هيفاء وسما المصرى ضحية المزايدات بين الحكومة والإخوان لا يمكن أن نلوم «حلاوة روح» أو نتهمه بأنه يحرض على الرذيلة، لأن المجتمع ينام ويصحو ويتنفس فى مستنقع من الرذائل من الفقر والعنف والمرض والانحلال الأخلاقى – بكل أشكاله وليس الجنسى فقط
فى أسبوع واحد انهمرت الأخبار فوق رءوسنا مثل المطر: مدرب كاراتيه فى المحلة يضاجع ويقوم بتصوير عشرات من عضوات نادى شهير. امرأة فى بورسعيد تقوم بتقديم ابنتها ذات الأربع سنوات إلى عشيقها ليغتصبها. أم فى نادى وادى دجلة تكتشف أن ابنتها ذات الخمس سنوات تعرضت لمحاولة تحرش من أحد العاملين بالنادى.
كل يوم تطالعنا الصحف بأخبار التحرش والاغتصاب والقتل والسرقة بالإكراه وشبكات الدعارة وتجارة المخدرات، والمعارك الفردية والجماعية التى يسقط ضحاياها بالعشرات، والتقاتل على رغيف خبز أو أنبوبة غاز.. وكل ذلك قطرات من سيل نغرق فيه وما خفى كان أعظم.
أخبار يومية تبدو معها مصر كأنها تحولت إلى منطقة كوارث أخلاقية وإنسانية، ولكنها كوارث لا نسمع عن رد فعل تجاهها من قبل الحكومة أو رئيس الوزراء ولا يهتز لها رمش مسئول فى الدولة.
1 - المزايدة على الأخلاق
كل ما نسمع عنه من الدولة هو قرار رئيس الوزراء بمنع فيلم حاصل على تصريح الرقابة ومداهمة قناة خاصة واعتقال صاحبتها بتهمة عدم وجود ترخيص وعرض فيديوهات غير أخلاقية بتهمة أنها عابت فى واحد منها فى الذات العليا لمحام اعتاد على القذف والسب والتفوه بكل أنواع الشتائم القبيحة على شاشات التليفزيون.. دون أن يجرؤ وكيل نيابة على التحقيق معه وحبسه بالتهم نفسها التى وجهت لصاحبة القناة.
وكل ما نراه هو المزايدة الأخلاقية بين «الإخوانجية» ودلاديلهم وبين الحكومة ودلاديلها، ما بين الشائعات الإخوانجية من نوعية الإعلان عن افتتاح أول نادى «استربتيز» فى مصر فى عهد السيسى إلى محاولات الحكومة والأجهزة للظهور بمظهر حماة الأخلاق والشرف من نوعية منع فيلم أو إغلاق قناة أو القبض على فنان أو فنانة بتهمة تعاطى المخدرات.
المخرج السينمائى الإخوانجى عز الدين دويدار صرح لوكالة «الأناضول» التركية الإخوانجية بأن: «السلطة القائمة تحاول بهذا المنع تدعيم حملات دعائية رسمية تظهر المسئولين بأنهم متدينون وأن الدولة تحافظ على القيم والأخلاق».
الإخوانجى فهم الرسالة سريعا لأن الإخوان والسلطة المصرية يتحدثان نفس اللغة ويفكران بنفس المنطق ويستخدمان نفس الأساليب من توظيف «الأخلاق» لمداراة العجز والفساد السياسى.
هذا النوع من «التنافس الأخلاقى» بين الدولة وخصومها ليس جديدا علينا، ولطالما شهدناه مرارا وتكرارا فى عهد مبارك وفى نهاية عصر السادات ومنذ أن جعل الإسلاميون من الحياة الجنسية محورا للمزايدة الأخلاقية على الدولة والمجتمع والأفراد.
وهذا النوع من «الفرقعات الإعلامية» لطالما استخدمته الأجهزة لإلهاء الناس وشغل وقتهم وعقولهم فى قضايا تافهة حتى تصرفهم عن التفكير فى الكوارث الحقيقية التى يعانون منها.. وهى نفس السياسة التى تنتهجها إلى اليوم.
وفى كل هذه المعارك الوهمية لا يوجد سوى ضحية واحدة يتحالف الجميع ضدها فى كل مرة وهى حرية التعبير، وفى كل مرة لا يوجد سوى مشتبه واحد هو الفن الذى أصبح «الحيطة المايلة» التى يلقى عليها المجتمع بكل فضلاته وقمامته!
2 - سينما الوجه القبيح!
فى رواية الأديب الإنجليزى أوسكار وايلد الشهيرة «صورة دوريان جراى» يفاجأ بطل الرواية بأن صورته المرسومة على لوحة زيتية– بورتريه- تتغير تدريجيا حتى تتحول ملامحه الجميلة إلى وجه شديد القبح يعبر عن التشوه النفسى والروحى الذى أصابه من الداخل.
