بالأمس القريب قادتنى قدماى لزيارة قرية ميت رهينة جنوب محافظة الجيزة، وأخذت أتجول بين أطلالها الأثرية القديمة التى يحفها النخيل، وقد آوت الشمس للمغيب فوجدت أطلالها كأنها رجع صدى لتاريخ عريق، فعلى هذه الأرض نشأت واحدة من أقدم المدن المصرية على الضفة الغربية لنهر النيل فى عصر ما قبل الأسرات. ومع نشأة الدولة المصرية خلال عصر الأسرة الأولى اتخذها الملك نعرمر عاصمة لمصر الموحدة، ووصلها عن طريق قناة بنهر النيل وأحاطها بأسوار ضخمة بيضاء اللون، أطلق المصريون عليها اسم إينب حج أى الجدار الأبيض، ومع عصر الدولة القديمة تزايدت أهمية المدينة واتخذها الصناع والفنانون مركزًا لهم عندما صارت التلال الغربية للمدينة جبانة سقارة حاليا مقرًّا للجبانة الملكية، حيث شيد الملك زوسر هرمه المدرج أول هرم فى الحضارة المصرية، كما أقام النبلاء وكبار رجال الدولة مقابرهم البديعة هناك، وخلال عصر الأسرة السادسة اتسعت المدينةجنوبًا وشرقًا عندما أقام الملك بيبى الأول بها حى من - نفر أى الأثر الجميل الذى أقام به مهندسو هرمه فى جبانة سقارة الذى حمل نفس الاسم هناك، وحيث كان هذا الحى أكبر أحياء المدينة، فقد طغى اسمه على المدينة كلها، وهى التسمية التى أصبحت منف فى ما بعد، وكان بتاح الإله الرئيسى للمدينة وربًّا للصناع والفنانين وسيدًا لأحد مذاهب الخلق الكبرى فى مصر. حيث كانت أداة الخلق فيه هى القلب واللسان التى تعبر عن المشيئة والإرادة، وشيد له المصريون معبدًا كبيرًا هناك، والذى أصبح مع عصر الدولة الحديثة ثانى أكبر معبد فى مصر بعد معبد الكرنك، ولا تزال أطلاله بادية بين أشجار النخيل إلى الآن وصارت منف مركزًا لقيادة الجيش ومدينة ضخمة تحيط بها أسوار ذات أربعة بوابات أقام الملك رمسيس الثانى على كل واحدة منها تمثالاً له كان أحدها تمثاله الضخم الذى نقل إلى باب الحديد مع مطلع القرن العشرين، واحتوت المدينة على ميناء ضخم أطلق المصريون عليه اسم برو نفر أى البحّار الجميل، وكان أكبر قاعدة للأسطول المصرى، وبالقرب من معبد بتاح أقام المصريون طريقا للمواكب الجنائزية يمتد من منف إلى سقارة وتحيط به تماثيل للكباش، وأطلق عليه المصريون اسم ميت رهنت أى طريق الكباش، والذى عبّر عن المدينة نفسها فى العصر المتأخر، وهى التسمية التى جاءت منها كلمة ميت رهينة حاليا. وعندما دخل الإسكندر مصر توج كفرعون فى تلك المدينة الخالدة وحتى عند وفاته عام 323 ق.م فقد نقل جثمانه من بابل ودفن فى جبانتها بسقارة ثم نقل جثمانه إلى العاصمة الجديدة الإسكندرية، فى ما بعد، وفى رحاب هذه المدينة اجتمع مجلس الكهنة المصريين عام 196 ق.م ليسجلوا خطاب شكر للملك بطليموس الخامس على إعفاء المعابد المصرية من الضرائب وسجلوا خطابهم على حجر ضخم كتبت منه عدة نُسخ، والتى عثر على إحداها فى مدينة رشيد عام 1799م، وهى المعروفة بحجر رشيد الذى كان مفتاح حل اللغة المصرية القديمة، ومع العصر الرومانى دخلت المدينة العريقة فى دائرة النسيان، حيث احتلت مدينة الإسكندرية مركز الصدارة وأصبحت عاصمة للعالم القديم حتى الفتح العربى لمصر، ورغم طى النسيان للمدينة فإن أصداء الماضى لا تزال تلقى عليها بجلالها لتروى جانبًا من تاريخ مصر المجيد.