منتخب سلة سوهاج بطلاً لدوري الجامعات والمعاهد بدورة الشهيد الرفاعي ال53    اليورو يغلق التعاملات على تراجع اليوم الثلاثاء 2 ديسمبر 2025 بالبنوك المصرية    "التخطيط" تترأس اجتماعًا تحضيريًا للجنة المصرية–البلغارية للتعاون الاقتصادي والعلمي والفني    محافظ الغربية يتابع إجراءات تشغيل وإدارة مرفقي النقل الداخلي بطنطا والمحلة الكبرى    محافظ المنيا: إزالة 2171 حالة تعدٍ على الأراضي الزراعية ضمن الموجة 27    رئيس الوزراء يُتابع تطور الأعمال بالتجمع العمراني الجديد td جزيرة الوراق    مصر تواصل دفع المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة رغم التعنت الإسرائيلي    مصر ضد الكويت.. الأزرق يعلن تشكيل ضربة البداية في كأس العرب 2025    الأمين العام يحذر: المستحقات غير المسددة للأمم المتحدة تقارب 1.6 مليار دولار    أستاذة جامعية إسرائيلية تُضرب عن الطعام بعد اعتقالها لوصف نتنياهو بالخائن    تشكيل هجومي للكويت أمام منتخب مصر    قميص أحمد رفعت يزين غرفة ملابس منتخب مصر الثانى قبل مباراة الكويت    موعد مباراة توتنهام ونيوكاسل والقناة الناقلة    الأهلي يترقب موقف ييس تورب لدراسة عرض برشلونة لضم حمزة عبد الكريم    تحرير 11 مخالفة تموينية خلال حملة على الأسواق بمغاغة    جامعة سوهاج الأهلية تنظم أولى رحلاتها إلى المتحف المصري الكبير    فتح باب التسجيل فى دورة الدراسات السينمائية الحرة بقصر السينما    العربية للمسرح تعلن أسماء العروض المشاركة في مهرجان الهيئة لعام 2026    رمضان 2026| مى عز الدين تشارك ريم البارودي في مسلسل «قبل وبعد»    الصحة تطلق استراتيجية توطين صناعة اللقاحات.. موعد تحقيق الاكتفاء الذاتي    السيسي يبعث برقية تهنئة لرئيس الإمارات بمناسبة ذكرى الاحتفال باليوم الوطني    بابا الفاتيكان يدعو اللبنانيين إلى عدم الإحباط والرضوخ لمنطق العنف    المحكمة الإدارية العليا تتلقى 8 طعون على نتيجة انتخابات مجلس النواب    فى زيارته الأولى لمصر.. الأوبرا تستضيف العالمي ستيف بركات على المسرح الكبير    رئيس جامعة الأزهر: العلاقات العلمية بين مصر وإندونيسيا وثيقة ولها جذور تاريخية    تركيا: خطوات لتفعيل وتوسيع اتفاقية التجارة التفضيلية لمجموعة الثماني    موعد مباراة مانشستر سيتي وفولهام بالدوري الإنجليزي والقناة الناقلة    رئيس اقتصادية قناة السويس: المنطقة منصة مثالية للشركات الأمريكية لعمليات التصنيع والتصدير    الطقس غدا.. انخفاضات درجات الحرارة مستمرة وظاهرة خطيرة بالطرق    الداخلية تكشف تفاصيل فيديو اعتداء شخص على حيوانات أليفة: مريض نفسي    لأول مرة في الدراما التلفزيونية محمد سراج يشارك في مسلسل لا ترد ولا تستبدل بطولة أحمد السعدني ودينا الشربيني    مصرع طفل إثر اصطدام سيارة ملاكي به في المنوفية    مكتب نتنياهو: إسرائيل تستعد لاستلام عيّنات من الصليب الأحمر تم نقلها من غزة    زيلينسكي: وثيقة جنيف للسلام في أوكرانيا تم تطويرها بشكل جيد    مدير الهيئة الوطنية للانتخابات: الاستحقاق الدستورى أمانة عظيمة وبالغة الحساسية    أمن المنافذ يضبط 47 قضية متنوعة خلال 24 ساعة    ضبط قضايا اتجار غير مشروع بالنقد الأجنبي خلال 24 ساعة قيمتها 6 ملايين جنيه    الأمم المتحدة: 50 مليون شخص حول العالم ضحايا الرق الحديث    وزير