية المعادية للسلفية، أكدت مفهوما إيجابيا للإنسان، ينطوى على تكريم له وإعلاء من شأنه، فإن الجماعات السلفية ظلت تلح على مفهوم يهبط بالإنسان إلى الدرك الأدني، ويحصره فى طبائع ناقصة تدعوه إلى الفتور والكسل، والاعتماد على غيره الذى يتولى أمره لإصلاح ما يترتب على هذه الطبائع الناقصة للإنسان. ولولا هذا النقصان المتأصل فى جنس الإنسان ما أرسل الله الرسل تلو الرسل هادين إلى ما يرضى الله، فيما يقول التبرير السلفي، فلم يقابل الناس الرسل إلا بالجحود والكفر، فحق عليهم العقاب من الله بالبلاء وزوال النعمة حتى يغيروا ما بأنفسهم، هذا إذا شاء الله لهم التغيير وعصمهم من نقصهم الطبيعى الذى فطر أجسادهم عليه، وجعل هذه الأجساد بما تتطلبه - مؤذية للنفس معطلة لها من العودة إلى بارئها. وكأن النفس مذ حلت فى الجسد وقعت فى طين مخمر فأنساها شغلها به كل ما سلف لها فيما يقول ابن حزم الظاهرى فى الفِّصِل. ومن الطبيعى والأمر كذلك- أن يكون الغالب على طبائع الناس الفساد، وأن الأكثر من الناس الغالب عليهم الحمق وضعف العقول، والعاقل الفاضل نادر. وقد ورد النص بذلك من الخالق الأول فيما يقول ابن حزم، وعن خيرته المبتعث إلينا - صلى الله عليه وسلم- قال تعالي: وإن تطع أكثر من فى الأرض يضلوك عن سبيل الله. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم،: الناس كإبل مائة، لا تجد فيها راحلة.(راجع التقريب لابن حزم: 180) ويبرر هذا النوع من الفهم حتمية الوصاية على الإنسان سياسيا واجتماعيا باسم تأويل ديني، ينطوى على سوء ظن متأصل بذلك الإنسان، تأويلا كان سببا ونتيجة لشيوع الاستبداد والظلم الواقع من الحكام على المحكومين، عبر عصور التاريخ الإسلامي، وذلك كله استنادا إلى تشويه صورة الإنسان الذى أصبح خطاء بطبعه، والذى تفرض طبيعته الوصاية الدائمة عليه، بحيث تسلبه الحق فى أن يخطو فى علاقته مع غيره أو فى علاقته بالله خطوة واحدة مستقلة، نابعة من ذاته. ولذلك شاع تخييل سلفى مؤداه أن كل خطوة يخطوها الإنسان لابد أن تكون بناء على توجيه من أعلى غير قابل للمناقشة أو التبرير. لقد فرضت النظرة السلفية على الإنسان وصاية دينية قمعية باسم الله، تبرر إلغاء العقل وغياب العدل وقيام الظلم والاستكانة الخاضعة لكل ما هو مفروض من أعلي. وتتدرج هذه الوصاية لتحكم علاقة الإنسان بالله، وعلاقة الإنسان بالإنسان، لتتحكم -عبر هذا التدرج فى كل أنشطة الفكر البشري، ابتداء من إدراك الله وانتهاء بإبداع الفن المحرم أغلبه. وقد اختزلت هذه الوصاية الإرادة الإنسانية وقدرة الإنسان على الاختيار، وأفرغتهما من أى معني، مستبدلة الجبرية بالاختيار، محيلة العقل الإنسانى نفسه إلى مجرد أداة للطاعة. ولذلك يقول ابن حزم فى كتابه الفِّصِل ما نصه: إن العقل على الحقيقة- هو استعمال الطاعات واجتناب المعاصي، وما عدا هذا فليس عقلا بل هو سخف وحمق. وهذا هو عين مفهوم العقل الذى شاع فى الفكر السلفي، وتجلى فى الممارسات السلفية على امتداد العصور من القرن العاشر الميلادى (الرابع للهجرة) إلى اليوم. ولن تجد سلفيا يختلف مع مفهوم ابن حزم للعقل، فما يجمع بين السلفية وابن حزم كراهة التأويل الذى يتجاوز فيه العقل المدار الضيق المغلق لاستعمال الطاعة واجتناب المعاصي. ولذلك كان العقل ولا يزال- عند السلفية عقلا إذعانيا أميل إلى السمع والطاعة والإذعان لكل من بيده الأمر، سواء من المشايخ الذين يتنزلون منزلة الأئمة، أو الحكام الذين لهم السمع والطاعة. ولذلك ارتبط الفكر السلفى بالصمت والصبر على حكام الجور والظلم، ودعوة المسلمين إلى طاعة الحكام، وإن جاروا. وليس من المستغرب على من يحصر العقل فى استعمال الطاعات واجتناب المعاصى أن يجعل من المواطن الذى ينطوى على هذا العقل مواطنا مؤمنا راضيا بالظلم، رافضا للحرية، معاديا للديمقراطية، كارها لمعنى المواطنة الذى يعنى حرية الاختيار ومسئوليته فى آن. لمزيد من مقالات جابر عصفور