ماذا تَقُول فيمن يري أن علاج العين الرَّمْداء لا يكون إلا بالخلاص منها، واقتلاعها من مَحْجَرِها، وماذا تَقُول في رجل آخر: يقاوم الموقف المرفوض بموقف مرفوض مِثْلِه؛ يساويه في الرفض أو يُدَانِيه؛ فلا ينجم عن ذلك إلا اختلاط المفاهيم، وغَبَش الرؤية، وضياع الحقيقة؟ ماذا تقول فيمن يري أن مجابهة «الداعشية» وأخواتها ومثيلاتها من الثمارالمُرَّة للعنف والإرهاب التي انحرفت بالإسلام عن مبادئه ومقاصده: لا تكون إلا بأن تَحِلَّ محلها عَلْمانية فجَّة تبتعد بِسَدَنَتِها بعضًا أو كلاً عن ثوابت الدين الكلية، تحت سراب التنوير تارة، والحداثة وما بعد الحداثة تارة أخرى؛ سواءً بالتشكيك في تلك الثوابت القواطع، أو تلوينها وتشكيلها بما شاءت لهم الأهواء والنَّزَاعَات؟ ثُمّ ماذا تَقُول فيمن يُعلنُ صراحة أننا حين نقاوم «الداعشية» ومثيلاتها فإننا نكون بِحَاجَةٍ إلى أن ننأى بأنفسنا كما يضيف «عن اعتبار الوحي سلطة لابد من الخضوع لها» لأن تنزيل هذا النموذج الجاهز المنبثق من الوحي على واقعنا الراهن كما يُردف: لا فُض فوه هو الرَّافد المغذِّي لكل ضروب الإكراه والعنف في مجتمعاتنا؟ ماذا تَقُول أيضًا فيمن يري في ضوء دعوى «اللَّاتارِيخانيَّة» أن رفض»الداعشية»لا يكتمل إلا حين يذوب «ثبات النصوص» التي تَعبَّدنا بها الله وتعالى ورسوله فتُمْسِي مفاهيمها رَجْرَاجة زِئْبقيَّة، متغيرة بتغير مفاهيم العصور التاريخية المتسارعة المتقلبة دون ثبات ولا كينونة، ولا ذاتية ولا هَوِيَّة؛ بما يؤدي إلى أن تُصبح تلك النصوص محكومة بالواقع، لا حاكمة عليه، ولا مرشدة له، أو هادية لمسيرته، فتصبح رهنًا لكل زمان بِحَسْبِه، وتنصاع تبعًا لأهواء الفرقاء المختلفين، بل المتناقضين؛ وتَحِلُ محلها النسبيات والشكِّيات، عودًا القهقري بالتاريخ الإنساني إلى حيث لا حقائق ولا يقينيات؛ دون الأخذ في الاعتبار أن هذه النسبية الارتيابية قد أدت بالحضارة الغربية في عصورنا الراهنة إلى ما أدت إليه من تَغَوُّل على مصائر الشعوب المقهورة، وقيم الانسانية الرفيعة، وما آلت إليه من تقنين للظلم، وتمكين للعَسْفِ والجور، وعودٍ بالبشرية إلى ما يشبه البدائية الأولى؛ المُغلَّفة بأدوات الحداثة وتقنياتها الخادعة التي تذهب بالأبصار!! ولو أننا أمعنا النظر في درس التاريخ فيما يتعلق بعلاقة «الداعشية» ومثيلاتها في جذورها وتجلياتها من جهة «بالعلمانية»المُخْتَلِفَة الألوان والشِّيَات من جهة أخرى لوجدنا أنه ما مَهَّد السبيل إلى اشتِداد عَضُد السلفية الجامدة من جهة ونشوء زوابع الإسلام السياسي من جهة ثانية وانتشار مقومات الإرهاب من جهة ثالثة إلا عواصف «العلمانية» العاتية التي أَجَّجَتْ هذه الروافد البئيسة، ومهدت الطريق إلى بروزها وظهورها، بل إلى وَحْشِيَتها وضراوتها، ذلك أنه بقدر ضَراوة النقيض تكون ضَراوة نقيضه؛ ألم يقل ابن حزم الأندلسي في «طوق الحمامة» (إن الأضداد أنداد) أَوَلَمْ يقل أحد فلاسفتنا المعاصرين (إن الأطراف في تَمَاسِّ)؟ أفلا يمكن أن يعيد التاريخ نفسه، فإذا بهذه الاتجاهات التي ترتدي أثواب «العلمانية»المتعددة، وتجلياتها الصادمة الصارخة، وقد استعادت في عصرنا الراهن دورها القديم، فأضرمت مزيدًا من تأجيج بواعث الإرهاب وتجلياته وظواهره، بل الإعجاب به والإغراء بالانضواء تحت مَظَلّتِه كما فَعَلَت من قبل «فالضد يُظهر حُسْنَه الضدُّ» كما يقول شاعرنا القديم، وما «الديالكتيك»الهيجلي عنا ببعيد!! ثُمّ أقول .. إن مجابهة «الداعشية» ومثيلاتها «بالعلمانية» وتياراتها المختلفة الألوان والأزياء: لن تزيد اللهيب إلا ضرامًا، والنار إلا اتِّقادًا؛ أما المجابهة الصحيحة الناجعة فلن تكون إلا من خلال المسلَّمات الإيمانية العَقَدية الثابتة، وبيان وجه الحق فيها والاحتكام إليها؛ لكن حين تكون المجابهة بين «الداعشية» وأخواتها من طرف، و«العلمانية» ومثيلاتها من الطرف الآخر، فلن يَتَمخّضَ ذلك في التحليل الأخير إلا عن مزيدٍ من الدعوة إلى تلك «الداعشية» وشبيهاتها، والترغيب فيها والإغراء بها، والتعاطف معها؛ وفي ذلك البلاء المبين؟!! فيا ليت قومي يعلمون!! لمزيد من مقالات د.محمد عبدالفضيل القوصى