الصحة يبحث مع وزير المالية انتظام سلاسل توريد الأدوية والمستلزمات الطبية    6 نصائح تمنع زيادة دهون البطن بعد انقطاع الطمث    تحرير 141 مخالفة لمحال لم تلتزم بقرار مجلس الوزراء بالغلق لترشيد الكهرباء    سلوت: محمد صلاح سيظل لاعبًا محترفًا من الطراز الرفيع    "الأوقاف": حجم مشاركة غير مسبوق في مسابقة القرآن الكريم العالمية    محمود ناجى حكما لنهائى كأس ليبيا بين أهلى طرابلس وبنى غازى غدا    وزير العمل يسلّم 25 عقد توظيف في مجال النجارة والحدادة والبناء بالإمارات    سامح حسين: لم يتم تعيينى عضوًا بهيئة تدريس جامعة حلوان    بعد جريمة التحرش بالأطفال في المدارسة الدولية، علاء مبارك يوجه رسالة قوية للآباء    فيتامينات طبيعية تقوى مناعة طفلك بدون أدوية ومكملات    أمين عمر حكما لمباراة الجزائر والسودان في كأس العرب    حوادث المدارس والحافز.. مشاهد تُعجل بنهاية "وزير التعليم" في الوزارة.. دراسة تحليلية.. بقلم:حافظ الشاعر    الفيشاوي وجميلة عوض يعودان للرومانسية في فيلمهما الجديد «حين يكتب الحب»    اليوم .. إعلان نتائج المرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب    مواقيت الصلاه اليوم الثلاثاء 2ديسمبر 2025 فى المنيا    ضبط 379 قضية مواد مخدرة فى حملات أمنية    ما حكم الصلاة في البيوت حال المطر؟ .. الإفتاء تجيب    أدعية الفجر.. اللهم اكتب لنا رزقًا يغنينا عن سؤال غيرك    المخرج أحمد فؤاد: افتتاحية مسرحية أم كلثوم بالذكاء الاصطناعي.. والغناء كله كان لايف    سر جوف الليل... لماذا يكون الدعاء فيه مستجاب؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مدينة «منف» عبق التاريخ وعبقرية المكان
نشر في الأهرام اليومي يوم 19 - 06 - 2015

هذه مجموعة من الحقائق العلمية التي نود أن نستعرضها في عبارات موجزة محددة ، لعلها تحظي بشيء من التدقيق أو إمعان النظر عند
كل راغب في التعرف علي المكانة التاريخية والأهمية الجغرافية للموقع الفريد والعتيق الذي تشغله القاهرة الكبري الحالية .
مدينة «منف» المصرية القديمة (تقع في رحابها منطقة «ميت رهينة» الحالية البدرشين محافظة الجيزة) هي أول عاصمة لأول حكومة مركزية في تاريخ العالم القديم .
كانت البداية الأولي لمدينة «الأسوار البيضاء» (أول أسماء «منف») مع الملك الخالد الذي وحد الأرضين (الصعيد والدلتا) وأسس الأسرة المصرية (الفرعونية) الأولي في عام 3050 ق.م ، والذي هو «حورس - عحا» ، الذي اشتهر لدي أجيال المصريين القدماء باسم «مني» (تسمية تعني لديهم : المؤسس الراعي الخالد) ، ويعرفه المصريون اليوم ، وإلي آخر الزمان ، باسم الملك «مينا» .
ونسمع أن هذا الملك «Menes» (= «مينا») كان قد سعي جاهدًا لجعل تلك البقعة الفريدة من الأرض المصرية عاصمة لمملكته المتحدة ، وذلك بأن أمر بإقامة مجموعة من السدود والجسور عند طرفها الجنوبي لكي يستغل أكبر مساحة من الأرض هناك كان فيضان النيل يغرقها من قبل (Herodotus II , 4 , 99) .
ويعتز الناس في مدينة «منف» بالملك ( «مني» ) الذي أسسها وأقام الوحدة الخالدة للأرض المصرية ، إلي درجة أنهم خصصوا بعض الهياكل والمقاصير في مدينتهم لكي تخلد ذكراه ، بل وترفعه إلي مرتبة القداسة أحيانا . استمر هذا الأمر حتي العصر البطلمي ، وقبل دخول الرومان إلي مصر(MÄS 17 , 15 ff. ) .
