يقول الحكيم البشري أن القضاء المستقيم والمقتدر هو أساس لا يمكن الاستغناء عنه ولا بديل عنه, لكي تحل الخصومات داخل الجماعة الحضارية بالوسائل السلمية المشروعة. لأنه به وحده تحول الخصومات من وسائل استخدام العنف لحماية الحقوق أو لاقتضائها إلي وسائل استخدام الحجج والأسانيد الحقوقية, التي تعتمد علي أحكام وقواعد معروفة سلفا. وإذا انحسرت هاتان الصفتان عن القضاء وعم العلم بانحسارهما, فليس معني ذلك فقط أن ظلما سيشيع ولا أن حقا سيهضم فقط, وإنما معناه الأخطر أن أساسا من أسس تحضر الجماعة قد انهار... من أجل ذلك يثور موضوع الإصلاح القضائي جنبا إلي جنب مع موضوع الإصلاح الديمقراطي, بل لعله يشغل مكانا في القلب من هذا الإصلاح الأخير. هذا القول الذي نفتتح به هذه المقالة للحكيم البشري إنما يؤكد علي مجموعة من المفردات غاية في الأهمية وهي; القضاء المستقل, القضاء المقتدر الفعال, الجماعة الحضارية, حماية الحقوق, الأسانيد الحقوقية, الإصلاح القضائي, الوظيفة القضائية, الإصلاح الديمقراطي;هذه المفردات تشكل في حقيقة الأمر منظومة تتعلق باستقلال القضاء. ويعني هذا ضمن ما يعني أن شأن الاستقلال القضائي والإصلاح القضائي هو شأن يتعلق بالأمة بأسرها, إنه ليس شأن فئة نوعية تتعلق بأصحاب المهنة من القضاة, القضاء مؤسسة أمة. خاصة أنه قد برز في الأونة الأخيرة خطاب نحذر منه ومن مآلاته; خاصة إذا كان لهذا الخطاب تأثير ما, علي صياغة دستور مصر الثورة والوطن المقبل. ليس لأي مؤسسة أن تقول في خطابها أو في لحن قولها أنها سيدة قرارها, فهي مؤسسات تأسيسية ومؤسسة من جانب, ولكنها محكومة بشأن يتعلق بالدستور الذي ينظم الأدوار والسلطات ويحدد أصول البينيات والعلاقات, كما أن هذا لابد وأن يستند إلي الضمير الجمعي لجماعة وطنية تصب وظيفة كل مؤسسة وأدوارها الحقيقية في عافية المجتمع وصحة الأمة وكيان الدولة, بغير هذا يصير الأمر أقرب ما يكون إلي حالة من حالات الشعوبية بين المؤسسات والمستوطنات المؤسسية, كل ينعزل عن غيره, وكل يتحرك لما يتصور أنه حماية لحدوده وحياضه ومصالح العاملين فيه, من دون نظر عميم وبصير إلي مصلحة الوطن ومصلحة مصر ومصلحة الثورة. إن هذا يعني ضمن ما يعني أن نتصور الحقيقة الأساسية التي تقوم علي قاعدة من الفصل والوصل بين المؤسسات والسلطات, في إطار جامع وناظم من التكامل والتوازن والفاعلية, عند هذا فقط تلتقي المؤسسات لتشكل قوة مضافة للجماعة الحضارية وتماسكها وقدراتها علي النهوض وحماية المكتسبات, هذه المقدمة التي تربط بين دستور مصر الثورة, واستقلال قضاء مصر الحرة, هي بيت القصيد, والمعني السديد لتحقيق كرامة مواطن ومكانة وطن. ومن هنا وجب علينا ألا ننظر إلي الحديث عن أمر القضاء واستقلاله وإصلاحه بأنه صنعة القضاة يقتصر عليهم, ولا يسمح لغيرهم بالتعليق وبالتعقيب وبالاقتراح, لأن هذا الشأن شأن أمة لا شأن مؤسسة, نقول هذا بمناسبة حائط صد تكون من بعض القضاة يمنعون الناس من الكلام في هذا الشأن حتي لو كان الأمر يتعلق باستقلال القضاء, ويتحدثون