أصبح مصطلح الإصلاح واحدا من أكثر المصطلحات ترددا ورواجا ليس على الصعيدين السياسي والإعلامي فحسب‚ وإنما على الصعيد الفكري بشكل عام‚ والمصطلح وإن كان استعماله هذه الأيام أصبح موضة إعلامية وسياسية -إن صح التعبير - إلا أنه يحمل دلالات إيجابية‚ بل جدورا أصيلة فى الأدبيات الدستورية. فعندما وصل تطور المجتمع الإنساني إلى القبول بفكرة وجود دولة كان ذلك منذ البداية ومازال مرتبطاً بقيام الدولة بمهام أساسية محددة تمثلت في إقامة العدل وتحقيق الأمن‚ وحراسة الثغور‚ ولكي تتمكن الدولة من القيام بهذه المهام أنيطت بها مهمة رابعة تتمثل في تخويلها حق جباية بعض الأموال لتغطية نفقات أجهزة العدل والأمن والقوات المسلحة‚ تلك هي المهام التقليدية للدولة التي تبرر وجودها‚ وسواء بعد ذلك توسعت الدولة في القيام بمهام تنموية أو خدمية أُخرى أو قلصت منها فإن تلك المهام الأساسية التقليدية تفرض نفسها كأولوية بدهية مستمرة. وفي ظل الإجماع السائد واعتراف مختلف المؤسسات الدستورية بوجود الكثير من مظاهر القصور والسلبيات في أوضاع السلطة القضائية والتي تنعكس سلباً على مختلف أنشطة الدولة وخططها في مجالات التنمية والأمن والاستثمار والإصلاح الإداري والقدرة على تعميم الخير والرفاهية والسكينة في حياة المجتمع‚ فقد أصبح موضوع إصلاح أوضاع القضاء بصورة شاملة لجميع هيئاته مطلبا عاجلا وقضية وطنية تفرض تضافر جهود جميع المؤسسات الدستورية من أجله. فالإصلاح القضائي عزيمة مستقلة لاتصالها بالضمانة لا بمسيرة الإصلاح ذاتها وإن اتصلت لزوما بها وارتبطت حتما معها‚ ذلك أن الإصلاح القضائي يعد مفتاحا حاكما تنفتح به المغاليق وتسهل أو يعسر أمرها على طالبيها ويشق فنحن لا نستطيع أن نضمن ديمقراطية صحيحة ولا انتخابات نزيهة ولا حقوق إنسان ترعى وتصان بل ولا عدلا قضائيا يؤدي الدور المجتمعي المنوط به فضلا عن وظيفته الفنية ولا رقابة فعالة لسلطتي الدولة ولا صيانة مدنية ملزمة لحدود الدستور وتفسيرا تشريعيا صحيحا للقانون وفق أحكامه بغير وجود لسلطة قضائية مستقلة في إرادة كل تشكيل من تشكيلاتها ولكل مستوياتها رشيدة الأداء عن كفاءة واحتراف‚ فعالة الأثر عن رؤية والتزام بالوطن. إن الوقت الحاضر يتوافر فيه أفضل مناخ عام للإصلاح القضائي ولتكامل هذا المناخ لا بد من توافر المناخ الملائم داخل إطار القضاء نفسه وبين أجهزته‚ ويعتبر كل من مجلس القضاء الأعلى ونادي القضاة ووزارة العدل هي الأدوات التي سيتم بها ومن خلالها الإصلاح الهيكلي للقضاء ومن ثم إصلاح كل المثالب التي يعاني منها القضاء ويئن منها المتقاضون. و يأتي على رأس أولويات الإصلاح القضائي وذروة سنامها إجراء الإصلاح الهيكلي لنظام السلطة القضائية وفقاً لمشروع قانون السلطة القضائية الجديد على أسس تتسم بالتجرد والموضوعية بعيداً عن الأفكار المرتجلة أو المتسرعة التي قد تنتج عنها مقترحات تناقض المفهوم الذي يتم وضع النصوص في إطاره وبحيث تأتي النصوص ترجمة لمفاهيم صحيحة وتشكل منظومة متكاملة فاعلة ومنتجة لآثارها الإيجابية في التنظيم والممارسة. وأتصور أن هذا القانون الجديد ينبغي أن يراعي أمرين: الأول: استقلال القضاء بمفهومه الموضوعي وليس الإجرائي إذ أنه لا يمكن أن يقوم على أساس مفهوم الاستقلال التام بين السلطات لأن التجربة الإنسانية في مختلف بلدان العالم أثبتت استحالة الفصل التام وأن العلاقة بين السلطات تقوم على أساس من التوازن والتعاون والذي يعني في العلاقة بين السلطة القضائية والسلطات الأخرى الاستقلال التام للقضاء في قضائهم ووجود تعاون وتوازن فيما يتعلق بالتنظيم والإشراف الإداري