وتقليدًا ، فإن المصريين ، منذ بداية الدولة الحديثة (1550ق.م) علي أقل تقدير ، كانوا يربطون نشأة عبادة الرب «بتاح» وتأسيس معبده في «منف» بملكهم الموحد خالد الذكر «مني» ، الأمر الذي ظل معروفا ولأجيال طويلة ، بل وأشار به الكهنة لهيرودوت في القرن الخامس ق.م (Herodotus II , 99) .
والطريف أن هيرودوت كان هو الوحيد ، بين كل مؤرخي وكتاب العصور الكلاسيكية ، الذي ذكر اسم هذا الملك الموحد بطريقة تكاد تتطابق مع النطق المصري القديم : «مين» .
ولدينا من الإشارات ما يؤكد استمرار الطقوس والشعائر في معبد «بتاح» سيد أرباب مدينة «منف» ، إلي القرن الثالث الميلادي .
كان موقع مدينة الشمس (Heliopolis عين شمس - المطرية) هو الآخر من القدم والعراقة والأهمية الدينية ، بل والارتباط والتكامل مع موقع عاصمة مصر «منف» ، الأمر الذي حدا بالمصريين القدماء أن يطلقوا علي هذا القطاع علي الضفة الشرقية للنيل ، والواقع في مواجهة «منف» (يضم حاليا مناطق : المطرية عرب الحصن أرض النعام الزيتون القاهرة المعادي طرة المعصرة حلوان) ذلك الاسم المعبر : (= «مدينة الأسوار البيضاء الشرقية» بمعني آخر «منف الشرقية») . هكذا نجد أنهم أيقنوا جيدا أن موقع «منف» الكبري يكون علي ضفتي النيل . وكان العالم الألماني الكبير K. Sethe قد أشار إلي هذه الحقيقة وأكد عليها منذ زمن طويل (SPAW , Berlin (1933) , 872) .
وتبقي «منف» عاصمة للديار المصرية طيلة أسرات الدولة القديمة التي انتهت في 2145 ق.م.
ويعود إليها المجد عندما عاد مقر الحكم ليكون في رحابها (في منطقة اللشت) في الدولة الوسطي منذ بداية الأسرة الثانية عشرة (1976 ق.م) .
وبعد طرد الهكسوس ، ومع بدء مرحلة التوسع والانفتاح الحضاري المصري شمالا وجنوبا في الدولة الحديثة (اعتبارًا من 1550 ق.م) ، تصير «منف» هي أول مدينة لها صفة العالمية (cosmopolitan) في تاريخ البشرية ، وذلك لوجود أحياء كاملة في رحابها تقطنها جاليات من الأجانب (سوريون فينيقيون حيثيون ...إلخ) . وكان أن سُمح لهؤلاء ، تمشيا مع روح السماحة والتسامح التي بها اشتهرت مصر وأهلها في كل عصورهم ، أن يتعبدوا لأرباب البلاد التي منها قدموا (بعل رشف عشتار عنات قادش حورون ...إلخ) .
وكانت «منف» آنذاك (في الدولة الحديثة) هي مقر إقامة الأمير ولي العهد ، فيها يتلقي علومه التربوية وتدريباته العسكرية . وبالصدفة ، فإننا نعرف أن الأمير «أمنحتب» (الفرعون أمنحتب الثاني فيما بعد) كان من مواليد مدينة «منف» ، ذلك أن والده ، الفاتح العظيم والسياسي البارع الملك «تحتمس الثالث» ، كان كثير الإقامة بها ، نظرا لخروجه لقرابة 17 مرة في حملات علي رأس جيشه إلي بلاد الشام وأعالي الفرات .
وتصير «منف» خلال عهود المجد في الدولة الحديثة هي مقر قيادة الجيش (= وزارة الدفاع) ، وبها أكبر الحاميات والمراكز العسكرية في الدولة المصرية ، بل وعلي أرضها خرجت للوجود أكبر ترسانة لتصنيع السلاح عرفها العالم القديم آنذاك .
ومن الغريب أن ملك الوحدانية «إخناتون» ، الذي كان قد هجر مدينة طيبة (الأقصر الحالية) واستقر به المقام في عاصمته الجديدة «آخت - آتون» (تل العمارنة محافظة المنيا) ، لم يغفل هو الآخر أن يقيم لربه الواحد «آتون» (قرص الشمس الذي ينشر نوره علي الكون) معبدًا في أعرق المدن المصرية «منف» (SAK 2 (1975) , 139 ff.) .