أن هذا شأن يتعلق بإدارة البيت الداخلي لمؤسسة القضاة, وأن الأمر لا يعني أحدا غيرهم, ولكن من الضروري التأكيد علي بعض من الأحداث التي تؤشر إلي أن لدينا في مصر كثيرا من قضاة مصر الشرفاء, ولكن ليس لدينا مؤسسة تعبر عن استقلال القضاء. وربما أعود مرة أخري إلي الحكيم البشري شيخ القضاة حينما يقول أنه إذا تأملنا في تاريخنا فترات نهوض القضاة للدفاع عن النظام القضائي, نلحظ أنهم نهضوا في الغالب للدفاع عن أسس الوظيفة القضائية, وذلك في فترات كانت فيها النظم السياسية في ضائقة وقد انسدت عليها المنافذ, فلم تجد إلا البنية الأساسية لبناء الدولة تقتلع من أعمدتها ما تضرب به الآخرين... والشاهد أن نظم الحكم عندما تكون قوية فيما تقدمه للناس( من سياسات ناجحة وخطط نافعة وإجراءات ناجعة) وفيما تستند إليه من مسوغات شرعية سياسية وثقافية, وفيما تشيعه لدي الناس من روح الأمل والرجاء المبني علي إرهاصات مقنعة عندما تكون كذلك تتعامل بثقة واطمئنان وبقدر من الشجاعة, أما عندما تفقد هذه القوة وبخاصة عندما تفقدها في كل المجالات السابقة, إنما تكون علي درجة عظيمة من الاحتياج لأن تستر سياساتها وممارساتها وأفعالها وراء آخرين, والقرار السياسي عندئذ يبحث عن وجوه التخفي وراء قرارات قضائية أو رؤي فنية في أي مجال اقتصادي أو غيره( وإن أردت أن أضيف في كل مجال يتعلق بعمل المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان). وهي أي نظم الحكم تبحث عن المؤسسات المشتهرة بالحياد والاستقلال وتعمل علي أن تتسرب من خلالها. وهذا بالدقة ما حدث ويحدث.. وهو ما يدفع رجال القضاء إلي أن ينهضوا للتمسك باستقلالهم وبثوابت تقاليدهم, كلما أدركوا أنه يراد بهم أن يستغل ظاهر حيادهم الوظيفي, لتحقيق أهداف سياسية أو اجتماعية منحازة لصالح القابضين علي الحكم. أليس هذا القول مفسرا لما حدث في كتاب التمويل الأجنبي الذي فتح فانفتحت به مسائل تتعلق بحدود العلاقة بين سلطات التنفيذ وسلطات القضاء, تعبر بذلك أن هذا الشأن كان يعني ضمن ما يعني أن استقلال القضاء جزء لا يتجزأ من وجه الدولة المستقل, يعبر فيه القضاء عن سلطانه علي أي كائن من كان من مواطني الدولة أو من غيرهم ماداموا سكنوا هذه الديارأو مروا بها وعملوا فيها بنشاط ومارسوا فيها من أفعال. الأمر الثاني أن هذا يعني ان القضاء باستقلاله إنما يعبر عن تماسك الدولة وصناعة الرضا فيكون التقاضي مدخلا من مداخل التراضي العام خاصة حينما يكون القضاء عادلا وناجزا. الأمر الثالث أن القاضي بهذه الوظيفة للحفاظ علي الجماعة الحضارية واستقلال الجماعة الوطنية إنما يعبر عن وظيفة سياسية ومجتمعية للقاضي كما كان يؤكد علي ذلك أستاذنا الدكتور حامد ربيع, القاضي الذي يشكل مرفق العدالة هو الذي ينقل الإحساس لدي الناس في علاقاتهم بالعدل والظلم, ومن المهم أن يكون القاضي عنوان الميزان, والعدل, والقيام بالقسط,لا يطغي في الميزان, ولا يخسر الميزان, عمل يعبر فيه القاضي عن ميزان المجتمع بإقامة وتعضيد إيجابيات وميزات اشبكة العلاقات