تتوافر فيه الضمانات الكاملة للقضاة فيما يتعلق بشؤونهم الوظيفية. الثاني: إن أي تصور جديد يقوم على إنهاء علاقة الحكومة بالسلطة القضائية وبالتالي إلغاء مسؤوليتها عن أوضاع القضاء يتطلب تعديل بعض النصوص الدستورية النافذة التي تنيط بالحكومة مسؤولية اقتراح القوانين واقتراح تعديلها بما في ذلك القوانين القضائية التي يتطلب الدستور إصدارها حيث يلزم تحديد من له حق اقتراحها ومن ثم فإن في استمرار العلاقة التكاملية - وليست الصدامية - بين أجهزة القضاء والحكومة ما يحقق فعالية كبرى في الإصلاح القضائي إلى حين إجراء تلك التعديلات الدستورية. ويعتبر القاضي هو محور عملية الإصلاح القضائي والركيزة الأساسية لاستقلال القضاء وخدمة العدالة ومن ثم أطرح عددا من الرؤى التي قد تساهم - ولو بقدر - في منظومة الإصلاح القضائي المرتقب: 1- أحسب أن باكورة هذه الرؤى تنطلق من مرحلة الدراسة الجامعية حيث تنفصل تماما تلك المرحلة عن الواقع المهني والوظيفى لرجل النيابة العامة والقضاء أو حتى المشتغل بالقانون بصفة عامة. وأذكر هنا أنني كنت أحد أوائل الثانوية العامة على مستوى الجمهورية والتحقت بكلية الحقوق وأحرزت خلال سنوات الدراسة أعلى التقديرات ثم تخرجت بتقدير جيد جداً، ورغم هذا فإن معظم تلك المقررات والمناهج الدراسية لا تعدو أن تكون خزائن معلومات نمطية لا تدعو إلى إعمال الفكر واظهار الذاتية الشخصية فضلا عن أن معيار التفوق هو قدر ما أفرغه الطالب منها في ورقة الإجابة التي يلتقي بها مرة واحدة فى نهاية العام أو الفصل الدراسي لمدة لا تزيد على ثلاث ساعات!. 2- وضع ضوابط ومعايير عامة ومجردة لاختيار أعضاء النيابة العامة في بداية السلم القضائي أو القضاة على اختلاف درجاتهم تأخذ في عين الاعتبار - فضلا عن الكفاءة العلمية - التكوين الثقافي الشامل للمرشح وكذلك الاختبارات النفسية لما لها - في تقديري - من أهمية قصوى في التوازن المطلوب فى رجل القضاء أداءً وسلوكاً‚ 3 رفع مستوى التحصيل العلمي القانوني والقضائي والثقافي في الدورة التأهيلية للمرشحين للتعيين وذلك بأكاديمية القضاء - المزمع إنشاؤها - تعويضاً لما فاتهم في المرحلة الجامعية بتزويدهم بالمناهج والبرامج العلمية والعملية وانتقاء كوادر هيئة التدريس المؤهلة والمدربة بالخبرات والقدرات المتميزة. 4 توفير المراجع الفقهية والتشريعية والاجتهادات القضائية ومناهج المحاضرات والدورات القضائية ومجموعات التشريعات القانونية لإنشاء مكتبات تشريعية وقضائية تحتوي على تلك المراجع العلمية على مستوى النيابات والمحاكم الابتدائية والاستئنافية في جميع المحافظات. 5 تنظيم الدورات التنشيطية والتثقيفية القضائية لأعضاء النيابة العامة والقضاة محلياً وإيفاد المتميزين منهم في بعثات إلى الخارج بغرض تطوير وتحديث معارفهم العلمية ومهاراتهم القضائية عن طريق استيعاب تجارب المنظومات القضائية الحديثة‚ 6 تنفيذ برامج لتخصص القضاة نظراً لتطور الحياة الذي صاحبه اتجاه إلى التخصص في مختلف مجالات العلم والعمل حيث يتطلب القضاء تخصصات دقيقة نظراً للمشاكل التي تنوعت وتعددت تبعاً لذلك التطور على غرار ما حدث في محاكم ونيابات الأسرة مؤخراً. 7 وضع دليل إرشادي للعمل القضائي يعده نخبة من كبار رجال القضاء والنيابة العامة وتتكفل بطباعته دار قومية لتيسير وتبسيط إجراءات التداعي يشمل كافة المراحل الإجرائية وأهم القواعد الواجبة الاتباع ثم طرحه للتداول بسعر رمزي وكذلك إصدار المطبوعات المتخصصة‚ وذلك للتوعية بقواعد الإجراءات القضائية وغيرها‚ والتنبيه إلى جوانب القصور والخطأ في تطبيقها حسبما يتضح ذلك من واقع الممارسة العملية‚ وما يكشف عنه التفتيش القضائي وتيسيرها للقضاة‚ 8 تحقيق الاستقرار القضائي على ضوء نتائج التفتيش القضائي وتقييم القضاة كفاءة وسلوكاً مع مراعاة إجراء الحركة القضائية بما لا يتعارض مع متطلبات الاستقرار في حياتهم الأسرية. 