يجد المتابع لما يجرى فى العالم نفسه أمام ظاهرة فريدة، فالقاسم المشترك لما يحدث من صراعات وحروب هو أن غالبيتها قائمة فى مواقع على الخريطة الجغرافية توصف بانتمائها إلى العالمين العربى والإسلامي، وهناك بالطبع من يفضل اختيار أسلك وأسهل الطرق عند الحديث عن هذه القلاقل ليذهب إلى أن أسبابها ترجع إلى عوامل تقع خارج منظومته الاجتماعية والحضارية، ويعزو كل هذه المآسى إلى مؤامرات الاستعمار وأحابيل القوى العظمى التى تستهدف المنطقة العربية والإسلامية ومواردها إلى آخر ما يستطيع أن تصل إليه قريحته البلاغية من أوصاف لهذه المؤامرات التى تحاك فى خفاء الأروقة الغربية. ولا ينكر أحد وجود مصالح للدول فى هذه المنطقة من العالم مثلما أن لهذه المنطقة مصالح فى سائر دول العالم، وهذه هى طبيعة العلاقات بين المجتمعات البشرية، غير أن الركود إلى طمأنينة المؤامرات الخارجية جزء من مشكلة أهل هذه المنطقة، فحين تنقلب الكائنات الأيديولوجية إلى كائنات ميليشياوية وينعدم الفاصل الباهت بين القرضاوى وجبهة النصرة، وبين الإخوان المسلمين وجماعة أنصار بيت المقدس، ويتحول البعث العراقى إلى داعشى بسلاسة ويسر، ويتماهى البعثى السورى مع الخومينية وأذنابها.. يصبح الحديث عن مؤامرات تحاك فى الغرب لغوا وهذيانا يعكسان عطبا تاريخيا فى الضمائر والأخلاق والعقول العربية، وعلينا أن نعى أن أمراض اليوم زرعت منذ عقود، وهى أمراض متوطنة تفكك عالمنا العربى والإسلامى بمستويات ودرجات مختلفة، وفى هذا المشهد من يشعر بالظلم ينتقم لمظلوميته ولو بعد حين، لهذا لم يأت عنف داعش من فراغ، فالعراق يعيش العنف منذ ثمانينيات القرن العشرين، والعنف فى سوريا نتاج عنف ممنهج مارسته الدولة ضد شعبها، والعنف الجهادى هو الآخر عنف لم يبرز من شرور متأصلة فى الدين أو فى الشخصية العربية بل من جراء أوضاع سياسية واقتصادية وقمعية عازلة، فكل عنف ينتج شبيها له، وأحيانا نقيضا أسوأ منه، وكل إغلاق للمساحة العامة للحريات يحدث من يريد فتحها بالقوة والتحدى ضررا بمكانة الدولة التى اعتمدت قوانين يتحداها الناس لضعف عقلانيتها وتناقضها مع الحقوق الإنسانية. والعنف العربى وجنونه ردة فعل على التهميش، وهو أيضا نتاج سياسات رسمية لم تعط جل الاهتمام للمشروع الوطنى فى بناء الدولة، بل أمعنت فى تفكيك الطبقة الوسطى الصاعدة (الأمل فى بناء وطن متجانس)، وضربت مع الوقت أسس الاقتصاد المستقل فى ظل الاعتماد المبالغ فيه على الخارج، فلقد سقط النظام العربى بالتحديد منذ بداية ثورات 1102، وذلك لأسباب داخلية شعبية وسياسية إقليمية بل دولية، وسقط هذا النظام فى الجوهر، لأنه لم يعد العدة للمستقبل، ولأنه استخدم القوة وأدواتها وأهمل العقل والتنمية، واعتمد كثيرا على الغرب وليس على الشعب، وعلى البطش وليس على الرحمة. إن ما نحصده الآن لا ينفع معه العنف الذى تمارسه الأنظمة فى بعض دول المنطقة، بل ربما ينفع عنف الأنظمة والتحالفات والدول فى احتواء بعض الظواهر وتأخير بعض المخاطر، لكنه فى الوقت نفسه سيجعل الأوضاع أكثر تفجرا وردود الفعل أكثر تطرفا، ولن ينفع مع الأوضاع الجديدة تزوير التاريخ وضخ مناهج جديدة أو حتى تدمير بنية تحتية وحرق مناطق ومدن، كل هذا تم تجريبه فى التاريخ، لكنه لم ينفع فى زمن التحول. إن النظام العربى فى مأزق، ولا يمكن مقارنته بالأنظمة الديكتاتورية التى انتشرت فى الأرجنتين وشيلى وآسيا، وذلك لأن تلك الأنظمة مارست درجة عالية من التنمية ورعاية الطبقة الوسطي، وشجعت عناصر مهمة على استقلاليتها، بينما مارس النظام العربى درجة أشمل من السيطرة فى ظل الفساد وغرور القوة وضيق الأفق، مما أضر بالتنمية والفئات الضعيفة والوسطى فى المجتمع.. ولاشك ما تقوم به بعض الأنظمة فى حق الشعوب كما نشاهد فى سوريا يعكس طريقة فى التفكير هى أهم أسباب التفكك العربي، ففى العالم العربى مدارس رسمية كارهة للشعوب، وكارهة للتجديد. وفى أجواء كهذه تكتسب القبيلة والطائفة والفئة والدين والجماعة بعدا مختلفا، فى حين تفشل مؤسسات الدول فى حماية المجتمع، وحين تكون الدول محتكرة سياسيا وتنفيذيا وإداريا وماليا فى ظروف كهذه يذهب الناس إلى ولاءتهم الضيقة التى تتشكل من الدين والقبيلة والطائفة والمذهب، ويصبح هذا فى حد ذاته مدخلا لتعويض فشل الدولة ومؤسساتها. إن الحروب ستستمر، والصراعات سوف تمر على العرب، كما مرت من قبل حروب القارة الأوروبية فى الحربين العالميتين الأولى والثانية اللتين خلفتا وراءهما الدمار والموت. سنصحو ذات يوم ونكتشف المخرج، وسيكون فى حينها إنسانيا وديمقراطيا. د. عماد إسماعيل