يبدو أن القدر قد ساقني إلى ألمانيا خصيصا لكي أشهد معرض رائد ياسين. فقد ضعف بصري كثيرا فى الأونة الأخيرة و أصبحت أعمال رائد هى الأكثر مناسبة لى. يقدم رائد ياسين عدة أعمال فى معرض واحد بينما يستحق كل عمل منهم –فى ظني- معرضا مستقلا بذاته. انه يسعى لاعادة بناء ذاكرته الشخصية من خلال ترتيق فجوات تاريخه العائلى و الوطنى بشذرات من أفلام مصرية ربما تعوضه من ناحية احساس الفقدان، و تقدم له –من ناحية أخرى- مجازا شاعريا يختاره الفنان بحر ارادته، بديلا عن واقع شديد القسوة عاشه منذ طفولته. أرى رائد –رغم ضعف بصري- مبدعا تتحكم فيه طفولته على جميع الأصعدة، فالدافعية وراء أعمال معرضه كلها تكمن فى مرحلة الطفولة و المراهقة، بل أن رائد حتى هذه اللحظة –بالنسبة لي- يتحرك بخيال و هشاشة طفولته. ربما ذلك ما صنع منه فنانا فى المقام الأول. و ربما أننا نتشابه فى هذا الصدد. لذلك يمكنني قراءته قراءة مغايرة عن متابعى أعمال الفنون متعددة الوسائط و متخصصى الفنون البصرية. يمكنني قراءته كسردية طفولية – دون أن ينفى ذلك عنها صفة الاتقان المهنى و المنافسة العالمية- تسعى لاعادة ابداع العالم من خلال تبني رؤية حالمة يلتقي فيها ما هو شخصى بما هو عام، و يتماهى فيها المتخيل مع هو ذاكرة شخصية أو واقع معاش. لقد تمكن رائد فعليا من ابتكار ذاكرة شخصية لنفسه تتضمن لحظات و مسارات من السينما المصرية كأنها هى حياته المتخيلة، فاحترف لعبة الذاكرة و النسيان، و الحذف و الاحلال، و خلق سيرة ذاتية تتقاطع مع تاريخ السينما العربية من ناحية، لكنها تعيد أيضا تأويل الواقع اللبناني الأكبر الذى شكل حياته و أثر فيها و جعله يلجأ الى ذلك المسار النادر من الانتماء الى المتخيل الذى ما يلبث أن يتملكه و يغير من مجازيته و معناه ليصبح مرتبطا به. و من ثم نرى مقاطع البولارويد المكبرة من لقطات أفلامنا المصرية المشهورة و قد اكتسبت سردية جديدة هى قصة رائد الطفل. وقعت فى غرام لقطات البولارويد المهتزة و غير الواضحة. كانت مناسبة لبصري و لم تتحدى قدراتي قط كما تتحداني مؤخرا الصور الدقيقة الواضحة التى تبدو واثقة للغاية من محتواها، و التى تحط من علاقتي بها لأننى لا أقوى على استبصارها بنفس الحدة و الجلاء التى تتطلبها – بل تفرضها- علي. فى بولارويد رائد ياسين ألفة لمن تعودوا على النسيان و على الذاكرة المشوشة. فيه حنو و حنين لمن ألفوا اعادة بناء ذكرياتهم دون الالتزام بحرفية المعنى المتفق عليه للصورة، بل دون أن يلجأوا للاخرين كى يصدقوا على ذكرياتهم كي تكتسب مصداقية. ان الذاكرة هى أيضا عالم معرفى كامل يسهم فى بناء الفرد، و كلما كبر الفرد تغيرت رؤيته لذاكرته و أعاد تشكيلها. ان الذاكرة فى الأغلب ليست موجودة بشكل ثابت و مطلق يجوز أن نتفق عليه جميعا. انها مجرد أصداء من لحظات أثرت فينا، فاحتفظنا بوقع أثرها