لم يكن أحمد عبد الله رزه (1950 2006) قائدا تاريخيا فذا للحركة الطلابية فى مصر، ورئيسا للجنة الوطنية العليا للطلاب التى قادت انتفاضة الطلاب فى يناير 2791، وقائدا للاعتصام الطلابى فى قاعة الاحتفالات الرئيسية بجامعة القاهرة الذى فضته قوات الأمن المركزى مقتحمة الحرم الجامعى لأول مرة فى تاريخ مصر فحسب، وانما كان ايضا استاذا لعلم الاجتماع السياسى وحاصلا على درجة الدكتوراه من جامعة كامبريدج البريطانية العريقة عام 4891، ويقوم بإلقاء محاضراته فى عدد من اهم جامعات العالم فى امريكا وفرنسا وايطاليا والهند واليابان، دون ان تظفر أى من جامعتنا المصرية بذلك الشرف وتلك الميزة بسبب المبدأ الذى تسير عليه وهو ان «الامن فضلوه على العلم»، وبسبب قرارات المنع من العمل التى كانت محل اهتمام الرئيس انور السادات شخصيا الى درجة الغاء تعيين اى من خريجى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام 3791 بسبب ان احمد عبد الله رزه كان الاول على دفعته رغم ظروف المطاردة والسجن والاضطهاد، ويذكر محمد حسنين هيكل فى «مجلة الشباب» (عدد يونيو 9891: «كنت فى رحلة الى الصين فاتصل الرئيس السادات بزميلى وقتها الدكتور عبد الملك عوده وقال هل عينتم احمد عبد الله وكان من زعماء حركة الطلبة وقتها محررا فى الاهرام؟... وحين عدت من الصين ذهبت للسادات وقلت له الخبر غير صحيح. وجاء ممدوح سالم وكان هو الذى ابلغ السادات بذلك فنفيت له الخبر، فقال انه واثق من معلوماته وهكذا وبرغم الاهتمام الدولى الاكاديمى باحمد عبد الله رزه الذى شغل منصب نائب رئيس لجنة بحوث الشباب بالجمعية الدولية لعلم الاجتماع، والاهتمام الرئاسى المصرى بمنعه من العمل فى مصر، ليس فى الجامعة فقط وانما فى كافة المؤسسات التى احتل المراكز القيادية فى عدد منها بعض زملائه واصدقائه، بل ورفاق نضاله فى الجامعة،الا أن احمد عبد الله رزه ظل متمسكا بالعمل فى مصر، وفى حيه ومقر سكنه «عين الصيره» الذى اهدى سكانه رسالته للدكتوراه عن «دور الحركة الطلابية فى الحياة السياسية المصرية» قائلا: «الى اهالى عين الصيرة الكرام... الاميين الذين علمونى والفقراء الذين أغنوا ضميرى».، فانشأ «مركز الجيل للدراسات الشبابية والاجتماعية» لدراسة اوضاع ومشاكل الشباب، بالاضافة الى قضايا الطفولة المحرومة، والرعاية الجزئية للاطفال تحت سن العمل الذين يعملون فى مدابغ الجلود ومصانع الفخار وورش إصلاح السيارات ليتلقوا بعض العناية التعليمية والاجتماعية فى مجال محو الامية والوعى الصحى، وكان هذا المركز يقوم على العمل التطوعى والتبرعات من أفراد ومؤسسات وطنية دون ان يتلقى ايه معونات او نقود من الخارج.
وفى عام 6002 وبعد ثلاثة وثلاثين عاما من تخرجه فى الجامعة واثنين وعشرين عاما من حصوله على الدكتوراه، اعلن د. مصطفى الفقى الذى كان يشغل منصب رئيس الجامعة البريطانية وقتها، بان د. احمد عبد الله رزه كان سيعين بالجامعة البريطانية لولا ان وافته المنية!!
