من أسباب اضطراب القيم فى مجتمعاتنا، الخلط بين النيات والإنجاز، أو بين المعلن والخفى، هذا الخلط الذى يمكن أن يتمثل لك فى أن فيلما ما يزعم أنه يعالج قضية بالغة الحساسية، بجرأة يحسد أصحاب الفيلم أنفسهم عليها، لكنهم فى الحقيقة يستخدمون هذه القضية لصنع فيلم مثير جماهيريا، ليس من بين أهدافه التنوير والتغيير، وإنما انتزاع «الفلوس» من جيوب الجماهير. تماما كما يحدث فى السياسة، فترى عشرات الأحزاب السياسية، التى يحمل كل منها اسما براقا، لكن هذا الاسم فى الحقيقة لا يعبر أبدا عن فكر سياسى واضح، بل حتى عن موقف من الحاضر والمستقبل السياسى والاقتصادى والاجتماعى للبلاد. وللأسف أسهمت وسائل الإعلام فى الفترة الأخيرة فى نشر هذا الخلط بين الموضوع والمضمون، وفى مجال النقد السينمائى تحديدا الذى أصبح مختلطا بدوره بما يمكن أن تسميه تجاوزا «الصحافة الفنية» كثيرا ما نقرأ هذه العبارة: «هذا الفيلم يتناول كذا كذا»، وفى حالات كثيرة لا يقول لك أحد «كيف» تم هذا التناول، هذا ال«كيف» الذى سوف يحدد مضمون الفيلم الحقيقى. ولعل أكثر الأمثلة وضوحا فى هذا السياق هو فيلم يدعى «أحاسيس»، الذى يقول لك صناعه ومن خلفهم «جوقة» الدعاية الصحفية أنه يتناول المشكلات الجنسية التى يمكن أن تحدث بين الزوجين، فإذا بالفيلم يتحول إلى مجموعة من المشاهد، من كل صنف ولون، والتى تحتشد بإثارة غريزية خالصة. ولكى تكتمل المقارنة، أذكرك بفيلم آخر هو «النعامة والطاووس»، الذى يدور بدوره حول الموضوع ذاته، لكن شكله السينمائى الرزين يحقق الهدف من المضمون. والحقيقة أن هذا الخلط له جذوره فى حياتنا، حين توارثنا أحكاما قاطعة مانعة، تقول لك أن فيلما ما يعتبر من أهم أفلام السينما المصرية، لمجرد أن موضوعه يتسم بالجرأة، لكن أحدا من النقاد ومنا نحن المتفرجين لا يجرؤ على القول بأنه عمل ضعيف، لم يحقق بسبب شكله السينمائى المترهل شيئا من مضمونه، أو بمعنى أدق لم ينجح فى أن يوصل هذا المضمون للمتفرج. فنحن جميعا نكاد نتفق على أن فيلم «السوق السوداء» يمثل علامة مهمة فى تاريخ السينما المصرية، وربما كان ذلك صحيحا من ناحية الموضوع، الذى يفترض أنه يتناول تجار السوق السوداء خلال الحرب العالمية الثانية. لكننا فى أغلب الأحيان سرنا جميعا فى موكب الإشادة به، دون أن نتساءل: لماذا لم يحقق الفيلم، فى أوان عرضه فى عام 1945، حتى الآن بعد حوالى سبعين عاما، تواصلا مع الجمهور، بينما كان السبب ببساطة بالغة هو أنه عمل سينمائى مفكك، لأسباب عديدة من أهمها أن الشخصيات جميعا تتحدث بما يريد صانع الفيلم أن تنطق به، وليس من خلال بناء شخصيات حية تتمتع بدرجة من التلقائية، وهو ما انعكس أيضا على أداء الممثلين، الذى بدا شديد المبالغة، سواء الشخصيات الطيبة منهم أو الشريرة، فلم يصدقها المتفرج أو يشعر أن لها وجودا حقيقيا. ولايزال هذا الخلط بين الموضوع والمضمون ممتدا فى حياتنا، السينمائية والسياسية، بما يمكنك أن تراه بوضوح فى الفرق الهائل بين التصريحات والواقع، أو بين الإعلان عن معدلات النمو ومعاناة الناس اليومية، أو بين ما يقال عن «حوار مجتمعى» ذلك المصطلح الذى صكه كهنة مبارك وصمم آذان المسئولين عن الاستماع للآراء المختلفة. وهذا بالضبط هو حال السينما أيضا، وهذا أيضا هو ما جعلها تنقسم بشكل زائف بين سينما جماهيرية بالغة الابتذال، وسينما «مثقفين» (وأرجو أن تتجاوز عن عدم دقة المصطلح) تقول إنها بالغة الجدية، بينما الحقيقة أنهما ليسا متوازيين، بل إنهما يلتقيان معا عند نقطة «استغلال» الموضوعات لتحقيق مضامين لا ترقى أبدا لمستوى النضج الفنى، ولا تحقق المضمون الذى تسعى إليه. تأمل مثلا فيلم «مذكرات مراهقة»، فصاحبته تقول إنها تتناول التوترات التى تواجه الفتاة المراهقة فى مجتمعنا، وهذا موضوع جدير بالتناول، لكنه يتحول فى الفيلم إلى سلسلة من «التخيلات» الجامحة، التى لا تصور أزمة البطلة بقدر ما تقدم للمتفرجين «فرجة» تجعل الفيلم يقع فى اضطراب أسلوبى بالغ السذاجة. ولعلك تذكر مثلا مشهدا يتلصص فيه الشاب الشرير على الفتاة وصديقها، ويصورهما من نقطة يختبئ فيها، فإذا بالمخرجة تعرض عليك ما قام هذا الشاب بتصويره، فإذا هو لقطات من زوايا مختلفة، وليس من زاوية واحدة كما يفترض السياق، لكن الهدف الحقيقى هنا هو استغلال اللحظة لتقديم «مناظر» للمتفرج!! وبنفس المعيار، وإن اختلفت الدرجة، يحكى لك فيلم «احكى يا شهرزاد» عن القمع الذى تعيشه المرأة فى سياق مجتمع يعيش ازدواجية عميقة فى القيم، لكنه بدلا من أن يعالج هذه الازدواجية فإنه يقوم باستغلالها، سواء لتقديم أسلوب سينمائى غريب تماما عن السياق فى بعض المشاهد، مثل اللقطة الافتتاحية التى تسير فيها الكاميرا مستعرضة حائط شقة البطلة، مع موسيقى غرائبية، فلا تدرى من أى وجهة نظر جاءت هذه اللقطة، أو فى انحيازه الطبقى غير المعلن، فالأغنياء وحدهم هم الأصدق فى البحث عن الحرية، بينما الفقراء متواطئون فى قبول العبودية. إن كانت هناك ازدواجية حقيقية فى مجتمعنا، فهى أننا بدرجات ولأهداف مختلفة نمارس الخلط أحيانا، فنقول مثلا إننا نسعى إلى ازدهار اقتصادى لكننا لا نحدد لمصلحة من سوف يكون هذا الازدهار، ونقول إننا نعالج فى أفلامنا موضوعات مهمة، لكن المعالجة تنتهى إلى التجارة بهذه الموضوعات. وإلى أن تنتهى هذه الازدواجية، سوف نمضى فى طريق مسدودة، تعود بنا دائما إلى نقطة الصفر من جديد. لمزيد من مقالات أحمد يوسف