الفن، الهابط منه قبل الجيد، هو بورتريه دوريان جراى الذى ترتسم فوقه ملامح المجتمع الحقيقية المستورة والمدفونة تحت مساحيق التجميل الإعلامية.
دوريان، بدلا من أن يعالج نفسه حتى تتحسن صورته، قرر أن يخفى اللوحة تحت ستارة سميكة قبل أن يقوم بتمزيقها وإطلاق النار عليها، لكن فى اللحظة التى تتمزق فيها اللوحة تتحول ملامح دوريان نفسه إلى القبح قبل أن يموت ويتلاشى مثل اللوحة.
المجتمع الذى لا يصغى لصوت الفنانين والمفكرين والمثقفين ويحاول إخراس أصواتهم سوف يموت هو أيضا فى اللحظة نفسها التى سيقضى فيها على آخر صوت حر يحاول أن يقول الحقيقة.
يقال إن الفن مرآة للمجتمع، وهى مقولة باطلة إلا إذا أصررنا مثل دوريان جراى على أن لوحته لا بد أن تكون انعكاسا لملامحه الخارجية. الفن، مثل أحلامنا الليلية، هو مرآة لباطن المجتمع يمكننا من خلال تحليلها ودراستها أن نتعرف على مخاوفنا ورغباتنا المكبوتة، وكل ما نريد إخفاءه عن الآخرين وأنفسنا.
أوسكار وايلد الذى تعرض للاضطهاد والسجن لنفس المزايدات الأخلاقية التى كانت تسود المجتمع الإنجليزى آنذاك كان يعى أن دوريان جراى ما هو إلا مجاز ورمز للمجتمع نفسه الذى لا يرغب فى رؤية حقيقته الداخلية كما يعرضها الفنانون، وهو رمز نجده أيضا فى الفيلم الإيطالى «مالينا» الذى أخرجه جوسيبى تورناتورى ولعبت بطولته النجمة مونيكا بيلوتشى، وهو الفيلم الذى سرق منه بالنص والمشهد واللقطة فيلم «حلاوة روح» إخراج سامح عبد العزيز وبطولة هيفاء وهبى.
دعك من المقارنة بين الفيلمين، ولكن حتى لا يفهم من كلامنا أننا نتبنى «حلاوة روح» أو نعتبره عملا فنيا من الأصل.. فلنؤكد فى البداية أن «حلاوة روح» ليس سوى مسخ فنى يليق بالمسخ الاجتماعى الذى نعيشه فى مصر الآن.
الفكرة فى «مالينا» هى وصول أرملة جميلة متحضرة ومتمدنة إلى مجتمع ريفى محافظ ومغلق ومكبوت، أما الفكرة فى «حلاوة روح» فهى وصول امرأة مغناج متصابية إلى حى شعبى يسكنه مجموعة من السفلة والمتحرشين.
فى «مالينا» ترتدى مونيكا بيلوتشى ملابس أوروبية عادية من فترة منتصف القرن العشرين، وما يظهر من جسدها عاريا فى بعض المشاهد لا مبالغة فيه ولا تعمد للتعرى، على العكس مما تفعله هيفاء وهبى التى تتعمد إبراز تضاريسها العارية طوال الفيلم بشكل يجعل من اغتصابها و«تجريسها» أمرا متوقعا بل ومستحبا من قبل رجال وجمهور اعتادوا على التحرش وأدمنوه.
مع ذلك، ففى الحالتين يعبر كل من «مالينا» و«حلاوة روح» عن المجتمعين الإيطالى فى منتصف القرن العشرين والمصرى فى الربع الأول من القرن الواحد والعشرين.
لا يمكن أن نلوم «حلاوة روح» أو نتهمه بأنه يحرض على الرذيلة، لأن المجتمع ينام ويصحو ويتنفس فى مستنقع من الرذائل من الفقر والعنف والمرض والانحلال الأخلاقى – بكل أشكاله وليس الجنسى فقط.
صحيح أن الناس فى «بولاق الدكرور» لا يرتدون هذه الملابس الغريبة التى ترتديها هيفاء وهبى فى فيلم «حلاوة روح»، ولكن عرى انتفاخاتها يعكس مفهوم هؤلاء الرجال عن الأنثى المثيرة، كما أن الملابس المتأنقة والسلوك الفج الذى يمارسه الرجال فى الفيلم يعكس حقيقة هؤلاء الرجال الذين لا يشغل بالهم شاغل سوى أجساد النساء ومحاولات الثراء بأى وسيلة.
3 - من كان منكم بلا شتيمة!
دعنا نطبق ما سبق على قناة «الفلول» لصاحبتها سما المصرى. لست من الفلول بالطبع وأكره مبارك وكل من يدافع عنه، ولكن سما المصرى، مثلها مثل كل الوجوه والمؤخرات الإعلامية الفلولية التى تتقيأ من الفضائيات فوق رءوسنا نهارا وليلا، تعكس نفس فجاجة لغتهم وفحش لسانهم وضحالة تفكيرهم.