كان لدى احمد عبد الله مشروع يعتبره مشروعا وطنيا كبيرا الى جانب سائر مشاريعه الوطنية فى جوهرها، وكان هذا المشروع تعليم الخيال، وكان يبحث عن الوسائط التى يتم من خلالها تحقيق هذه الفكرة التى كان يرى انها تشكل ثورة لا فى نظام التعليم فى مصر فحسب، وانما على مستوى النهوض المجتمعى والسياسى ايضا... وكان يقدم فكرته بامثلة ساخرة، سأحاول ان اسردها بصورة تكاد تتطابق قدر الامكان مع حديثه كما سمعته منه، يقول احمد عبد الله رزه: »تخيل مثلا ان طفلا مصريا فى الحادية عشرة من عمره قال لوالديه فى زمن التليفزيون الابيض والاسود: (لماذا لا نلون التليفزيون؟) سيصاب الوالدان بالدهشة والوجوم وسيتصوران ابنهما قد اختل عقليا وأصابه الجنون، ولدى تسرب هذا السؤال الى الاسرة والى الجيران، سيخبط الجميع كفا بكف وهم يرددون: (الواد اتجنن وبيقول انه عايز يلون التليفزيون... يا عينى على ابوه وامه... هيعملوا ايه فى المصيبة دى؟!)، اما اذا حدثت نفس الواقعة فى اليابان مثلا، فسيرد الوالدان او آيا كان ممن سمعوا سؤال الطفل قائلين: (انها فكرة جيدة ولم لا؟... هيا بنا نحاول)، وهكذا يتم التعامل مع فكرة الطفل الخرقاء عندنا والبالغة الذكاء لديهم ويصبح التليفزيون ملونا، ونستورده نحن باعجاب وانبهار بالتقدم العلمى اليابانى.»، وهكذا كان يرى احمد عبد الله رزه ان قمع الخيال فى مصر هو قمع للمستقبل وحد من آفاقه، وان الخيال العلمى هو امر اساسى فى مستقبل العلوم و التعليم، ولقد كان هذا الحديث وقتها عام 5002 متزامنا مع ما يجرى فى العالم فى هذا المجال بالتحديد، ومع التلقى الايجابى العالمى لما طرحه الباحث كيران ايجان فى كتابه الذى حظى باهتمام واسع «مدخل خيالى للتدريس» ليبلور اتجاها كان قد بدأ منذ سبعينيات القرن الماضى حيث استخدم الخيال العلمى فى الفصول والمناهج الدراسية فى مراحل التعليم الثانوى والجامعى فى الدول المتقدمة.
ويرى إيجان أن هناك ثلاثة أنواع من الأدوات المعرفية، أولها الأدوات المعرفية الفطرية المرتبطة باستخدام اللغة الشفاهية والحكى والإيقاع والنمط والفكاهة، وثانية الأدوات المعرفية التى تضاف إليها دون أن تحل محلها، وهى الأدوات المكتسبة مثل تعلم القراءة والكتابة، وهى أدوات تعتمد على الحس الواقعى العملى وبدرجة عالية من الخبرة تربط بين المعرفة والمعنى الإنسانى البشرى، أما ثالثة هذه الأدوات، فهى أدوات معرفية تأتى بعد هاتين المرحلتين، مكتسبة بالتفكير النظرى، واستيعاب الأفكار العامة وفرزها لتبين ماهو خاطىء وماهو صحيح، وفهم ماوراء مايطلعون عليه ويعرفونه ويصل إلى مداركهم، ويقدم ايجان نماذج تطبيقية يشرح بها منهجه الخيالى فى التدريس.