9 إعادة النظر في مستوى المرتبات والبدلات الممنوحة لأعضاء السلطة القضائية وزيادتها إلى المستوى الذي يؤمن لهم حياة كريمة لهم وذويهم بما يحفظ لهم كرامتهم ويصرفهم عن بعض الانتدابات أو الإعارات التى لاتتناسب مع مكانتهم القضائية الرفيعة‚ 10 تقريب العدالة للمواطنين وذلك من خلال العمل على توفير الأعداد الكافية من القضاة الذين بتوافرهم وبالتخطيط السليم لتوزيعهم حسب الاحتياجات المدروسة مسبقاً يمكن تجاوز الكثير من مظاهر تراكم القضايا وازدياد أعدادها بتزايد عدد السكان وتطور الحياة الاقتصادية والاجتماعية وما ينتج عن ذلك من معاناة للمتقاضين‚ وحتى يكون تعدد القضاة إسهاماً في عدالة ناجزة سريعة فالبطء فى تحقيق العدالة هو أحد مظاهر الظلم. و أخيراً فالسؤالان المهمان اللذان إن تمكنا من الإجابة عنهما وصياغة الواقع اتساقا مع إجابتهما ضمنا سلطة قضائية صحيحة في تشكيلها‚ متوافقة في ذاتها‚ عفية في بدنها‚ مؤثرة في أدائها وأقمنا بذلك الضمانة المجتمعية الأساسية لمسيرة الإصلاح الشامل والمستمر هما تساؤلان كيفيان ونعني: على أي نحو نصحح التشكيل وكيف نحقق التوافق بين مفترضات البنية الذاتية لجهات القضاء وكيف نرتقي بتكوين رجاله؟. وأحسب أن دور الفكر يقف عند حد الرصد والتشخيص والمكاشفة وأحسب أن طبيعة السلطة القضائية توجب التوقف في مجال تناول الشأن العام المتصل بها عند الحدود الظاهرة منه لا تتعداها حفاظا على جوهر أصيل ينبغي عدم التفريط فيه وأعني دعم الثقة العامة فيها وإعلاء شأنها‚ ولذلك لا نتجاوز حد طرح الأسئلة إنعاشا للعقول لتبحث وللإرادات لتصلح‚ فكيف يمكن أن نوقف الميل المتزايد لعسكرة القضاء وكيف لا نقبل للآن منطق المساواة بين الجنسين بصورة كلية ليس فقط نزولا على مقتضى المبدأ الدستوري وإنما علاج لاختلالات التكوين ودفعا بالأداء؟ كيف نحافظ على آلية الاختيار الذاتي دون أن نهد مبدأ تكافؤ الفرص ولو لحالة فردية واحدة ودون أن ننتهي لارستقراطية التشكيل أو لأفلاطونيته المرفوضة؟ كيف ندعم التكوين الذاتي لقاض يعيش العصر بعقله وانتماءاته ويستشرف المستقبل بخياراته ورهاناته ويكون جسرا لحركة مجتمعه إليه ضابطا لها وفاعلا فيها ؟كيف نجعل من الأداء القضائي اليومي مدرسة منهجية لارتقاءات علمية وفق أصول صحيحة وديمقراطية قويمة ؟وقبل ذلك كله كيف يمكننا أن نعمل معايير الامام علي كرم الله وجهه في اختيار القضاة في رسالته للأشتر النخعي والتي بإعمالها وبوجود قاضيها بخصاله الثلاث عشرة وبشيوع مثاله نكون قد بنينا حائط الصد ضد كل احتمالات التسييس والتدجين وحصنا بنية القضاء ذاته من مخاطر الانعزال أو الاستعلاء لتقوم سلطة القضاء بذلك كما ينبغي لها أن تكون ضمانا للإصلاح المجتمعي المتجدد وللعمل الوطني الخلاق. ورحم الله المستشار الدكتور فتحى نجيب الذي تولى أرفع المناصب القضائية مساعداً لوزير العدل للتشريع و التفتيش القضائي ورئيساً لمحكمة النقض ولمجلس القضاء الأعلى وأخيراً رئيساً للمحكمة الدستورية العليا وفي ذات الوقت كان أحد أهم رموز الثقافة الموسوعية فى مصر المعاصرة فالتاريخ يشهد أنه صاحب مبادرات النيابة المدنية ومبدأ التوطن وثقافة القاضي وغيرها مما تنوء هذه السطور عن الإحاطة بها. -------------------------------------------------------------------- الوطن القطرية