ذات يوم، وصفت مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة التليفزيون بأنه العضو السادس عشر فى مجلس الأمن الدولي، فى إشارة إلى الدور القوى الذى تلعبه هذه الوسيلة الإعلامية من تأثير على صناعة القرار العالمي. والآن انضم الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعى إلى كبار صناع القرار فى العالم. وفى ظل التطور السريع فى تكنولوجيات الاتصالات والمعلومات الرقمية، أصبح كل فرد حول العالم جزءا من العلاقات الدولية. ولعل أحد أسباب نجاح الرئيس الأمريكى باراك أوباما فى دخول البيت الأبيض لولايتين متتاليتين، كأول رئيس أسود فى تاريخ الولاياتالمتحدة، اعتماده الذكى على وسائل التواصل الاجتماعى فى حملته الانتخابية، واستمراره على هذا النهج خلال 7 سنوات من توليه منصبه. أوباما يعتبر الأعلى متابعة على موقع "تويتر" حيث يتابعه أكثر من 60 مليون شخص على حسابيه الشخصى والرئاسي. ويمكن القول إن استخدام الساسة حول العالم لهذه المواقع فى التواصل مع شعوبهم وفى توصيل رسائل إلى دول أخري، ساهم فى إعادة رسم ملامح العلاقات الدولية والسياسة لتصبح "رقمية" أكثر من كونها "تقليدية". هذا التحدي، هو ما طرحه المنتدى الثامن للإعلام العالمي، الذى نظمته مؤسسة دويتشه فيله الألمانية فى مدينة بون تحت عنوان "الإعلام والسياسة الخارجية فى العصر الرقمي"، بحضور ألفى شخص، من بينهم 500 صحفى من 130 دولة. وخلال افتتاح المؤتمر، أكد فرانك فالتر شتاينماير وزير الخارجية الألمانى أن العصر الرقمى تميز بثورات جذرية يمكن مقارنتها بالثورة الصناعية فى القرن التاسع عشر، وأوضح أنه على الرغم من أن العصر الرقمى أوجد فرصا غير مسبوقة للتواصل بين الناس ولتبادل الأفكار ولتوحيد القوى من أجل المصلحة العامة إلا أن مخاطره ظهرت واضحة خلال السنوات القليلة الماضية من خلال استخدامها فى الصراعات، وهو ما يوضح الحاجة إلى ضرورة تنظيم الفضاء الرقمي. ومن جانبه، قال بيتر ليمبورج رئيس مؤسسة دويتش فيله أن "العصر الرقمى يمثل أيضا عصر نظم القيم المتصارعة، صراع يلعب دورا فى الغالب فى وسائل الإعلام، وأن أهم التحديات التى تواجه العاملين فى مجال الإعلام التهديدات لحرية التعبير وحرية الصحافة حول العالم، وأن التحدى الأساسى يتمثل فى عدم الرد على ذك بدعاية مضادة، لكن بصحافة قوية وجريئة وجديدة وراسخة". المؤتمر أكد بما لا يدع مجالا للشك أن ثالوث الإعلام والحرية والقيم ضرورى لوجود الصحفيين فى العالم، وهو العنوان الذى سيحمله منتدى دويتش فيله التاسع فى 2016. ولعل الموضوع الأساسى الذى دارت حوله جلسات المنتدى أن وسائل التواصل، 140 حرفا على تويتر، تشكل ملامح السياسة الخارجية للدول، وتؤثر على العلاقات الدولية. احتكار القوة انتقل من الحكومات إلى الشركات الكبيرة والمؤسسات الصغيرة والأفراد ووسائل الإعلام. وطرحت تسريبات جوليان أسانج لوثائق ويكيليكس وإدوارد سنودين لخفايا الأمن القومى الأمريكى التساؤلات حول التصورات التقليدية للسياسة الخارجية والدبلوماسية. وفى عصر العولمة والإعلام المعاصر، فإن معادلة انتقال المعلومات من "أعلى لأسفل" تغيرت، وفى مجال الاتصالات الدولية، أصبحت الحكومات مجرد فرد من "حاملى الأسهم" تفقد قدرتها يوما بعد يوم على التحكم فى تدفق المعلومات، وهو ما وضع التصورات التقليدية للدبلوماسية محل تساؤل. الثورة الرقمية لا تمثل تحديا فقط أمام الدبلوماسية التقليدية بل أيضا أمام وسائل الإعلام التى تعتبر عادة عاملا مهما كقوة معلوماتية تساعد فى تشكيل إدراك العامة للصراعات على المستويين المحلى والعالمي، وأحيانا قوة تستخدم كأداة من قبل أحد الأطراف أو من قبل كل الأطراف. وشهد افتتاح المؤتمر حفل إعادة إطلاق تليفزيون "دويتش فيله" باللغة الإنجليزية، وقالت مونيكا جروتيرس المفوضة الاتحادية للثقافة والإعلام إن مضمون الإعلام هو المفتاح الرئيسى للديمقراطية والتعددية، ولا يمكن أن يأتى فى المركز الثانى على الرغم من ضخامة الإمكانات التكنولوجية وتفاعل قوى السوق. وحذرت من المخاطر التى تفرضها التكنولوجيات الرقمية أمام حرية الرأي، من جهة احتكار البيانات والمعلومات التى تفرضها كبريات شركات الإنترنت، ومن جهة أخري، العجز الذاتى الرقمى الذى ربما يتسبب فى الكشف عن معلومات شخصية. ووصفت جروتيرس مؤسسة "دويتش فيله" بأنها "سفيرة الديمقراطية الألمانية القائمة على حكم القانون". وقالت ماريا بوهمير الوزيرة المساعدة بوزارة الخارجية الألمانية إن هؤلاء الذين يتمتعون بثقة المستخدمين على وسائل التواصل الاجتماعى يمكنهم الاستمرار فى العصر الرقمي. وتحدث مارك جان إيومان عن أهمية العصر الرقمى قائلا إنه حان الوقت لإعادة التفكير فى مصطلحى الجمهور والعامة، واستخدام مداخل جديدة فى التعبير. وخلال 3 أيام من المناقشات، طرح المؤتمر تحديات أخرى من بينها "وسائل التواصل الاجتماعى فى مواجهة الإرهاب الرقمي"، وكيف نجح الإرهابيون فى استغلال الثورة الرقمية فى تجنيد أتباعهم وتبرير العنف والكراهية والقتل، وأن المعركة ضد التطرف تبدأ أولا فى الفضاء الافتراضي. ومن بين الموضوعات المهمة التى ناقشها المؤتمر "حماية حرية التعبير"، و"وسائل الإعلام العابرة للأجيال.. كيف تكتب قصة إخبارية اليوم". كما اهتم المؤتمر بالذكرى السبعين لإنشاء الأممالمتحدة، وطرحت التساؤل حول: هل يمكن أن تستمر المنظمة الدولية فى أداء عملها فى هذا العصر الرقمي؟ وكانت الإجابة على السؤال أن العصر الرقمى ربما يساعد الأممالمتحدة التى تأسست فى 26 يونيو 1945 على حل بعض القضايا العالقة، ومن بينها مواجهة التغير المناخي، كما يمكن أن يساعدها فى التوصل لقرارات حاسمة خلال 2015، عام العمل الدولي. كما تناول المؤتمر كيفية تأثر حقوق الإنسان بالثورة الرقمية، ففى الوقت الذى منحت وسائل التواصل الاجتماعى الفرد القدرة على ممارسة حقوقهم، فإنها منحت الحكومات أيضا وسائل لمنع ومراقبة هذه الأنشطة الفردية. كما ناقش المؤتمر دعم النساء عبر الهاشتاج، وسائل جديدة لضمان حل دائم للصراع، وقالت ليلى نشواتي، عضو فى فريق "حكاية ما انحكت" السورى فى مدريد إن هناك حكايات للمجتمع المدنى تحكى جذور المجتمع السورى بعيدا عن الانتقاءات السياسية. وأشارت إلى أنه فى ضوء العنف الإلكترونى ضد المرأة، فإن 95% من خطابات الكراهية على الإنترنت موجهة ضد النساء، وأن المرأة تضطر إلى عدم الكشف عن هويتها على مواقع التواصل الاجتماعى لحماية نفسها.