عام 1909 هو نقيض عام 1907. فإذا كان عام 1907 ضد الدوجماطيقية، أى ضد توهم امتلاك الحقيقة المطلقة بفضل فكرتين محوريتين روَّج لهما كل من برجسون فى أوروبا ووليم جيمس فى أمريكا. وهما رفض الحتمية والدعوة إلى دين مفتوح خالٍ من الدوجما، أى خالٍ من معتقد مطلق فإن عام 1909 هو عام تأسيس الأصولية الدينية والسؤال إذن: ما معنى الأصولية الدينية؟ لفظ الأصولية مشتق من «أصول» فى اللغة العربية، ومشتق من «Fundamentals» فى اللغة الإنجليزية. وأغلب الظن أن التى مهدت لصك المصطلح الإنجليزى سلسلة كتيبات صدرت بين عامى 1909- 1915 تحت عنوان «الأصول» بلغ توزيعها بالمجان ثلاثة ملايين أرسلت إلى القساوسة والمبشرين واللاهوتيين. والأفكار المحورية فى هذه الكتيبات يمكن إيجازها فى ثلاث أفكار: الجهاد من أجل الدفاع عن الأصول. رفض النظريات العلمية التى تتناقض مع الإيمان بالوحى الإلهى. رفض آراء الليبراليين اللاهوتيين الذين خانوا ذلك الايمان وفسروا آيات الانجيل فى ضوء نظرية التطور فنقدوا قصة الخلق فى سفر التكوين حيث القول بأن الله خلق العالم فى ستة أيام واستراح فى اليوم السابع. وفى رأى هؤلاء أن هذه القصة زائفة لأنها على الضد مما تقوله الداروينية من أن خلق العالم استغرق ملايين السنين. وبناء عليه فان سلطان الله يجب أن يسود العالم ويسود الإنسان لأنه من غير هذا السلطان فإن الإيمان ممتنع وما يترتب على هذا السلطان من استسلام هو ممتنع كذلك. وأغلب الظن أن الذى دفع الأصوليين إلى اصدار هذه الكتيبات مردود إلى عاملين: عامل موضوعى وعامل ذاتى. العامل الموضوعى متمثل فى بزوغ «الحداثة» المتمركزة فى العقلانية والتنوير والثورة الصناعية، وفى نشأة علم الاجتماع الذى كان سائرا فى اتجاه إشاعة العلمانية، وفى بزوغ الليبرالية التى دعت إلى أن سلطان الفرد فوق سلطان المجتمع، وبالتالى فوق كل ما يفرزه المجتمع من سلطات وفى مقدمتها السلطة الدينية. أما العامل الذاتى فمردود إلى محاضرة ألقاها تشارلس اليوت الذى كان رئيسا لجامعة هارفارد فى عام 1869، وكان عنوانها «مستقبل الدين». وقد أحدثت هذه المحاضرة هلعاً فى صفوف الأصوليين. وسبب هذا الهلع مردود إلى مسألتين: المسألة الأولى خاصة بمفهوم الدين، والمسألة الثانية خاصة بمفهوم رجل الدين. عن المسألة الأولى ارتأى اليوت أن الدين الجديد لن تكون فيه إلا وصية واحدة «محبة الله من أجل الآخر». وهى وصية لا تستلزم دوراً للعبادة ولا علم لاهوت ولا طقوسا للعبادة، ومن ثم فليس من حق المسيحيين الادعاء بملكية الحقيقة المطلقة. أما عن المسألة الثانية فقد ارتأى اليوت أن ثمة فارقا جوهريا سيقوم بين رجل الدين بالأمس ورجل الدين فى المستقبل. مثال ذلك: عندما كان يصاب انسان الأمس بجرح فى جسمه كان يذهب إلى الكنيسة ويصلى من أجل شفاء جسمه، أما انسان اليوم فانه يذهب إلى الجراح، وبالتالى فقد ارتأى اليوت أن هذا الجراح هو من قساوسة دين المستقبل. وبسبب هذا الهلع الذى عانى منه الأصوليون من قبل أنصار الحداثة والليبرالية تأسست جمعية لتدعيم التفسير الحرفى لآيات الانجيل فى أغسطس عام 1917. وفى عام 1919 انعقد مؤتمر جماهيرى فى فلادلفيا بأمريكا حضره ستة آلاف مسيحى من الطوائف البروتستانتية. وإثر هذا المؤتمر تأسست «الجمعية العالمية للأصول المسيحية». ولم يكن الليبراليون فى ذلك الزمان على استعداد لمواجهة هذه المذبحة، فماذا حدث؟ جواب هذا السؤال فى المقالات القادمة. المزيد من مقالات مراد وهبة