إن سلطة القضاء ركن أساسى من الأركان التى يقوم عليها المجتمع المنظم، فلا يمكن أن تقوم لمجتمع قائمة دون قضاء يحفظ الحقوق لأصحابها، ويصون المصالح الخمس الضرورية للإنسان، وهى الدين والنفس والعقل والعرض والمال، ويظل الأمل معقوداً فى صلاح أى مجتمع ما قام فيه قضاء عادل يعيد ما مال من أمور إلى إعتدالها، فإذا وصل الخلل فى مجتمع إلى سلطته القضائية كانت هذه آخر حلقة من حلقات إنهيار هذا المجتمع بتمامه، ولا تكون أولاها فى غالب الأمور، وإن كانت الأولى فهي القاضية ، ذلك أن القضاء يمثل سلطة الدولة النظامية وهيئتها وهيبتها، ولذا فقد بات لصيقًا بالولاية العامة، وأصبح من المقرر أن رئيس الدولة هو الذى يتولى تعيين القضاة بإعتباره ممثلاً للشعب الذى يمثل السلطة العليا فى الدولة وتصدر الأحكام القضائية باسمه. وقد كان القضاء المصرى ثرياً عبر التاريخ سواء من الناحية الشكلية أو من الناحية الموضوعية، فهو متعدد بتشكيلاته المتنوعة وهياكله المتميزة، كما أنه ثرى فى أحكامه التى تصدر فى الأنزعة المختلفة التى تعرض عليه والتى يصوغها قضاة شوامخ يزنون كل حرف من حروفها بميزان دقيق، وكم من أحكامه التى تعد تراثاً فى التاريخ القضائى المصرى تعتبر سراجاً للفقه والقضاء العربى والعالمى ويتضح ذلك بنظرة إلى حال القضاء المصرى منذ نهاية القن الثامن عشر وحتى الآن، حيث كان هناك نظام المحاكم المختلطة ، وقد كانت محاكم مصرية تطبق القوانين المصرية، وساد هذا النظام فى ظل الامتيازات الأجنبية وألغى فى عام 1949 وبقيت المحاكم الأهلية التى تشكلت فى عام 1883 ممثلة فى محاكم جزئية ومحاكم ابتدائية ومحاكم استئنافية، وفى عام 1931 تقرر إنشاء محكمة النقض المصرية، كما تقرر إنشاء مجلس الدولة المصرى كجهة قضاء إدارى فى عام 1946، ممثلاً فى محكمة القضاء الإدارى، كل ذلك إلى جانب المحاكم الشرعية والمجالس الحسبية والمجالس الملية التى كان الاختصاص الجوهرى لها هو الفصل فى مسائل الأحوال الشخصية للمسلمين أو المسيحيين. وكان قد صدر دستور سنة 1923 ونص على أن القضاء سلطة مستقلة وتواترت دساتير مصر كافة على تأكيد استقلال السلطة القضائية وأن المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها تباشر القضاء دون تدخل فى شئونها من أية جهة.وكانت تلك المحاكم تراقب اتفاق التشريعات المختلفة مع أحكام الدستور لدى فصلها فى الانزعة الموضوعية التى تعرض عليها والتى تتصل بموضوع النزاع ذاته، وكانت تلك المحاكم تمتنع عن تطبيق القانون المخالف للدستور، وقد كان للمستشار السيد على السيد ثالث رؤساء مجلس الدولة - جهد كبير فى إرساء القواعد المتعلقة بهذه المسألة والتى سارت عليها المحاكم إلى أن صدر القانون رقم 81 لسنة 1969 بإنشاء المحكمة العليا حيث ناط بها دون غيرها الاختصاص بالفصل فى دستورية القوانين، ثم تلى ذلك صدور قانون المحكمة الدستورية العليا رقم 48 لسنة 1979 الذى ناط بها مباشرة الرقابة على دستورية التشريعات خلفاً للمحكمة العليا وذلك تنفيذاً لأحكام الدستور الصادر سنة 1971. وإذا كان عدد أعضاء المحكمة الدستورية العليا قد تقلص بصدور دستور سنة 2012 عقب ثورة 25 يناير 2011 لأسباب شخصية وليست موضوعية فإنه بعد ثورة 30 يونيو 2013 صدر دستور سنة 2014 وأعاد تنظيم المحكمة الدستورية العليا تنظيماً يعيد استقلالها بشئونها ومنها تحديد عدد أعضائها وفقاً لما تقدره جمعيتها العمومية. وفيما بين هاتين الثورتين عانى القضاء المصرى بصفة عامة والمحكمة الدستورية العليا بصفة خاصة معاناة مريرة من محاولات التدخل فى شئونه والنيل من استقلاله ومحاصرة المحاكم والتعدى على القضاة، وقد رأى وسمع العالم كله التعدى بأشكاله المختلفة على نادى قضاة مصر وعلى رئيس نادى القضاة ومحاولات النيل منه بالباطل، ومحاصرة المحكمة الدستورية العليا ومنعها من أداء عملها، وإقالة النائب العام بالمخالفة للدستور والقانون، لكن القضاء، كغيره من مؤسسات الدولة