المجتمعية. الأمر الرابع الذي يتعلق بهذا هو ضرورة أن يكون هناك الاستقلال المالي للسلطة القضائية, وكذلك الاستقلال الإداري, والاستقلال الرقابي, خاصة ما أسمي بالتفتيش القضائي الذي يقوم وزير العدل علي إجراءاته وحلقاته, وعدم تدخل السلطة التنفيذية في صورة وزير العدل في تعيين رؤساء المحاكم الابتدائية, واستقلال التعيينات والدرجات, وإعادة النظر في عملية التعيين في العملية القضائية خاصة بوقف تعيين البعض من رجال الشرطة المتقاعدين في الهيئات القضائية, وإلغاء الندب في كل الهيئات القضائية, وعدم تعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا خالصا من قبل رئيس الجمهورية, وترشيحه ابتداء من قبل المحكمة الدستورية العليا من بين أعضائها أسوة بباقي جهات القضاء, ومنع ندب القضاة لأي وزارة أو جهة حكومية, كل هذه الأمور تحفظ للقضاء نقاءه, وتحفظ للقاضي استغناءه, وتحفظ للقضاء استقلاله, هذا هو الأمر الذي يتعلق باستقلال وإصلاح القضاء بما يجعل هذه السلطة قادرة علي أن تمثل, وتجعل القاضي في الجنة, ولا يكون من القاضيين اللذين يساقان إلي النار لأن ما يحدثه عدل القاضي لا يقارن في هذا المقام. إن الخيارات التي تمارس في هذا الشأن يمارسها الممثل للسلطة التنفيذية في صورة وزير العدل بما خوله القانون من سلطات واسعة في إدارة العملية القضائية, وهذه السلطات هو ما يتمثل فيها تسلط السلطة التنفيذية علي القضاء, وكذا فإن وزارة العدل سلكت في إدارة القضاء المصري مسالك فعلية تعتمد علي الاختيارات الشخصية, وعلي تأليف قبول من يجدي معهم هذا الصنيع وبالوسائل المؤثرة ذات الفاعلية بالنسبة لمن يكون مهيئا لذلك, ومن المداخل ذات الأثر بالنسبة لكل ذات مدخل, وكل ذلك يراعي في المواقع الوظيفية القضائية ذات الأهمية الخاصة بحكم ما يكون منوطا بها من صلاحيات في الاختصاص الوظيفي تجعل لهذه المواقع أهمية خاصة في نظر قضايا معينة أو استخدام سلطات ولائية ذات اعتبار مؤثر في أنشطة نقابية أو انتخابية أو أمنية أو جنائية أو غير ذلك كما يقول الحكيم البشري. أن ثمة أمرين متلازمين لا يكتمل التكوين القضائي إلا بهما, أولهما: نظامي يتعلق بالتكوين المؤسسي المستقل للجهاز القضائي, وثانيهما: نفسي تربوي يتعلق بتكوين القاضي الإنسان, وكما أنه لا كفاءة لعالم في أي من فروع العلم الطبيعي أو الاجتماعي إلا ب' الصدق', ولا كفاءة لجندي مقاتل إلا ب' الشجاعة', ولا كفاءة لرائد فضاء إلا ب' روح المغامرة', ولا كفاءة لتاجر إلا ب' روح المضاربة', فإنه لا استقلال لقاض ولا حياد له إلا ب' بروح استغناء'. إن استقلال القضاء والإصلاح القضائي ليعبر في حقيقة أمره عن وجه يتعلق بتماسك جماعة حضارية, واستقلال جماعة وطنية, ونقاء جماعة مهنية, تعبر في كل أحوالها عن استقلال يشكل جوهر الدستور, ومكانة مصر, ومن ثم كانت انتفاضة القضاء حينما حاولت مؤسسات أخري أن تحيل الخطأ عليه, أن تقوم بكل فعل يؤكد استقلال هذه المؤسسة باعتبارها مؤسسة أمة لا مؤسسة سلطة. المزيد من مقالات د.سيف الدين عبد الفتاح