وسط الحصار القرشى الرهيب للمسلمين فى شعب بنى هاشم فى السنة العاشرة من البعثة ووسط الآلام وأحزان المسلمين التى لايعرف أحد متى تنتهي، كان العباس عم النبى صلى الله عليه وسلم على موعد مع فرحة بميلاد ابنه عبدالله، وبمجرد ولادته يذهب العباس به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فرحا مسرورا، فيبتسم له النبى ويبارك له ويقبله فى حنان، ويمسح على رأسه بيده الطاهرة، ويهدى له ولأبيه هدية رفعت من شأنهما على مر التاريخ، ولم تكن الهدية مالا ولا وعدا بمال ولا منصبا ولا وعدا بمنصب، كانت الهدية دعاء مخلصا من رسول الله صلى الله عليه وسلم للوليد الصغير «اللهم املأ جوفه فهما وعلما، واجعله من عبادك الصالحين» ويفارق الرسول صلى الله عليه وسلم الولد الصغير بعد ثلاث سنوات مهاجرا إلى المدينة، إلا أنه وبعد ثمانى سنوات وبينما الرسول يسير بجيشه نحو مكة لفتحها يشاء الله تعالى أن يعزم العباس على الهجرة إلى المدينة، ليلتقى العباس بالجيش قبل أن يدخل مكة ويصبح العباس وابنه آخر مهاجرين إلى المدينة. فى المدينة كان عبدالله يلازم النبى عليه السلام ملازمة شديدة بحكم قرابته منه ومن ميمونة زوجة الرسول وخالة عبدالله، وفى أحد الأيام كان عبدالله فى بيت الرسول مع زوجته ميمونة وأمر الرسول أن يتوضأ للصلاة، فأسرع الغلام ليجهز الوضوء للرسول صلى الله عليه وسلم وعندما دخل الرسول قالت له ميمونة: «يارسول الله.. وضع لك هذا ابن عباس » فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم ويدعو له قائلا: «اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل». لم يكن ابن عباس مجرد فتى صغير يريد أن يلهو مع أقرانه من نفس سنه، بل كان يشعر دائما أن الله قد رزقه موهبة فى القدرة على البحث والتحصيل لم تتح لأحد غيره، كان وهو فى هذه السن الصغيرة يحسس مجالس الصحابة فيجلس معهم، فيسمع منهم أحاديث رسول الله ويستمع إلى مناقشاتهم وجدالهم وآرائهم فينضج عقله وتزداد معرفته، وكان رضى الله عنه يبحث عن العلم بعقلية باحث محترف، لا بأسلوب هاو يريد جمع معلومات فقط، وكان دائما يتثبت من المعلومة، فإذا سمع حديثا أو آية يجرى بعدها عملية التأكد من المصدر، وسؤال مصادر أخرى حتى أنه قد وصل فى بعض المسائل إلى سؤال ثلاثين صحابيا فى مسألة واحدة. لم يكن ابن عباس بحاجة إلى أن يعرف أن التواضع أحد الأبواب الواسعة جدا للعلم فكان يتواضع لكل من لديه علم أو معلومة. ظل ابن عباس يملأ الدنيا علما وحكمة، وهو يعلم الناس أخلاق العلماء وكان لا يكن ضغينة لأحد، ولا يحب الاستئثار بالعلم لنفسه دون غيره، بل يحب أن يعلم الناس ما يعلم، وفى أواخر حياته كف بصر ابن عباس، وفى السنة السادسة والثمانين من الهجرة، وعن عمر يناهز واحدا وسبعين عاما، لقى عبدالله بن عباس ربه ودفن بالطائف، وداعا ياحبر الأمة يا ترجمان القرآن.