العريقة، صمد صمود الأبطال أمام هذه الهجمات الغوغائية، وصمم مع شعب مصر على بناء دولة ديمقراطية أساسها سيادة القانون والعدل والحرية المسئولة. وخلال العصور المختلفة اسهم القضاء المصرى بأحكامه فى بناء المجتمع على أساس من العدالة الاجتماعية والمساواه، وكان من بين الأحكام التى اسهمت فى تصحيح المسار القانونى والاجتماعى فى مصر والتى أعملت المساواة بين المصريين جميعاً بغض النظر عن الديانة الحكم الصادر بجلسة 1/3/1997 فى القضية رقم 74 لسنة 17 قضائية بعدم دستورية المادة (139) من لائحة الأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكس التى كانت تميز فى السن المحددة لإنتهاء الحضانة بين الأطفال المسلمين والمسيحيين، ومن الاحكام المهمة ايضا حكمها الصادر فى القضية رقم 28 لسنة6 قضائية بعدم دستورية نص المادة الخامسة من المرسوم بقانون رقم 178 لسنة 1952 بشأن الاصلاح الزراعى ونص المادة الرابعة من القرار بقانون رقم 127 لسنة 1961 فيما قضيا به من تعويض من استولت الدولة على ارضه تعويضا يقل عن قيمتها الحقيقية، وكذلك حكمها فى القضية رقم 20 لسنة 34 قضائية الصادر بجلسة 14/6/2012 بعدم دستورية الفقرة الأولى من المادة الثالثة من القانون رقم 38 لسنة 1972 فى شأن مجلس الشعب، وكذلك الفقرة الأولى من المادة السادسة منه المستبدلة بالمرسوم بقانون رقم 108 لسنة 2011 فيما تضمنته من اطلاق الحق فى التقدم للترشيح لعضوية مجلس الشعب فى الدوائر المخصصة للانتخاب بالنظام الفردى للمنتمين للأحزاب السياسية إلى جانب المستقلين غير المنتمين لتلك الأحزاب، وقد ترتب على هذا الحكم بطلان تكوين ذلك المجلس. هذه الأحكام وغيرها الكثير اسهمت فى إعتدال المنهج القانونى للدولة ليكون محققاً للعدالة فى أسمى درجاتها. وقد اسهمت المحكمة بقضائها فى وضع أسس الممارسة الديمقراطية السليمة فى الحياة السياسية فى البلاد بما أرسته من مبادئ تتعلق بحق الانتخاب والترشيح، سواء فى الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية أو حتى النقابية، وما رسخته من مبادئ تتعلق بحيدة هذه الانتخابات والجهات القائمة عليها، وتنزيهها عن أى شائبة تنال من نقاء نتائجها. ومن المعلوم بالضرورة ما لحق المحكمة من أذى من ذلك النظام الذى كان سائداً قبل الثلاثين من يونيو 2013 والذى حاول هدم كل سلطات الدولة، فقد مارس ذلك العهد ابشع صور الإساءة للمحكمة مادياً وأدبياً وتشريعياً، وحاصرها، ومنعها من مباشرة عملها، إلا أنها رغم ذلك صمدت فى وجه الطاغوت، فما مال ميزانُها، وما اهتزت أقلامها رهبًا أو رغبًا، بل كانت هى الصخرة التى تتحطم عليها أساطيل الإرهاب البغيض رغم أنها صخرة صغيرة فى شاطئ الوطن الكبير بشعبه العظيم ومؤسساته العريقة، وبمبادرة من المحكمة تم إنشاء اتحاد المحاكم والمجالس الدستورية العربية الذى يسهم فى تبادل الخبرات الدستورية فيما بينها تحقيقاً للفائدة المرجوة من وضع مبادئ دستورية تكون أساساً قوياً لأنظمة قانونية سليمة. وبعد ثورة الثلاثين من يونيو عام 2013، ونداء الشعب ومؤسساته بأن يتولى رئيس المحكمة الدستورية العليا إدارة شئون البلاد خلال الفترة الانتقالية، لم يتردد رئيس المحكمة فى إجابة النداء، رغم المهمة الشاقة، فى الوقت العصيب، وقد سار رئيس المحكمة بالبلاد خلال تلك الفترة سير القاضى المتجرد الذى يقدر عظمة الشعب ومؤسسات الدولة المختلفة، الى ان تم انتخاب رئيس جديد للبلاد وفق دستور وقانون يليق بمكانة مصر وشعبها. ولا شك ان تضحيات الجهات او الهيئات القضائية الاخرى لا تقل فى عظمتها عن تضحيات المحكمة الدستورية العليا، منذ صمود الدكتور السنهورى رحمة الله عليه- فى مجلس الدولة، وصمود نادى قضاة مصر ورجاله، وحتى استشهاد عدد من القضاه وآخرهم المستشار هشام بركات النائب العام لشعب مصر - تغمده الله بواسع رحمته وسيظل قضاة مصر يواصلون أداء الأمانة التى نيطت بهم فى إحقاق الحق ورفع الظلم حتى يلقوا ربهم.