والمعروف أن الملك الصغير «توت عنخ آمون» كان يفضل الإقامة في «منف» : (JEA 25 (1939) ,12) .
وكان الأمير الأشهر «خع إم- واس» (أحد أبناء الملك العظيم «رمسيس الثاني» وكبير كهنة «بتاح» في «منف») مولعا بحب آثار أجداده والحفاظ عليها ، وذلك إلي درجة أنه قام بأعمال ترميم في كثير من أماكن الجبانة المنفية (معبد الشمس في «أبو غراب» مجموعة الملك «ساحورع» في «أبوصير» مجموعة الملك «أوسركاف» وهرم الملك «أوناس» ومصطبة الفرعون في «سقارة» مجموعة أخري من الأهرام كان منها هرما «زوسر» بسقارة وهرم «خوفو» بالجيزة) . ونسمعه يتحدث عن نفسه وعن أعماله هذه في بعض المواقع ، ونراه يختم حديثه وبكلمات مؤثرة يقول :
«.... لقد أحب كثيرًا أن يُخلد (يحافظ علي) آثار ملوك مصر العليا والسفلي ، وذلك من أجل خاطر صنيعهم (عطائهم لمصر) ، خصوصا تلك التي كانت قد بدأت تتهاوي» .
وتصير مدينة «منف» اسما ومكانا - بالنسبة للمصريين في كل عصورهم القديمة هي الرمز وهي التجسيد لوحدة أرض بلادهم ، حتي إن أصدق تعبير يدل علي ذلك هو قولهم عن مدينتهم الأثيرة : «ذلك الموضع الذي عنده يتم توحيد الأرضين (الصعيد والدلتا)» .
واسم «منف» يرجع إلي اسم المجموعة الهرمية للملك «ببي الأول» (الأسرة السادسة) ، تلك التي كان يطلق عليها : Mn-nfr-Ppi (بمعني : «دائم بهاء (الملك) ببي») ، ثم حدث اختصار لهذه التسمية لتصبح : «من - نفر» وتصير هكذا أشهر الأسماء التي أشارت إلي أم المدائن في الكتابات المصرية القديمة ، بل وفي العصور البابلية والآشورية ، ثم نطقها الإغريق هكذا : Memphis ، وأخيرا وردت في النصوص القبطية Mq ، وهو الاسم الذي بقي في اللغة العربية حتي اليوم .
إلا أن أقدم الأسماء التي أطلقت علي عاصمتنا العتيقة كانت تلك التسمية التي تصفها بأنها مدينة «الأسوار البيضاء» . بعدها واعتباراً من الدولة القديمة تجيء تسمية أخري معبرة عن أهمية ذلك الموقع العبقري لتوازن وتوسط موضعه بين الدلتا والصعيد ، وتلك هي : «ميزان (= رباط) الأرضين» .
والجدير بالذكر أن اسم «حياة الأرضين» كان أيضًا من الأسماء ذات المعني والدلالة علي دور ومكانة مدينة «منف» ، بل ونعرف أنه كان الاسم المفضل والسائد في نصوص العصور اليونانية الرومانية (JEA 54 (1968) , 146) .
واعتبارا من الدولة الحديثة ، فإن تسمية أخري للمدينة بدأت تتردد كثيرا وتشير صراحة إلي أشهر معالم «منف» ، ألا وهو معبد ربها الأكبر «بتاح» : . ويبقي هذا الاسم لقرون طويلة مرتبطا بالمدينة ، وذلك عند المصريين وعند العالم الخارجي ، إلي درجة أن النصوص البابلية والآشورية (في القرون من الثامن إلي السادس قبل الميلاد) كانت تذكرها هكذا : Hukaptah أو Hikuptah . ويحوّر الإغريق من بعد ذلك هذا الاسم وينطقونه بطريقتهم الخاصة ليشير ليس إلي المدينة فقط بل إلي أرض مصر كلها ، فيصير عندهم هكذا : Aigyptos وتلك هي نفس التسمية التي مازالت تتردد في كل اللغات الأوروبية الحديثة (Egypt Egypte- Ägypten) وتشير إلي أرض بلادنا . هكذا نجد أن عاصمة مصر الخالدة كانت - وبحق هي التجسيد الكامل للدولة المصرية ، إلي درجة أننا حتي يومنا هذا عندما نذكر اسم بلدنا «مصر» فنجدنا نستخدمه في أحيان كثيرة لكي نشير به إلي العاصمة ذاتها .
