يقول أهل مصر ...إن كثيرا من الحكايات دارت فى هذا المكان الذى يحمل رائحة المسك والنعناع والريحان، يقولون إن النساء فى البيوت كن يعلمن أولادهن هذه القصص التى لم تكن تروى لهم فى لحظات الانتباه الأخيرة بين اليقظة والنوم. فما كان يحدث فى الواقع أن هذه الحكايات كانت تدخل وتتسلل إلى عقول الأبناء دون جهد من راويها ، فمفرداتها وأبطالها يبدون دائما أحياء حاضرين فى أحاديث الأمهات والجدات فى الصباح والمساء وعلى مر الأيام والسنوات، حتى يظن من يسمع أن هؤلاء الابطال مازالوا على قيد الحياة، أو أنها تجرى فى شارع أو حارة أو زقاق قريب . ولهذا كله تبدو حكايات حى الحسين أكثر سحرا وتأثيرا من حكايات على الزيبق والأميرة ذات الهمة وأبى زيد الهلالى التى كان يحكيها شاعر الربابة فى مقهى شعبى، فيتسلى بها من يتسلى بين تزاحم أكواب الشاى وأدخنة النرجيلة. وإن كان فات علينا أن نقول إنه حتى الزيبق والأميرة وبيبرس دارت الكثير من أحداث سيرتهم فى هذا المكان. القصور الزاهرة: تصادفنا أولى الحكايات، فالقاهرة نفسها تصلح لأن تكون كتابا كاملا من السير والروايات.. منذ زمن بعيد اجتمع مائة ألف رجل مع القائد جوهر الصقلى قادمين إلى بر مصر بأمر من الخليفة المعز لدين الله الفاطمى كما قال المؤرخ الكبير كريسويل فى قصة تأسيس القاهرة أما ماجاء بعد هذا من أوامر, مثل أن يكون لهذا الخليفة قصر عظيم جدا يبهر أهل مصر, فهذا ما يحكيه المقريزى الذى قد اندهش لحجم الطوب المستعمل، حيث ذكر أن طول الطوبة ذراع كاملة وعرضها ثلثا ذراع، وان هذا السور كان من السمك بحيث يمر فوقه فارسان جنبا إلى جنب. كان الغرض فى البداية أن يبنى القائد جوهر الصقلى مدينة تكون بمعزل عن العامة وأن يكون لها أسوار. وأن تكون هذه المدينة, و الكلام للمقريزى, ذات اسم يتفق مع الفاطميين, كالمنصورية، إلا أنها, وبعد أربع سنوات, سميت القاهرة, عندما حضر الخليفة المعز بنفسه، وكان من حسن الطالع والفأل الحسن أن يجد معانى القهر والظفر فى اسم القاهرة. وربما يكون غراب - كما قيل فى الحواديت المصرية - وقف على حبال الأجراس التى كانت تستعد للدق لتعطى اشارة البدء فى بناء القاهرة فبدأوا فى وقت بزوغ كوكب المريخ القاهر. قصة تكرر ذكرها ولكن لا سند لها، والرأى فى ذلك لكريسويل نفسه، فمن يتصفح كتابات المؤرخين سيجد المؤرخ المسعودى يطلعنا على قصة مشابهة عندما حكى كيف بنى الاسكندر مدينته الجميلة التى حملت اسمه. المهم أن القاهرة قد ولدت، فهذا مبتغى القصيد, لهذا تجد أهل الجمالية والحسين لا يتوقفون طويلا أمام مشاهد جاءت فى بداية البدايات، لأنها كما يرونها لا تمثل إضافة حقيقية. فلا يهم ما حدث يوم الثلاثاء السابع من رمضان عام 362ه عندما دخل الخليفة المعز مدينته القاهرة لأول مرة، ولا يهم كثيرا أن نتوقف عند حجم وروعة واتساع القصر الشرقى الكبير الذى يفوق كل خيال ، ولا يهم أيضا عتاب المعز لقائده جوهر الصقلى لأنه فاته أن يبنى القاهرة فى منطقة المقس وهى ميدان رمسيس الحالى. فما يهم المصريين حقا هو أبواب القاهرة وحواريها، فهذه حارة برجوان حيث أقام المؤرخ المقريزى، وهذه حارة الجودرية التى تنسب إلى جودر خادم مؤسس الدولة الفاطمية، وتلك حارة الديلم الذين جاءوا من الشام، ثم حارة «الباطلية»: نسبة إلى مجموعة من الجنود كانوا بصحبة جوهر الصقلى قيل إنهم لم يحصلوا على ما أرادوا فرأوا أنه راح فى الباطل، فما كان من القاهرة الا أن أسست حارة باسمهم وكأنه اعتذار تاريخى لهم! جمال يذهل العقل ولكن هل نترك القصور الزاهرة ونحن نحكى عن الجمالية وكل ما يجاور مسجد الامام الحسين؟ لا أعتقد. وخاصة لوعرفنا أن القصر الشرقى الكبير الذى بنى للمعز أقيم على مساحة تقارب السبعين فدانا. أما داخل هذا القصر وغيره من القصور الفاطمية، فشيء يذهل العقل. فكما يذكر الأسقف وليم رئيس أساقفة صور كما جاء فى كتاب القاهرة: تاريخها، فنونها، آثراها أنه عند زيارة سفيرين لهذا القصر وجدوا به ممرات طويلة ضيقة و أقبية حالكة الظلمة تبعث الرهبة فى القلوب، ولما خرجا إلى النور اعترضتهما أبواب كثيرة متعاقبة ثم فناء مكشوف أرضيته مرصوفة بأنواع من الرخام المتعدد الألوان وفيها تذهيب خارق للعادة، ووسط الفناء نافورة يجرى فيها الماء الصافى داخل أنابيب من الذهب والفضة وأحواض وقاعات ستائرها من خيوط الذهب والحرير. بذخ ما بعده بذخ ربما يربك الأوروبيين ويخطف قلوبهم وعقولهم ، فأين لهم بمنافسة أهل هذه القصور؟ وكيف لبلادهم أن تصل إلى هذه الدرجة من الرقى والتمدن؟ أما أهل مصر فقد عايشوا ما هو أكثر من هذا يوم خرج موكب العروس قطر الندى حفيدة أحمد بن طولون من مصر قاصدة بغداد فى جهاز وصفه ابن دقماق بأن قطع أثاثه مزينة بحليات ذهبية تتدلى من فتحات تشبيكها حبات من الجواهر والأحجار الكريمة، وكان ضمن جهازها مائة هاون ذهبية لدق العود والطيب. كما بنى أبوها خمارويه قصورا لراحتها على طول الطريق من بر مصر إلى بغداد. ورغم هذا التاريخ الذى يعرفه المصريون، ربما أراد المعز أن يتفوق على نفسه و يبهرهم، وأن يكون له بدلا من القصر قصور فى القاهرة الجميلة. ولهذا شيد المعز ومن جاء بعده من الحكام عددا من القصور التى تتجاوز كل خيال، فلا أحد يمكنه أن يتصور فخامة القصر الغربى، ولا قصر الأفيال و قصر الظفر وقصر الشوك وقصر الحريم وقصر الزمرد وكل قصر من تلك التى وصفت بالقصور الزاهرة. ورغم أن أهل مصر يتعاملون مع هذه القصور على أنها بيوت الحكام ، الا أن الأيام كانت كفيلة بدمجها فى حكاية هذا الشعب. فلم تعد هذه القصور مجرد خلفية صماء لها طابع أسطورى، فداخل كل قصر أو حتى بيت بسيط متواضع يعيش بشر أصحاب سيرة فى هذه الحياة. فى القصر الغربى كان القصر الغربى ينافس الاحلام حيث عاشت ست الملك أخت الخليفة الحاكم بأمر الله, وكانت سيدة حكم وسياسة، انتقلت إلى مصر مع تولى أخيها الحاكم بأمر الله شئون البلاد حين كانت هى فى السادسة والعشرين وكان أخوها الحاكم لا يتجاوز الحادية عشرة من عمره. وقد كان همها الحفاظ على ملك مصر, الا أنها فوجئت بأن أخاها يتجاوز حدود دوره كحاكم, حتى احتار الناس فى أمره, واكتملت حيرتهم حين خرج ذات ليلة ولم يعد! بالتأكيد شهد هذا القصر مشاعر متضاربة لست الملك أو ست مصر، إلا أن نفس القاعة التى كانت تعيش فيها والقصر كله انتقلت ملكيته إلى امراء من بنى أيوب حتى آلت إلى السلطان المنصور سيف الدين قلاوون ليقيم مستشفاه الشهير الذى أصبح اليوم مستشفى للرمد. وأما القصر الآخر الذى يمكن ان ننهى معه قصة قصور الاحلام، فهو ذلك الذى انتقل إليه رأس الامام الحسين وأصبح فيما بعد مسجده المواجه للأزهر الشريف..فإذا كان القصر الغربى قد أصبح مستشفى فى النهاية، فقد أصبح هذا القصر مسجد الإمام الحسين وبقي من عمارته الباب الأخضر, لنعود معه إلى أول الكلام وأول الحكايات، فربما نسى أهل مصر حكايات البناء الفخيم الشاهق، ولكنهم لا ينسون القيمة ونهاية الحكاية وكيف تتغير الأيام ، ومعها تتبدل الأحوال من حال إلى حال. كما كتب أديبنا الكبير نجيب محفوظ فى ثلاثيته الشهيرة. فبين القصرين الشرقى والغربى دارت كثير من الأحداث، وكذلك عند مسجد الإمام الحسين رضى الله عنه ولكن هل هذه هى كل قصص حى الحسين والجمالية؟ كثيرة هى الحكايات صاحبة البدايات والأبواب.