(ستجد قوماً زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله،فذَرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له،وإنى موصيك بعشر: لا تقتلنّ امرأة ولا صبياً ولا كبيراً ولا هَرِماً، ولا تقطعنّ شجراً مثمراً، ولا تخربنّ عامراً، ولا تَعقِرنّ شاة ولا بعيراً إلاّ لمأكله، ولا تحرقنّ نخلاً ولا تفرقنّه، ولا تَغلُل، ولا تجبُن).هذا ما نصح به أبو بكر الصديق الخليفة الأول لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) قائد جيشه أسامة بن زيد وهو يغادر المدينةالمنورة لقتال الروم الذين يهددون المسلمين، فيما سُمّيَ غزوة (أُبني)، فاطمأن الناس ودخلوا فى دين الله أفواجاً من تلقاء أنفسهم متأثرين بسماحة الدين الحنيف. أما شهوة الانتقام والاستئثار بالسلطة التى تملّكت بعض القادة فى أنحاء العالم بعد ذلك فقد تسبّبت فى مذابح جماعية، وإبادة وجرائم بشعة ضد الإنسانية طالت الملايين. بعد 15 قرناً من إعلان هذه المبادئ الإسلامية التى شدّدت على ضرورة احترام حقوق الإنسان والرفق بالحيوان والنبات فى الحرب والسلم مازالت دول كثيرة تُرتكب فيها جرائم قتل وتعذيب وسجن وتنكيل بمعارضى الأنظمة الحاكمة خاصةً فى إفريقيا.ودفع ذلك محكمة الجنايات الدولية لاتهام بعض قادتها وسياسييها بارتكاب جرائم حرب وإبادة وجرائم ضد الإنسانية وإصدار أوامر اعتقال لمحاكمتهم، كما أصدرت محاكم فى دول مثل بلجيكا وإسبانيا أحكاماً وأوامر اعتقال ضد بعض القادة العسكريين والسياسيين الأفارقة من بينهم الجنرال كاراكى رئيس المخابرات الرواندية الذى اعتقلته بريطانيا الأسبوع الماضى تنفيذاً لحكم محكمة إسبانية أدانته و39 آخرين بارتكاب مجازر ضد مدنيين، من بينهم ثلاثة مواطنين إسبان يعملون فى منظمة طبية، عقب استيلاء الجبهة الوطنية المتمردة على السلطة عام 1994 فى رواندا، فقد تدخلت قوات الجبهة التى يهيمن عليها التوتسى بدعم من الجيش الأوغندى فى يوليو 1994 لوقف حملة الإبادة الجماعية التى شنها المتطرفون من عرقية الهوتو ضد أبناء عرقية التوتسي، انتقاماً لمصرع الرئيس جوفينال هابياريمانا المنتمى للهوتو بإسقاط طائرته، وبدلاً من العمل على استعادة الأمن والنظام ووقف عمليات القتل شرعت قوات الجبهة فى عمليات انتقامية من الهوتو راح ضحيتها الآلاف من المدنيين، وفقاً لما ذكرته منظمات مدافعة عن حقوق الإنسان مثل هيومن رايتس ووتش التى اتهمت الجبهة بارتكاب عمليات إعدام ومذابح جماعية. اعتقال كاراكى يُثبت مرة أخرى أن ضمير العالم لم يعُد يتجاهل ما يرتكبه القادة فى حق شعوبهم من جرائم ولو كانت فى أدغال إفريقيا، وأن الشعوب المغلوبة على أمرها لم تعُد وحدها فى مواجهة الطغاة الذين سيواجهون العدالة يوماً ما،لعلّ وعسى أن يراجعوا أنفسهم ويرتدعوا عن انتهاك حقوق الإنسان التى كفلتها الأديان قبل القوانين الدولية الموضوعة بقرون.فلم تكن وصايا أبى بكر الصديق (رضى الله عنه) لأسامة بن زيد هى الوحيدة فى هذا المجال،فقد سبقتها توجيهات الرسول محمد(صلى الله عليه وسلم) للقائد نفسه قبل أن يغادر بقواته المدينةالمنورة بقوله : (اغزوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة )،مشدداًعلى عدم الغدر بغير المسلمين وعلى الحفاظ على أرواح الأطفال والنساء بصفة خاصة.ورغم محاكمة مئات الآلاف من المتهمين بالمشاركة فى الإبادة الجماعية التى قضت على نحو 800 ألف رواندى (10% من السكان) أمام محاكم عُرفية محلية، إلاّ أن الكثيرين قضوا نحبهم داخل الزنازين المكتظة قبل البت فى أمرهم، ولم يتم الانتهاء من محاكمة معظم المليونى متهم رغم مرور 21 عاماً على المجازر. الصراع العرقى بين الهوتو والتوتسى فى رواندا وجارتها بوروندى لم يكن وليد مذابح 1994، بل يعود إلى الوراء عشرات السنين بسبب هيمنة التوتسى على السلطة بالتواطؤ مع الاستعمار البلجيكي، فرغم أنهم لا يشكّلون سوى 15% من السكان فى البلدين إلاّ أنهم استأثروا لأنفسهم بالتعليم والخيرات، وحرموا منها معظم الهوتو الذين يشكلون 85% من الشعبين، وتركوهم يكدحون فى الزراعة والرعى حتى فاض بهم الكيل، فهبّ الهوتو ليطيحوا بنظام التوتسى الملكى فى رواندا عام 1959، وقتها هرب آلاف من التوتسى إلى أوغندا ودول مجاورة وأسّس بعضهم الجبهة الوطنية التى اتهمها المتطرفون الهوتو فيما بعد بإسقاط طائرة الرئيس لدى عودته من مؤتمر للسلام فى تنزانيا بصحبة رئيس بوروندي، وردّ الهوتو بتنفيذ المذابح بتخطيط محكم حيث تم تسليم الجماعات المتطرفة قوائم بأسماء وعناوين معارضى الحكومة لقتلهم فى بيوتهم مع أفراد أسرهم واستخدام محطات إذاعية خاصة لإذاعة أسماء المطلوب قتلهم بمن فيهم قساوسة وراهبات، وللحض على (إبادة الصراصير) فى إشارة إلى التوتسي، مما دفع الجار إلى قتل جاره، والزوج إلى إزهاق روح زوجته إذا كانت تنتمى للتوتسي، بالإضافة إلى إقامة نقاط تفتيش على الطرق لقتل كل من تُثبت بطاقته أنه توتسي، واحتجاز آلاف من التوتسيات لاستعبادهن جنسياً، وامتدت المآسى إلى بوروندى ذات التقسيمة العرقية نفسها فاحتقن الوضع ولقى نحو 300 ألف مصرعهم فى حرب أهلية استمرت حتى عام 2006، كما تسبّب هروب الآلاف من الهوتو إلى زائير (الكونغو حالياً) فى إثارة حروب عرقية وأهلية راح ضحيتها نحو خمسة ملايين كونغولى خلال الأعوام العشرين الأخيرة فقط. لمزيد من مقالات عطيه عيسوى