وفي نص يعود إلي الدولة الحديثة نسمع عن تلك التسمية أو الوصف عظيم المغزي بالنسبة لمدينة «منف» ، التي ذُكرت فيه علي أساس أنها «مدينة الخلود» (حرفيا : «مدينة الزمن اللانهائي» = ) .
كذلك فلقد كان طبيعيا أن تصير هذه المدينة وثقلها الديني في مصر القديمة علي ارتباط كامل بربها الأشهر «بتاح» وبمعبده الكبير عند طرفها الجنوبي ، والذي اتسعت رقعة مبانيه علي مدي القرون الطويلة ، حتي إن العلماء يقدرون المساحة الكلية لمجموعة المعابد والهياكل التي كرست لهذا المعبود والمعبودات التي دخلت في حومته بحوالي 65 فدانا ، الأمر الذي حدا بالمصريين القدماء أن يطلقوا علي «منف» أحيانا تسمية أخري ، ألا وهي : «مدينة بتاح» .
ويتغني «هيرودوت» بروعة المعابد في «منف» وضخامة تماثيلها وفخامة قاعاتها وخصوصا تنوع أعمدتها وزخرفة تيجانها .
وإلي جانب «هيرودوت» حوالي (450 ق.م)، فإن «ديودور الصقلي» (حوالي 55 ق.م) ، ومن بعده «سترابو» (حوالي 25 ق.م) كانا قد تحدثا طويلاً عن جمال المدينة وما كانت عليه من شهرة ومجد تليد .
كذلك فلقد أسهب «هيرودوت» (Herodotus II , 153) في وصف بوابات «منف» الأربعة وما كانت عليه من الفخامة والأبهة ، وذلك بالرغم من أن الزيارة كانت في القرن الخامس قبل الميلاد ، أي من بعد أن خبت جذوة المجد عن أم الحواضر في تلك العصور المتأخرة والمتدهورة .
وبمناسبة الحديث عن جمال «منف» ، فلعلنا أن نذكر أن المدينة كانت قد عرفت منذ الدولة القديمة - وظيفة هامة في جهازها الإداري كان شاغلها يحمل لقب : « المشرف العام علي كل أشجار «منف» « . هذه هي المدنية ، وهذا هو الرقي ، وتلك هي أرفع درجات الحضارة الحقة ، أن يصل الاعتناء والاهتمام بجمال وخضرة أقدم عواصم العالم القديم إلي ذلك الحد .
وفي الدولة الحديثة (بعد قرابة 1800 عام من تأسيس مدينة «منف») نسمع أن أهل مصر كانوا يعتزون ويتغنون بحاضرة الحواضر علي أرض بلادهم ، فنجد أحدهم ينطق بكلمات كلها الشوق واللهفة فيقول : « انظر ! إن قلبي قد فارقني ، إنه يسارع إلي المكان الذي يعرفه (من قبل) ، إنه يسافر من أجل (مجرد) التطلع إلي «منف» « (Papyrus Anastasi IV).ويذكر للقائمين علي إدارة مرفأ (ميناء) مدينة «منف» علي شاطيء النيل أنهم كانوا يُحصّلون من كل مركب يسمح لها بالدخول والإرساء علي الرصيف ما قيمته واحد «دبن» (وحدة وزن مصرية قديمة تعادل حاليا حوالي 91 جراما) من الفضة ، وذلك كرسوم خدمات (شحن أو تفريغ الحمولة) .
ويشتهر «بيت الحياة» في مدينة «منف» كأحد المؤسسات الكبري للبحث العلمي علي أرض مصر ، حتي إن طبيب الإغريق الأشهر Hippocrates (أبقراط أبو الطب عاش من 460 إلي 370 ق.م) كان قد تعلم الكثير من البرديات الطبية التي كانت مودعة في هذه الأكاديمية المنفية .
وكان أهل الكهانة في مدينة «منف» قد قدروا في نظرية الخَلْق الخاصة بمدينتهم أن ربهم الأكبر «بتاح» كان قد أتم ذلك بالعقل واللسان ، أي بفكرة خطرت علي قلبه ونطق بها لسانه . تلك إِذاً هي أسمي مراتب التأمل والتصور البشري بالنسبة للأفكار والنظريات المتعلقة بالنشأة الأولي للكون عند شعوب العالم القديم .