أتمنى أكثر من غيرى أن تفشل قناة «الفلول» حتى تغلق من تلقاء نفسها، لكننى أتمنى أكثر أن يفشل كل الفلوليين المنافقين الآكلين على كل الموائد. وأرى أن سما المصرى على الأقل كانت أشجع و«أرجل» من كثيرين باعوا مبارك بمجرد تنحيه وارتموا فى حجر المجلس العسكرى ثم الإخوان والسلفيين ثم السلطة الحالية بنفس القدر من البهلوانية والوقاحة.
أتعجب أيضا من الفجاجة التى تم بها ترويج خبرى منع فيلم «حلاوة روح» والقبض على سما المصرى. فى الحالتين هناك امرأة مثيرة تم تقديمها كأضحية للتكفير عن ذنوب الرجال وادعاء الأخلاق. «تكتيك» مصرى وشرقى أصيل من أيام السفلة الذين انهالوا على مريم المجدلية بالحجارة أيام المسيح عليه السلام، ما دفعه إلى قول عبارته الشهيرة «من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر». أتعجب من الأفواه الكبيرة الغليظة والأصوات الصارخة القبيحة التى راحت تلقى الحجارة على هيفاء وهبى وسما المصرى، فى محاولة لإخفاء باطنهم الانتهازى المنافق ولا أخلاقيتهم المثيرة للغثيان.
أتعجب من المبالغة المكشوفة فى قيام رئيس الوزراء شخصيا بمنع فيلم، مع أن القرار كان يمكن أن يتخذه موظف صغير يشغل منصب مدير الرقابة.
أتعجب من استدعاء الأجهزة الأمنية للمواقع الإخبارية التابعة لها لتصوير لحظة القبض على سما المصرى و«تجريسها» وتعمد حبسها وتوجيه السجينات لضربها وإذلالها، ما يؤكد أن الموضوع لا علاقة له بعدم وجود ترخيص للقناة أو بالحفاظ على الأخلاق، بقدر ما هو تصفية حسابات ومحاولة لاستعراض الرجولة والسلطة على حساب جسد امرأة.
الدولة فى الحالتين مارست نوعا من الاغتصاب والتحرش يليقان ببلد يأتى على رأس قائمة أكثر بلاد العالم تحرشا واغتصابا للنساء!
الدولة التى تأتى على رأس بلاد العالم انتهاكا لأجساد النساء وحقوق الأطفال تزعم، وفقا لقرار رئيس الوزراء، بأنها منعت الفيلم لاحتوائه على مشاهد «تتنافى مع أخلاقيات المجتمع وعاداته وتقاليده، وبنود الدستور وقانون الطفل»!
هل يمكن أن ينتهك فيلم مصنف للكبار فوق 18 سنة حقوق الأطفال؟ يرددون دون فهم أن بطل الفيلم الصبى قام باغتصاب هيفاء وهبى فعلا وتفرج على جسدها العارى فعلا.. وهو كلام ينم عن جهل مطبق بصناعة الأفلام، فالطفل يمكنه أن يؤدى دوره كاملا دون أن يرى هيفاء وهبى بعينيه. والأفلام التى تتحدث مثلا عن سفاح يغتصب الأطفال لا تأتى بأطفال يتم اغتصابهم فعلا، ولا تسمح الرقابة فى الدول الكبرى للأطفال بمشاهدة فيلم ما لمجرد أن بطله طفل، وقد حدث أن قام الطفلان ماكولاى كالكين وايليجيا وود بتمثيل فيلم بعنوان «الولد الطيب» منذ حوالى خمسة عشر عاما، ومنع كلاهما من مشاهدة الفيلم لأنه صنف رقابيا فوق 15 عاما. أما موضوع انتهاك طفولة الصبى كريم الأبنودى أثناء العمل فى الفيلم فهذه ليست مسئولية الرقابة ولا رئيس الوزراء بل مكتب العمل وجمعيات حقوق الطفل.
السؤال الذى يجب توجيهه هنا: لماذا انزعج رئيس الوزراء من الفيلم خوفا على كريم الأبنودى ولم ينزعج من مشاهد أطفال الشوارع وعمالة الأطفال واغتصابهم وانتهاك آدميتهم فى مصر كلها؟ لماذا رأى النائب العام أن قناة سما المصرى «غير أخلاقية» ولم ير انعدام الأخلاق فى السب العلنى والكذب العلنى وانتهاك الحياة الشخصية العلنى فى القنوات الأخرى؟ الذين يهللون لمنع «حلاوة روح» واغلاق قناة «الفلول» لا يدركون أنها مجرد خطوة اختبارية إذا لم ننتبه ونتخذ موقفا يليق بمصر التى نريدها، فسوف يعقبها خطوات كثيرة قادمة على طريقة دوريان جراى الذى أراد التخلص من صورته القبيحة فقتل نفسه.