فى فن السينما، هناك نظريتان كبيرتان تفرعت عنهما نظريات صغرى عديدة، وكانت النظرية الأولى والأسبق فى الوجود هى نظرية «الإطار»، التى تقول إن كادر الشاشة يشبه إطار لوحة، يختار من الواقع أشياء ويحذف أخرى، وجماله فى براعة التكوين، لذلك جاءت هذه النظرية تتحدث دائما عن الشكل دون المضمون. أما النظرية الأخرى فهى تنص على أن «السينما نافذة كبيرة على الواقع»، تتيح لنا أن نرى العالم على نحو أوضح شكلا ومضمونا، وكان التأثير الحقيقى لهذه النظرية هى أنها أسست اتجاهات فنية، لمدارس سينمائية واقعية. لكن يبدو أن السينما المصرية لا تؤمن بمثل هاتين النظريتين، الشكلانية أو الواقعية، لتقدم نظرية خاصة بها، يمكنك أن تسميها «سينما التلصص من ثقب الباب». والمتلصص من وجهة النظر الطبية – والفنية أيضا – هو من لا «يستمتع» إلا باستراق النظر إلى لحظات شديدة الخصوصية والحميمية، على أناس لا يدرون أن هناك من يراقبهم. ويمكنك أيضا أن تسميها «سينما الفُرجة»، لولا أن هذا المصطلح الأخير لا يحمل من السمات المريضة، أو الخلط الأسلوبى الذى يدل على سذاجة فنية بدائية، ما يحمله مصطلح «سينما التلصص». وكثيرا ما أشار كاتب هذه السطور إلى أن هناك شرخا فنيا عميقا فى سينما التلصص، وهو الأمر الذى يؤدى دائما إلى نظر العالم إلى معظم أفلامنا على أنها لا تعرف معنى «الأسلوب» أو مفهوم «السرد»، فصانع فيلم التلصص يضحى بكل شىء من أجل تحقيق هدف واحد، أن يتيح للمتفرج أن يرى لحظات محرمة مختلسة، ليس لها منطق فنى من أى نوع، ولعل من أهم الأمثلة على ذلك مشاهد بعينها من فيلم المخرج خالد يوسف «دكان شحاتة»، فهو يريد من بطلته هيفاء وهبى أن تقدم «نمرة» من الرقص، فيجعل شقيقها (نعم، شقيقها) يأمرها بذلك وهو غارق فى أوهام الدخان الأزرق، وحتى إذا افترضنا جدلا إمكانية حدوث ذلك دراميا، فقل لى بالله عليك من أى وجهة نظر جاءت لقطات الكاميرا التى تقترب من جسد البطلة – المستمتعة تماما بدلا من أن تكون حزينة – وكأنه أحد أفلام حسن الإمام عن عالم العوالم؟\ لم يسأل المخرج نفسه هذا السؤال: مِن وجهة نظر مَنْ كانت تلك اللقطات المختلسة، فالحقيقة أنه لا يضع اعتبارا لمقتضيات السرد التى تجعله يحدد من أى وجهة نظر يحكى لنا قصة الفيلم، فهل هى رؤية إحدى الشخصيات، أم هى رؤيته، أم أنها «بيع» لرؤية متفرج مفترض، أتى إلى السينما لكى يتلصص على جسد الممثلة؟ وإذا كان فيلم «حلاوة روح» قد أثار لغطا كثيرا، زاده تدخل سلطات لا علاقة لها بمنعه أو عرضه، فإن أحدا لم يتوقف أمام الضعف الفنى الشديد للفيلم، الذى يجعلك تنسبه – دون تردد – إلى عالم «صندوق الدنيا» وليس إلى السينما!! توقف الجميع أمام «موضوع» الفيلم، الذى قالوا أنه حول علاقة جنسية بين صبى وامرأة جميلة وحيدة، لكن صناع الفيلم – منتجا وفنانين – تصوروا أنهم قد ألقموك حجرا، عندما قالوا – ومعهم الحق - إنه لا يوجد مشهد جنسى واحد يضم الصبى والمرأة. لكن الأهم هو كيف كانت المعالجة الأسلوبية لهذا الموضوع، الذى طرقته السينما العربية من قبل فى فيلم مثل «أحلام مدينة» للسورى محمد ملص، أو «عصفور السطح» للتونسى فريد بوغدير، لكنها كانت أفلاما عن اكتشاف صبى للعالم من حوله، بما فى ذلك الجنس، لذلك فإنها اختارت أن تروى الحكاية من وجهة نظر هذا الصبى وحده، ولذلك أيضا لم تخرج من مشهد عارٍ لتدخل مشهدا عاريا آخر، دون منطق فنى من أى نوع. ففى «حلاوة روح»، وبعد أن نصدق أن الحكاية تدور حول وعى الصبى بالعلاقات الجنسية حوله، من خلال مشهد الحلم برؤية تفاصيل جسد المرأة الجميلة (هيفاء وهبى مرة أخرى)، وبعد أن يمنح نفسه عددا آخر من المشاهد المتتالية، تدور جميعا حول التلصص على رجال ونساء فى لحظات حميمة، شريفة وغير شريفة، بعد ذلك كله يمنح الفيلم للبطلة حلما (فى قفزة بدائية لوجهة نظر السرد)، ولك أن تتخيل أن هذا الحلم امتد لست دقائق كاملة، ليست إلا رقصة بالغة الإثارة لهيفاء وهبى، مع غناء للمطرب الشعبى حكيم!! القضية هنا ليست «حرية الإبداع» المزعومة التى يحاولون التستر خلفها لصنع أفلام التلصص تلك، التى ليس لها من هدف إلا انتزاع «الفلوس» من جيوب المتفرجين، وإنما القضية هى إذا ما كانوا يصنعون فنا، له منطقه الأسلوبى المتماسك. كما أن القضية أيضا هى أن سينما التلصص تحول المتفرج إلى شخص مريض، بالمعنى الحرفى للكلمة، لا يعرف كيف يتفاعل مع العالم ويكتفى بالفرجة عليه. فمنذ فيلم «عفاريت الأسفلت» الذى احتفى به معظم النقاد والمثقفين كثيرا، وكأنهم يتعاملون مع قصيدة كتبها «بودلير» أو «رامبو» (!!)، تحول الفقراء على الشاشة المصرية إلى مسوخ، لا فرق بين «كلمنى شكرا» لخالد يوسف، أو «حلاوة روح» لسامح عبد العزيز، أو حتى مسلسل «سجن النسا» أو «السبع وصايا». إنهم مسوخ لا تدرى من أين ومتى يكسبون رزقهم، ولا يعرفون فى الحياة إلا الهلاوس الجنسية، ورجال أشرار وقوادون، ونساء عاهرات أو قبيحات، والجميع يتبادل حوارا أقرب إلى وصلة متصلة لا تنتهى من السباب. لذلك لا تحثك سينما التلصص على أن تطلب لهؤلاء ما يستحقونه من حياة، لكنك بشكل غير واعٍ سوف تقول لنفسك: لكى يصبح هذا العالم أجمل، فليذهب هؤلاء الفقراء الغلابة إلى الجحيم!! لمزيد من مقالات أحمد يوسف