ودون خيال تتحول العقول أجهزة (كمبيوتر) تحمل بالمعلومات، ويتم تصنيفها تماماً كما يبرمج أى حاسب آلى، وفى عالم اليوم يتم تطوير نماذج للتعلم باستخدام الخيال العلمى لدى الطفل كى يستوعب الأفكار العلمية وتتولد لديه ملكة الخيال والابتكار، فالخيال العلمى يطرح فكرة سيطرة البشر نظرياً على الزمان والمكان ويربط بين الأزمنة الماضية والحاضرة والمستقبلية، وتطرح قصصه ورواياته دائماً ذلك السؤال الذى تحاول أن تجيب عنه طوال الوقت «ماذا يحدث لو..؟»، ويطلق الخيال العلمى سواء كان أدباً أو أفلاماً سينمائية كل الاحتمالات والى أقصى درجاتها للاجابة عن هذا السؤال، ليس تجريبياً ومعملياً فقط، وإنما خيالياَ فى ذات الوقت، وهو ذاته الخيال الذى بدأ فى أعمال روائية أدبية، ثم تم تطبيقه بعد سنوات ليست ببعيدة، ولعل من أهم الأمثلة على ذلك هى أعمال كاتب روايات الخيال العلمى الفرنسى جول فيرن (1828 1905) فى رواياته «رحلة إلى مركز الأرض» عام 1864 و«من الأرض إلى القمر» عام 1865 و«عشرون ألف فرسخ تحت الماء» عام 1869 و«حول العالم فى ثمانين يوما» عام 1873 وغيرها، وقد حملت جميعها رؤية علمية تنبؤية ثبتت صحتها مع الزمن، بل وتحتل روايات الخيال العلمى الكلاسيكية مثل «رحلات جوليفر» للكاتب الانجليزى جوناثان سويفت عام 1726 و«فرانكشتين» للكاتبة الانجليزية مارى اشلى عام 1817 باحتمالات مبنية على فرضيات علمية محتملة الحدوث فأين نحن من ذلك ؟..
كثيراً مانتباهى فى الشرق عموماً وفى مصر على نحو خاص بأننا سادة الخيال، وغالباً مانلقن بأن كتاب «ألف ليلة وليلة» الذى ترجمه الغرب بعنوان لا يخلو من دلالة، وهو «ليالى عربية» حيث نسبه إلينا بالكامل رغم أصوله الهندية والفارسية، بأن كتاب «ألف ليلة وليلة» قدم خيالا علمياً من أعلى طراز، ويقال لنا : «أليس بساط الريح هو نبوءة بالطائرة ؟» و«أليست كرة الساحر البلورية هى صورة مكبرة للتليفزيون؟» ، ولاشك أن كتاب «ألف ليلة وليلة» هو الكتاب الأكثر خيالاً على مدى التاريخ، ولكن المشكلة تكمن فى أى نوع من الخيال يقدمه هذا الكتاب الذى أشعل خيال العالم شرقه وغربه، إنه خيال خرافى على الأغلب، يعلى من المفاهيم والمشاعر الحسية بروايات يتشاطر فيها الإنس والجن فى تصور خاص للكون، ويتحول معه الدين إلى تعويذات وتمائم سحرية لإنقاذ أبطال حكاياته، ولقد حاول بعض الدارسين أن يجدوا عناصر للخيال العلمى فى هذا الكتب الفريد، فى قصص مثل «عبد الله البرى وعبد الله البحرى» حيث يكتسب عبد الله البرى القدرة على التنفس تحت الماء ليكتشف العالم الموجود تحته، أو قصة «مدينة النحاس» التى هى رحلة بحث عن المدينة المفقودة، أو الحصان الأبنوس المسحور القادر على الطيران والذى يرى البعض انه فكرة أولية للانسان الآلى (الروبوت)، وهى جميعها تخريجات منافية لروح الكتاب بحكاياته الخيالية الخرافية، ولكى نحفظ لهذا الكتاب مكانته الكبيرة فى تراثنا، ينبغى علينا ألا نزج به فى عالم الخيال العلمى