لم يهرب سقراط من سجنه ، ولكنه اختار أن ينهى حياته بنفسه، كانت أثينا وقتها بكل فكرها وفنها قد تلقت هزيمة مذلة من اسبارطة خصمها العنيد، وقام الاسبارطيون بتصفية المؤسسات الديمقراطية وتسليم الحكم لأقلية تكره الثقافة والسياسة معا، حاكمت هذه السلطة الرجل وقررت إعدامه. أحب سقراط بشكل خاص لأنه بدأ حياته كنحات فقير، قبل أن يتفلسف وهذا انحياز يخصنى كفنان، ولكننى أستدعيه هنا لموقفه المدهش، وفهمه الخاص للمواطنة، كان المعلم يقدم دفاعا أخلاقيا عن قيم مشتركة فى مدينة أتاحت له حرية التفكيروالتعبير، وكان يدرك أنه يدفع ثمن هزيمة وطن بأكمله، التقى به كريتون فى سجنه، كما ورد فى محاورة أفلاطون وأخبره بأنهم قد أمنوا له مكانا بعيدا عن أثينا، ولكنه رفض العرض، فهروبه كان سيصبح عندئذ نوعا من التخلي، نوعا من خيانة التعاقد بينه وبين مواطنى أثينا الذين عاش بينهم، وأصرعلى احترام قانون يطبق عليهم وعليه بالمثل، لتصبح المدينة مدينة بجدارة، حتى وإن تعرض هو نفسه لظلم فادح، بقى أن سقراط لم يتراجع اثناء المحاكمة عن فكرة واحدة من أفكاره. أما شوفين الجندى الفرنسى الشهير، فقد كان متيما بعلم الجمهورية الجديدة ذى الالوان الثلاثة، حارب تحت إمرة نابليون بونابرت وجرح سبع عشرة مرة وطالبه قادته بالتقاعد وترك الخدمة فقد اعطى أكثر مما يجب، لكنه أصر على مواصلة القتال من أجل فرنسا، شوفين بحماسه البالغ أصبح علامة انسانية، أصبح اسمه مصطلحا، عنوانا على الوطنية المفرطة، على التوحد بالوطن الى حد التعصب، وصولا الى الهوس والتحيز والتعالي، كانت الوطنية فى قلب الجندي، تعنى أن يسلم ارادته وجسده وروحه طواعية لقائده الملهم، سقراط كان ممتلئا ففاض بروحه على فكرة الوطن نفسها، اما شوفين فهو فراغ مشحون، واكتسبت حياته معناها من تفانيه فى حب وطن وقائد يراهما فوق الجميع. بعيدا عن اليونان وفرنسا وفى مصرالتى نحبها من روحنا، قال لنا أحمد شوقى انه إذا ذهب الى جنة الخلد فسوف يظل يحن وسط النعيم الى مصر، ورأى مصطفى كامل إنه إذا لم يكن مصريا لود أن يكون مصريا، ولم يكن لمحمد عبد الوهاب حبيب سوى مصر فهى أبوه وهى أمه ، وحب الوطن كان فرضاعليه، ولا أعرف كيف يكون الحب فرضا، ولكن هذه العاطفة وهذه البلاغة هى بنت عصرها، الغريب أننا نردد الآن عبارات بنفس ذلك الرنين القديم ،نحن أقرب الى حالة شوفين ولكن بلا انتصارات، ولذا نلهث كى نؤمن لوطننا وضعا استثنائيا فمصر هى أم الدنيا، وشعبها أذكى شعب، وهى مقبرة الغزاة، ولا أعرف كيف احتل الجميع هذه المقبرة ؟ ومصر قائدة الأمة العربية، ولكن الى أين قدنا هذه الأمة ؟ اليست مآساة أن نكون نحن من قاد الوطن العربى الى هذا الدرك المهين. فى حب مصر، ابناء مصر، رجال مصر، دور مصر، تحيا مصر، مصر سوف تعلم الانسانية، ولا أدرى هل سنكرمهم هم ايضا بشيء من جهلنا ؟ أيام مصطفى كامل وشوقى كانت العواطف الوطنية المتغنى بها تترجم الى سلوك الى حد كبير، أما الآن فلدينا وطنية عجيبة، وطنية لا تحترم القانون، وطنية تعشق التمييز، وتدمير الأماكن الجميلة ونشر القبح، وطنية التحايل والتهرب من العمل، وسحق غير القادرين،وطنيون منهمكون فى التهريب والفساد والإفساد. وطنية بلا مواطنين تصل فى نهاية الأمر الى التماهى بين الوطن والحاكم ، بحيث يصبح حب مصر هو حب رئيسه ونظامه ومعارضته تعنى العمالة والخيانة.المشاعر الوطنية هى فى نهاية الأمر عواطف ارتباط بالمكان وبالجماعة التى تحيا فوقه، شعور بالانتماء وبالولاء، وهى المشاركة فى بناء واقع وصونه والدفاع عنه، لدينا فى مصر مسافة مخلة بين العواطف والمواقف العملية المترجمة لهذه العواطف، كنت واثقا من هذا ،الى أن اتت ثورة 25 يناير، فقد شاهدت وقتها عن قرب حشودا مذهلة من المصريين، إرادة حقيقية و بسالة تصل الى الموت، شاهدت الشجاعة وهى تتلبس الأجساد والأرواح وهى تسمو وتتوهج ، وتندفع بلا تردد ،.ولكن سنوات الثورة ولت، وعدنا إلى إسرافنا العاطفى القديم، كما عاد البعض الى السخرية المرة، وهذان الملمحان لا يقلقان احدا فيما يبدو. ولكننى أود أن أشير هنا الى ملامح تشغلنى بالفعل: الأول هو شراسة التعارض بين الدين والوطن،وكيف أصبح الدين مساحة للولاء تستبدل مشاعر الوطنية المفتوحة للجميع، وكيف رعت الدولة بكل لغوها حول الهيبة وحول الوطن تيارات طائفية وتركتها حتى وصلت بنا الى هذا المقام، و يبدو أنها لا تملك بديلا لهذا التذاكي. اما الثانى فهو تأثيرالعولمة وخاصة على الأجيال الجديدة، حيث الانتماء للعصر وللوطن معا ، للقرية الكونية، لتجربة المعاصرة الانسانية فالولاء هنا لم يعد للمكان وحده وانما بالمثل للزمان، لروح لحظة، هى روح هذاالعالم المتصل الذى ربطته التقنية فى كل متداخل. الأمر الثالث منحدر بالغ الخطورة، وهو أن توظف الوطنية كما تم توظيف الدين من قبل لتصعيد الفاشية، فسقراط كان بدفاعه عن حريته كفرد يؤكد وطنيته ، بينما يتنازل شوفين طواعية عن إرادته، وهكذا يتحول حب الوطن الى تسليم بالاستبداد . الوطن هو الحيز هو الاتساع المتاح لنا وهو مستودع أيامنا، وقابلية التكرارالآمن لخبرات حياتنا، الوطنية مفهوم تم اختراعه، ومحتواه يتغير. فبديهى أننا نعيش فى المكان، ولكن أساطير الماضى تطل الآن وتقاتل بشراسة لتعيد تشكيل الحاضروالمكان أيضا وفقا لما فات، بينما يخترق الزمن الرقمى التواصلى الحواجز، ويكسر اى محاولة للعزلة داخل المكان، وتظل إرادتنا كأفراد رهينة بمساحة الحرية اللازمة كى نصبح مواطنين، يبدو أننا جميعا مطالبون بالتفكيرالآن فى تقاطع هذه الدوائر شديدة التداخل. لمزيد من مقالات عادل السيوى