التقرير فن صحفي جميل؛ يُدخل المتعة على الكاتب والقارئ معا، إن كُتب بحقه، وهو أقل الفنون الصحفية كُلفة، وأكثرها تأثيرا في الرأي العام. وقد اعتمدتُ عليه في تغطية أحداث الثورة المصرية لموقع "الجزيرة.نت" طوال عام 2011، إذ كتبت أكثر من مائة تقرير، وجمعت بعضها في كتاب يصدر الأسبوع المقبل، عن مركز الأهرام للترجمة والنشر، تحت عنوان: "مشاهد من قلب الثورة". أداة لتطوير الصحافة لا تستطيع أي صحيفة الاستغناء عن هذا الفن، والدليل على ذلك أن الصحافة الخاصة بمصر حققت ازدهارها نتيجة اعتمادها عليه، باعتباره يتناول كما هائلا من الأخبار بتفاصيل أكثر، وقد صدرت جريدة "المصري اليوم"؛ التي صدرت في منتصف عام 2004، أكثر من صفحة له في العدد الواحد، خاصة الصفحة الثالثة، بعد أن دأبت الصحف القومية على تجاهل هذا الفن. لكن الصحافة المصرية تظلم التقرير عندما لا تفرق بينه وبين غيره من ألوان العمل الصحفي، ولا توليه العناية الكافية في التخصص والإبداع، أو تستخدمه على أنه فن آخر، فتضع كلمة "تحقيق" على تقارير تستطلع آراء مصادر في قضية ما، يتبنى فيها المحرر وجهة نظر محددة. أنواعه.. وسماته ينقسم التقرير إلى ثلاثة أنواع مشهورة، أولها الإخباري، ويواكب الحدث بشكل فوري، ويفسر أحد جوانبه بأسلوب رشيق. ويزيد على الخبر المركب أو المطول بأنه يقدم الخلفيات، ويضع الحدث في سياق تطور تاريخي أو موضوعي. النوع الثاني هو التقرير الوصفي أو الحي، ويقوم على تصوير الوقائع والأحداث، إذ يهتم برسم صورتها أكثر من اهتمامه بشرحها، ويصف الظروف والأشخاص المرتبطين بالحدث. والقارئ هنا لا يقرأ الحدث، وإنما يشاهده، ويحسه، وينتقل إلى أجوائه الحية. أما النوع الثالث فهو تقرير عرض الشخصيات، ويتناول شخصية مرتبطة بالحدث، ويحلل سماتها وأفكارها، فتم رسم الشخصية بشكل دقيق، دون إغراق في الخيال، أو نقل أقوال لم تقلها، أو خلط بين آرائها ورأي المحرر. وهنا ينبغي التفريق بين تقرير الأشخاص والحوار الصحفى، فالأول يقوم على رسم ملامح الشخصية، وليس شرطاً فيه إجراء حوار معها، أما الثاني فيستهدف الحصول من الشخصية نفسها على معلومات عنها أو عن الموضوع المطروح. ومن المجيدين لكتابة تقرير "عرض الشخصية" الكاتب الصحفي محمد عيسى الشرقاي في عموده الأسبوعي المنتظم "حكاية سياسية" بجريدة الأهرام.. وليس ثمة ما يحول دون الدمج بين أكثر من نوع من الأنواع الثلاثة للتقرير في تقرير واحد. موجود في القرآن من روائع القرآن الكريم أنه حوى هذه الأنواع للتقارير جميعا..فالتقرير (الإخباري) ورد في عشرات القصص القرآنية التي تحدثت عن الأقوام السابقين، وكمثال أيضا هناك تقرير الهدهد الذي رفعه للنبي سليمان عليه السلام عن حال قوم سبأ (ورد في سورة النمل). أما التقرير الوصفي فنطالعه في عشرات القصص القرآنية، وأخص بالذكر منها قصة أصحاب الجنة (بسورة القلم). وبالنسبة لتقرير عرض الشخصية فقد جاء في حديث القرآن عن شخصيات كثيرة، كالأنبياء والمرسلين، ومؤمن آل فرعون (في سورة غافر)، وشخصيات فرعون، وقارون، والنمرود.. وغيرهم. الإجابة عن لماذا؟ لئن كان الخبر يجيب عن الأسئلة الخمسة المعروفة فإن التقرير يجيب عن السؤال السادس : لماذا؟ ويشرح -في المجمل- الظروف المحيطة بالحدث، ويقدم معارف وبيانات جوهرية عنه، ويصف الزمان والمكان، والأشخاص، ويعرض فيه كاتبه رؤيته الشخصية، بينما لا تظهر في الخبر شخصية المحرر، أو انطباعاته أو آراؤه. وهنا تزيد القيمة المضافة للتقرير بحسب أسلوب كل محرر.. المستمد من خبرته، وثقافته، وقدرته على الإبداع، وحسن المعالجة، وسلامتها منطقيا. ويشبع التقرير نهم المحرر إلى الحديث عن شخصيات معينة، أو تعميق الأحداث الجارية، علاوة على إبراز قدراته التجديدية والابتكارية في وصف الظاهرة والأشخاص والزمان والمكان، محل اهتمام الجمهور. وبينما يطرح التحقيق جوانب متعددة للموضوع الذي يتناوله لكسب الرأي العام لصالح القضية التي يطرحها.. يركز التقرير على جانب واحد، ويقدم تفاصيل أكثر من الخبر، وأقل من التحقيق. ويجب أن يكون للتقرير رؤية واضحة، وأن يركز على زاوية واحدة أو ظاهرة محددة أو شخصية معينة، وأن يلتزم بالموضوعية، ويقدم الحقائق دون تحريف، ويفصل بين رأي المحرر وآراء المصادر، ويستعين بخلفية تاريخية أو موضوعية للحدث، بحيث تضعه في سياق ما، وتربطه بغيره من الوقائع، وتساعد القارئ على الإلمام بالصورة متكاملة. كيف تكتب تقريرا محكما؟ يحتاج التقرير إلى إحكام الكتابة بدرجة أشد من أي لون صحفي آخر، لأنه يتسم بتقديم أكبر قدر من المعاني والحقائق في أقل عدد من الكلمات والعبارات (كتابة مكثفة)؛ فيتوخى المحرر أسلوباً جزلا، وجملاً بسيطة، ويكتفي بإبراز زاوية واحدة؛ بهدف إثارة الاهتمام، وإقناع القارئ أو إمتاعه بها. كما يجب أن تكون مقدمة التقرير مشوقة، وأن تلخص أبرز التفاصيل الواردة في ثناياه (في حالة التقرير الإخباري)، وأن تحدد زاوية المعالجة، أو تمهد للموضوع، أو تهيئ القارئ له، من خلال سرد واقعة أو موقف معين، أو وصف ظاهرة أو شخص أو حدث، كما في النوعين الباقيين. وبالنسبة للعنوان يجب أن يكون دلاليا، وجذابا. أما جسم التقرير (المتن) فيتضمن التفاصيل والشواهد والصور الحية والأدلة والحقائق والشواهد والحجج المنطقية..وصولا إلى الخاتمة التي تحوي النتيجة التي خلص إليها، بحيث تترك صدى في ذهن القارئ، وتدفعه إلى تكوين رأي ما حيال الموضوع المطروح.( طريقة قالب الهرم المعتدل في الكتابة هي الغالبة). أخيرا: يعود الأصل اللغوي للتقرير إلى الفعل: (قرَّر..يقرّر..تقريرًا)، ويعني التوضيح، أو (نقل القرارات)..وقرر الشيء في المكان أي: أقَرّهُ. وقرَّر المسألة: أوضحها..وقرَّر الرأي: حققه، وقرَّر فلانا بالذنب: حمله على الاعتراف به. إن الصحافة المصرية تحتاج إلى مجددين ينعشون فن التقرير الصحفي، ويجمعون فيه بين الممارسة والمهنية، ليقدموا للقارئ وجبة ممتعة من هذا الفن الراقي بمهارة فائقة. [email protected] المزيد من مقالات عبدالرحمن سعد