لا أحد يمكنه أن يصدق أن عصابة من الإرهابيين يمكنها أن تسقط دولة بحجم مصر، أو تسقط جيشا محترفا كالجيش المصري، هذه حقيقة وليست «أحلام يقظة»، فلقد شهدنا هذه المحاولات البائسة من قبل بعد قتل رئيس الدولة المصرية ذاته «أنور السادات»، وفي قصة «السادات» العديد من الدروس: فلقد هادن وحالف السادات هذه الجماعات، وفي النهاية تآمرت عليه وقتلته، وفي المقابل فإن وصول الإرهابيين الي اغتيال رأس الدولة ذاته، وشن حرب إرهابية طويلة لم تسقط الدولة المصرية، ولا الجيش المصري، والأرجح أن الجولة الجديدة من المواجهة أشد وأعنف وربما أطول، ولكن ليس هناك ما يدعو للاعتقاد بأن النتيجة ستكون مختلفة، وذلك لأسباب بديهية: الشعب المصري في غالبيته لا يثق في «مشروع الإرهابيين»، كما أن تجربة عام من حكم الإخوان لم تكن لمصلحة هؤلاء، وفي المقابل فإن المصريين والعرب يتطلعون الي أوروبا بحثا عن «النموذج المبهر» ألا وهي دولة قوية مزدهرة وتحقق أحلام مواطنيها، ولم نشهد نزوحا باتجاه أفغانستان، أو الصومال أو غزة، أو بقية المناطق التي تروج «للموت» ولا تقدم «أجوبة عملية عن أسئلة الحياة»، إلا أن المدهش أن الغرب يلعب «لعبة مزدوجة».. فهو من ناحية يحتضن هذه «الجماعات الإرهابية»، ويبرم معها «الصفقات» من أجل استغلالها ضد حكوماتها، والأمر الجديد الآن هو «إعادة تصدير» الإرهابيين المحتملين، أو «المتعاطفين» إلي أوطانهم الأصلية للمشاركة في سيناريو «الفوضي الخلاقة».. شريطة أن تظل الفوضي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أي أن تظل حبيسة هناك، وأن يستمر النفط يتدفق، وأن تظل حركة التجارة الدولية مثلما هي تسير بشكل طبيعي، والأغرب أن تستمر هذه «الحركات الإرهابية».. «فيروسا قاتلا» علي أهبة الاستعداد لتصديره إلي المناطق المناوئة للغرب فقط! تري هل يمكن الاستمرار في هذه الحلقة المفرعة، أم أن الوقت قد حان لمواجهة أو لوقفة مع الصديق الغربي عموما، والأمريكي خصوصا، لوضع «النقط فوق الحروف» فيما يتعلق بالحرب ضد الإرهاب؟ لعل أبرز نقاط الخلاف ما بين مصر والغرب يتعلق بإصرار الأخير علي «الجماعات الإرهابية» منقطعة الصلة بالجماعات التي تدعي أنها تملك مشروعا سلميا، وأنها جماعات معتدلة، وذلك في الوقت الذي تشير كل وقائع التاريخ الي أن «العنف» و«التنظيم السري» قد خرج من عباءة الإخوان، وأن الاحتفال الوحيد بنصر أكتوبر في عهد محمد مرسي قد جمع قادة التنظيمات المسلحة التي شاركت في اغتيال السادات، وأن علاقة الإخوان بالقاعدة وجبهات العنف في ليبيا أو اليمن أو سوريا لم تعد خافية علي أحد، والنقطة الثانية هي أن «الحبل السري» ما بين جماعات العنف وعلي رأسها الإخوان والقاعدة وأجهزة المخابرات الغربية لم ينقطع يوما، ويكفي أن القاعدة هي صنيعة ال«سي. آي. إيه»، كما أن التقارير الغربية بدأت تتحدث عن دور غربي وأمريكي تحديدا وراء ظهور داعش، وهو ما يفسر تمددها حتي الآن، وعدم إظهار واشنطن لأي جهد حقيقي لوقف تمدد داعش، ولا يخفي علي أحد تبجح كوندواليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة بحديثها عن «الفوضي الخلاقة»، كما أن الصحف الأمريكية ومراكز البحوث تكفلت بالحديث علانية عن مشروعات تقسيم المنطقة من جديد، و13 دولة جديدة مرشحة للظهور علي أنقاض السعودية والعراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان، والبقية تأتي؟! وأحسب أن قائمة الشكوك المصرية في النيات الأمريكية تطول، وقد أضاف إليها ستيفن كوك الباحث في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية الشهير، بتأكيده أن المؤسسة العسكرية المصرية لديها «أسباب جيدة» للشك في الولاياتالمتحدة، فعلي سبيل المثال، فبرغم أن الجميع من المعتاد أن يشيروا الي المساعدات الأمريكية العسكرية لمصر بأنها «سخية» إلا أنها في الواقع «بطيئة» و«مكلفة