فى الذاكرة. لكن تلك الذاكرة تتعرض باستمرار لاعادة التأويل، و غالبا ما يحدث ذلك بطريقة لا ارادية فى مسار مداواة الانسان لنفسه، فيحدث الابعاد و التقريب و التعديل و التلوين. تتغير الصورة تغيرات لانهائية دون سلطة تقيدها. هكذا أيضا تتغير لقطات بولارويد رائد لتغادر ارتباطها فى خيالى بلحظات عرض تلك الافلام، و تتخذ موقعا جديدا هو حياة رائد فى نظرى الضعيف، و الذى يستريح للتعرف و التوحد بسبب طبيعة اللقطات المشوشة و الغائمة أحيانا. هكذا يختتم رائد مساره المعقد و الشائك –رغم طفوليته- بأن يتخلل ذكرياتنا الشخصية الفرد تلو الاخر ليضع بصمته على لحظات أيقونية فى السينما المصرية. عندما نشاهد التقطيع المتوازي و المتكرر من مشهد هروب محمود عبد العزيز داخل مواسير المجاري العملاقة الفارغة، فى فيلم «نص أرنب»، سوف نتذكر هذا الفيلم بعدها بطريقة مغايرة لخبرتنا به. سوف نتذكره كعلامة على مقتل والد رائد الذى تمت سرقة أمواله أيضا، و من ثم نتلقى «نص أرنب» ليس فحسب كأيقونة لصانع السينما الكبير محمد خان يرصد بها تحولات المجتمع الرأسمالى المصري و تضاؤل قيمة الانسان، و انما كعلامة من التاريخ الشخصي لرائد ياسين و حكايات أسرته و طفولته. هكذا أيضا نرى لقطة لمحمود ياسين و هو يراقص يسرا، بينما يكتب رائد سردا أسفل الشاشة –هو كترجمة مجازية- يشرح فيه المعنى الذى يقترحه لهذه اللقطة و يتخيل أن والده «سمير ياسين» قد غواه فن التمثيل و هاجر الى القاهرة و أصبح الممثل المشهور «محمود ياسين» و غير اسمه من «سمير» الى «محمود». يحاول رائد الطفل أن يحنو على نفسه و يداوى فاجعة مقتل الأب، انه أيضا يذكرنا جميعا بمداواتنا المتخيلة لجراحنا منذ الطفولة، تلك المداواة التى فقدنا الحق فيها بمجرد نضوجنا و حرماننا من بوابة الخيال الجامح الذى من شأنه أن يجعلنا جميعا مبدعين.. لقد حافظ رائد ياسين على بوابة خيالية خاصة به و تحمل توقيعه الشخصى. لكنه استطاع أيضا أن يفتح تلك البوابة على بوابات طفولتنا جميعا. لقد جلست أتابع فيلمه القصير «كاريوكي» فى قاعة «أكاديمية فنون العالم» بمدينة كولونيا، لأشهد بذور عقدة رائد الطفل من حكم الآخرين عليه عندما لم يتمكن من الغناء كما يجب مصاحبا لوالدته أمام الجمهور، لقد انكسر شيء ما لدى رائد الطفل حينها، شيء ما حفزه كي يصنع تاريخه و استحقاقه الخاص فيما بعد و على مدار سنوات عمره. لكنني شهدت أيضا والدة رائد على فراش المرض، شهدت لحظات أصيلة و خاصة قبض عليها رائد بكاميرته السينمائية كي يمد فى عمر والدته حتى اليوم. للحظات خيل الي أننى أشاهد جدتى التى قضت سنوات على فراش المرض و كانت نموذجا للاصرار والشجاعة، للحظات حضرت جدتي و رأيتها ببصري المشوش فى وجه أم رائد و حضرتها، تجمعت الدموع فى عيني و لم تغادرها حتى الآن. لقد أصبحت والدة رائد جدتي و اندمجت ذكرياتنا...