فى مثل هذه الأيام منذ عشر سنوات , وبالتحديد فى 24/5/2005 شاركت فى الاحتفال بستينية هذا الكاتب العبقرى فى (ورشة الزيتون) التى كانت وما زالت منبرا للثقافة والإبداع الأصيل, ومع دخول الغيطانى فى السبعين جاءتنى درّته الأخيرة : (حكايات هائمة), وما إن بدأت القراءة حتى تداعت إلى الذاكرة واقعة سبق أن رويتها عند الاحتفال بإبداع الغيطانى فى المركز الثقافى الإسباني, ومجمل الواقعة : أن ابنتى كانت تشاهد مسلسل (الزينى بركات) من تأليف جمال الغيطاني, ثم طلبت منى قراءة الرواية الأصلية, فأعطيتها إياها, ولما فرغت من القراءة, كان يبدو عليها بعض الدهشة, ثم سألتنى سؤالا مفاجئا: متى ولد الغيطاني؟ قلت لها بتلقائية: عام (45) وكنا لانزال فى القرن العشرين لكنها أتبعت سؤالها الأول بسؤال أثار دهشتي: عام (45) لكن فى أى قرن؟ نبهنى سؤالها إلى أننا فى مواجهة كاتب عمره لا يخضع للحساب بالأيام والشهور والسنين, إنما يحسب عمره بالقرون, فعمره الإبداعى هو عمر مصر التى رافقها منذ بداية التكوين زمنا وراء زمن, وعصرا وراء عصر, من العدم إلى الفرعونية, إلى المسيحية , إلى الإسلامية, إلى زمن الحضور, رحل فى تاريخها, وسكن حواريها وأزقّتها, وصعد روابيها وهبط وديانها, وأطلّ على مساجدها وكنائسها, وسجل قبابها وأعمدتها, وها هو اليوم فى سبعينيته الأولي. وقد نبهنى سؤال ابنتى إلى ما كان يلفتنى عند الغيطاني, ذلك أننى كلما قرأته كنت أتلمس عنده بعض جمل اقتنصها واضعها إشارة دالة ومنبهة أمامى على مكتبى بوصفها مرآة صافية للوجود وتحولاته الغيبية والحضورية , ومن هذه الجمل جملته التى وردت فى ( خُلسات الكرى ): «ما تبقى أقل مما مضي» تأملت هذه العبارة فى ضوء سؤال ابنتى عن ميلاد الغيطانى , فوجدت أن عمره الإبداعى الذى يحسب بالقرون, قد وصل إلى سبعة آلاف سنة, ومن ثم فإن ما تبقى يكون أقل كثيرا مما مضي, ومن يقرأ أعمال هذا الكاتب سوف يأتيه اليقين بهذه الزمنية السديمية, منذ قصته الأولى التى ألقاها فى قهوة (الفيشاوي), ثم قصته المنشورة عام 1963 (زيارة): إلى آخر إبداعاته: (حكايات هائمة) 2015, ولا يتسع السياق لحصر كل ما أبدعه, لأن إبداعاته غير قابلة للحصر, لأن الحصر يعتمد (الكم) وإبداعاته تعتمد (الكيف) بكل ركائزه الغيطانية من (الاغتراب والحنين والتحنين والارتحال والسفر والفقد والموت والعرفان) التى تقع تحت طائلة سؤاله الدائم: (أين ذهب الأمس) ؟ ثم ينضاف إلى كل هذه الركائز ما جد فى (الحكايات الهائمة) من معاينة (الاسم قبل المسمي), كما ينضاف قدرات سردية طارئة فى تحويل التحقيق العلمى إلى إبداع سردى نتابعه فى نص: (لا كليلة ولا دمنة) أما الذى شغلنى كثيرا فهو سؤال كان يتردد عندى كلما قاربت نصا له: كيف عاش الغيطانى هذا الزمن البرزخى فى كل إبداعاته ؟ هذا سؤال لا يمكن الوصول إلى إجابة عنه إلا بالتأمل فى مجمل إبداعاته السردية وغير السردية, وهذا التأمل سوف يقود إلى ركيزتين تسكنان الغيطانى وتحركان مسيرته الإبداعية , الأولي: (المخيّلة) التى قال عنها فى إحدى رواياته: «إن أثْرى ما عشته لم أدركه إلا بقوة المخيّلة» والأخري: هى (العرفانية) التى حولت رؤيته للعالم إلى نوع من المشاهدة التى وجهت رؤيته إلى الحقائق الأولى فى الوجود المعاين و غير المعاين مع بدء التكوين الذى كان شاغل الغيطانى زمنا وراء زمن وعصرا وراء عصر, وكان إطلاله على هذا وذاك من نوافذه الداخلية والخارجية , المادية والروحية, وقد تجلى بعض ذلك فى درته الأخيرة (حكايات هائمة) كما فى نص: (اللا اسم)، حيث تابع ظهور الأسماء قبل تجسدها فى المسمي, أملا فى الوصول إلى ما ظل عمره كله يسعى إليه: (الاسم الأعظم) منذ بدأ القراءة فى سن السادسة, ثم صعوده من البدايات الفطرية إلى التجليات فى (دفاتر التدوين) لبناء الذاكرة , وصولا إلى الحكايات الهائمة التى تأخذ القارئ إلى عوالم لم يألفها , فيعيش بين الخيال والحقيقة , والمعقول وغير المعقول, والعلم والخرافة, والتوقع والمفاجأة, ثم يتحرك من الماضى إلى الحاضر ليطل على الآتى, وكل قارئ يستحضر مقولة مضمرة عند الغيطاني: (أنا أتخيل, أنا أتوقع) ويجاوبه بقوله: (وأنا أصدق ما تتخيله, وأنتظر ما تتوقعه). لمزيد من مقالات د.محمد عبدالمطلب