ونعلم من اللوحة (البازلتية) المشهورة باسم «حجر رشيد» (المتحف البريطاني) أن قرارا كان قد صدر من المجمع الكهنوتي في مدينة «منف» وذلك بمناسبة عيد تتويج الملك البطلمي (بطليموس الخامس) في العام التاسع من حكمه (196 ق.م) . سُجل هذا القرار باللغة المصرية القديمة وبالخطين الهيروغليفي والديموطيقي مع ترجمة له باللغة اليونانية . هكذا شاء القدر أن تكون هذه الكتابات التي سجلها كهنة مدينة «منف» علي هذا الحجر هي مفتاح فك غموض اللغة المصرية القديمة ، وذلك في عام 1822 م علي يد العالم الفرنسي الشاب J.-F. Champollion .
وفي القرن السابع قبل الميلاد كانت «منف» قد وصلت إلي مرتبة أكبر من العالمية ، وذلك بوجود تجمعات سكنية علي أرضها تخص طوائف من الإغريق والكاريين ، هذا بالإضافة إلي غيرهم من الأجانب من شعوب غرب آسيا والذين كانوا يعيشون في رحابها منذ أكثر من سبعة قرون (منذ الدولة الحديثة) .
وكانت المدينة قد عرفت في الأسرة السادسة والعشرين (في الفترة من حوالي منتصف القرن السابع إلي منتصف القرن السادس قبل الميلاد) وجود مجموعات من الجنود المرتزقة من الإغريق كانوا يخدمون في الحراسات الخاصة .
وفي كل حقب التاريخ المصري القديم ، فلقد كان مجرد دخول مدينة «منف» أو الاستيلاء عليها من قبل الغزاة (الآشوريون الفرس) هو بمثابة الإعلان عن سقوط مصر كلها في أيديهم .
وكان تتويج الإسكندر الأكبر جريا علي سنة الملوك الفراعنة في معبد ربها الأكبر «بتاح» هو الإعلان الرسمي عن شرعية حكمه وولايته علي الأرض المصرية ، وهو كذلك اعتراف وإقرار ، حتي في هذا الزمان ، بمدي أهمية وعراقة هذه المدينة المصرية .
وتسجل بعض الكتابات الرومانية أهمية خاصة لمقياس النيل (Nilometer) عند مدينة «منف» ، والذي عن طريقه كان يتم تحديد مستوي ارتفاع ماء الفيضان ، وبالتالي إمكانية تقدير الضريبة علي المحاصيل .
وتمتد الجبانة المنفية لحوالي 30 كيلو مترا من الشمال إلي الجنوب : من «أبو رواش» إلي «الجيزة» إلي «زاوية العريان» إلي «أبو صير» ، ثم الجبانة الأولي «سقارة» (إلي الغرب من مدينة «منف» مباشرة يبدو أن اسمها هو تحوير لاسم رب العالم الآخر «سوكر») ، وأخيرًا «دهشور» . هنا يتجسد أمامنا وبحق أكبر متحف مفتوح علي ظهر الأرض ، فيه العديد من المعالم والروائع والشواهد الأثرية (الأهرام أبو الهول معابد الشمس متون الأهرام السيرابيوم المعابد مصاطب ومقابر الأمراء والأشراف من جميع العصور ... إلخ) ، تلك التي تعبر عن طبيعة الفكر وأصالة المعدن لأمة كانت ولاتزال بإذن الله تنشد دائمًا قيم الجمال والجلال والبناء والخلود .
وبعد ، فلعل أبلغ القول الذي يمكن أن نسوقه إلي كل متطلع أو لاهث وراء بريق وبرقشة الحداثة هو مقولة رجل عاش في بداية حكم الملوك الرعامسة (حوالي 1290 - 1270 ق.م) ، وذلك عندما ظهر مصورا علي لوحته وهو يوجه حديثه إلي تمثال «أبو الهول» الرابض (منذ 2550 ق.م) علي ربوة الجيزة في رحاب أهرام الأسرة الرابعة - يقول الرجل : « إنك الوحيد المتواجد علي الدوام ، بينما الناس جميعا إلي زوال ! « .
اقول قولي هذا إلي الذين يعتدون بمغزي الأصالة وأهمية العراقة ويعرفون معني التراث وقيمة الحضارة وعلي الله قصد السبيل .
لمزيد من مقالات د. على رضوان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.