للغاية» للمصريين، وال 1.3 مليار دولار مساعدة عسكرية هي ذات المبلغ الذي تقدمه واشنطن للقاهرة منذ 1987، إلا أن ذلك يمثل «أقل من النصف» وذلك بالنظر الي التضخم، وبالتالي بات المصريون أقل قدرة علي شراء ما اعتادوا أن يشتروه من أسلحة أمريكية (والكلام مازال للباحث ستيفن كوك)، أما السبب الثاني فهو أن الأسلحة الأمريكية المقدمة لمصر هي أقل من الأسلحة الأمريكية المقدمة لإسرائيل، ومما زاد من الشكوك المصرية هو انحياز إدارة أوباما للإخوان المسلمين، فضلا عن عدم احترام رغبة المصريين عندما أطاحوا بحكومة محمد مرسي، وقيام واشنطن بتعليق بعض المساعدات العسكرية لمصر. ويشير كوك من بعيد الي أسباب إضافية للشكوك المصرية في النيات الأمريكية، وذلك عندما يعترف بأن «أسس العلاقات بين واشنطنوالقاهرة» إما أنها لم تعد موجودة، أو لم تعد ملحة مثلما كانت في السابق، وهو هنا يتحدث عن «احتواء الاتحاد السوفيتي واستخدام مصر كمنصة للتحرك في حال وقوع أي أزمة في منطقة الخليج»، بالإضافة الي «تعزيز السلام ما بين مصر وإسرائيل»، ويري كوك أن العلاقات المصرية الأمريكية سوف تستمر في التغير، ولكن هناك «أمورا أمنية مهمة» تؤثر علي مصالح الدولتين من وجهة نظر كوك وهي: الحركة دون عوائق في قناة السويس، ومحاربة جماعات الإرهابيين (يصفهم بالجهاديين) في سيناء، والحفاظ علي السلام مع إسرائيل، والغريب أن كوك يري الحل في مزيد من الأموال حتي «يتعامل المصريون مع مشكلة الإرهاب بطريقة أكثر فعالية»!، ويوصي كوك الإدارة الأمريكية بأن تخصص مزيدا من الأموال لمصر في مجال المعونة العسكرية، وهذه الأموال الإضافية لمكافحة الإرهاب، وخاصة تكنولوجيا مكافحة الإرهاب والتدريب والنصيحة الفنية. ويبقي أن القيادة المصرية والشعب المصري يدركان أن «الحرب ضد الإرهاب تقع علي عاتق مصر أولا وأخيرا، وأن القاهرة ليست بحاجة لمن يعطيها الدروس في كيفية إدارة شئونها الداخلية أو قائمة أولوياتها، كما أن القاهرة عليها أن «تمد يدها» لكل القوي المستعدة للتعاون الصادق والجاد، وأن تبحث عن شركاء «يمكن الوثوق بهم» في حربها ضد الإرهاب وأيضا معركتها من أجل البناء والتي لا تقل أهمية عن قتال الإرهابيين. وفي المقابل، فإن القاهرة مطالبة بوقفة مع «الصديق الأمريكي» لمراجعة شاملة لأسس العلاقات المصرية الأمريكية، وإعادة تحديد المصالح المشتركة، وحساب التكلفة والعائد في التزامات مصر تجاه هذه العلاقة، وضرورة أخذ تطورات الزمن في الحسبان، وما الذي بات من الصعب تصور استمراره بأسعار عقود مضت، فضلا عن أن القاهرة الجديدة لابد أن تطلب إخراج «العلاقة الثنائية» من «المضمار الضيق» للعلاقات مع إسرائيل. وبالإضافة إلي ذلك، لابد من أن تخرج العلاقات المصرية الأمريكية من دائرة «الاعتبارات والمصالح الأمنية» إلي «فضاء العلاقات الطبيعية الأرحب» ما بين قوة عظمي وقوة إقليمية كبري تنهض من جديد لكي تكون «لاعبا بارزا» علي المسرح الإقليمي والدولي، وأخيرا.. لابد أن تصل الرسالة المصرية بقوة للدوائر الأمريكية وخلاصتها «نريد شريكا في معركة البناء والتنمية» يمكن الوثوق به، وعلي نفس الدرجة من القوة مثلما نريد «شريكا في الحرب ضد الإرهاب». وأحسب أن العلاقة مع واشنطن أكبر وأخطر من أن يتم وضعها في «خانة الانتظار» حتي مجيء رئيس جديد في البيت الأبيض في 2016، بل أجزم أن «مصالحنا العليا» تستدعي تشكيل «خلية أزمة» لوضع استراتيجية جديدة للتعامل مع واشنطن بما يتجاوز الساكن في البيت الأبيض وأهل الكونجرس ليمتد إلي وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث ودوائر المال والأعمال وشركات البترول وكبار مصدري السلاح وكبار مصدري القمح الي مصر»، ولعل هذه الخطوة الأولي في مسار طويل للتعامل مع واشنطن في الزمن الجديد، وفي مناخات ما بعد السلام. لمزيد من مقالات محمد صابرين