الذى تحرك قصصه بالفعل لتجاوز المسافة بين الحلم والواقع، بمعنى أن الخيال العلمى يتجه بالأحلام البشرية إلى التحقق على أرض الواقع، بينما يهرب الخيال الخرافى من مواجهة الواقع. وتنتشر الخرافة فى المجتمعات البشرية شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، فهى ميل فطرى لمعرفة المجهول متمثلة فى أشياء مثل الأبراج والتنبؤ بالمستقبل وقراءة الكف والفنجان واستخدام التمائم والتعاويذ والتشاؤم والتفاؤل بأرقام يحتل الرقم 13 مكان الصدارة بينها، وكمقابل لذلك تبدو الأهمية الملحة لنشر مناهج التفكير العلمى والتحليل المنطقى للظواهر المختلفة وتنمية التفكير النقدى والمنطقى والعلم التجريبى، وهو مايلجأ إليه العالم المتقدم وينتهجه فى التعليم، أما لدينا فإن خلط العلم بالخرافة والخيال العلمى بالخيال الخرافى الغيبى، يصنع خليطاً متنافراً ومتناقضاً ومشوشاً فى الوقت نفسه فالمعتقد الدينى ثابت وراسخ بينما العلم متغير ويخضع للتحليل النظرى النقدى وللتجريب المعملى، ومحاولات الخلط بينهما كما يفعل البعض، وإثبات أن جميع الاكتشافات العلمية الحديثة التى تحققت والتى ستتحقق فى المستقبل مذكورة فى القرآن الكريم، تخرجه عن طبيعته وتحوله إلى شىء أشبه بكتاب «التنبؤات» للصيدلى المنجم الفرنسى نوسترادا موس، الذى كتبه فى القرن السادس عشر، وكتب تنبؤاته لما سيحدث حتى نهاية العالم فى صورة رباعيات شعرية غامضة، وهى إهانة بالغة للقرآن الكريم الذى يزج فى مثل هذه الأشياء وبتفسيرات متعسفة، وللمعتقد الدينى على حد سواء.
وفى الواقع فإن الحديث الذى يدور هذه الأيام عن تجديد الخطاب الدينى الذى يفترض أن يقوم به الأزهر بمشاركة عدد من الباحثين فى شتى المجالات العلمية، ينبغى أن يسعى إلى فصل كل ماهو إيمانى غيبى عن كل ماهو علمى تجريبى، وأن يفصل بين الخيال العلمى المبنى على أسس علمية راسخة، والخيال الخرافى المشعوذ الذى ساد عبر عصور من الانحطاط الثقافى والمعرفى اعترت العالمين العربى والإسلامى.
غداً فى السادس من يونيو هذا العام، تحل الذكرى التاسعة لوفاة الدكتور أحمد عبد الله رزة الذى نعاه روجر اوين الاستاذ بجامعة هارفارد، والرئيس السابق «لمركز دراسات الشرق الأوسط» بها، والذى عمل بالتدريس لأكثر من عشرين عاماً بكلية سان انتونى باكسفورد، فى جريدة «الأهرام ويكلى» بتاريخ 15 يونيو عام 2006 تحت عنوان «نفحة من الهواء النقى» قائلاً :
«لكل هؤلاء الذين يصنعون حياة أحمد عبد الله بالفشل.. إقول أن مصر هى التى فشلت فى الاحتفاء بأحمد عبد الله وتثمين قدراته، ومصر التى احجمت عن تمكينه من إحراز ماكان يمكن أن يتحقق من نجاحات على يديه».
فهل كان الإحجام نقصاً وخللاً فى الخيال المقموع علمياً ومجتمعياً وافياً ؟!...
وأتصور لو أن أحمد عبد الله رزة كان موجوداً الآن لصرخ فى وجوهنا : «عندما لا يوجد خيال علمى لا يصبح لدينا علم، ولكن مجرد خيال للعلم»، وانظر إلى حالنا متأملاً «بل مجرد خيال مآتة للعلم».