تعيش مصر لحظة فريدة من تاريخها, حيث يترقب المواطنون المصريون تلك اللحظة التي يختارون فيها رئيسا لهم, في مناخ يفترض أنه يتميز بالنزاهة والحرية والتنافسية, بعد أن ألحق هؤلاء المواطنون والرأي العام والحركات السياسية المختلفة الهزيمة بلعبة الرئيس التوافقي الذي وضعه الوعي العام الشعبي في خانة الرئيس المفروض أو الرئيس التأمري وبدا في الذهن الشعبي كما لو كان مرشحا لأطراف معينة متحالفة بشكل مؤقت أو غير مؤقت, وليس نتاجا للإرادة العامة الشعبية كما تعبر عنها الانتخابات النزيهة والحرة التنافسية. وبصرف النظر عن تناقضات وتجاذبات وحسابات المشهد السياسي الراهن في مصر, فإن المواطنين المصريين يترقبون رئيسا بمستوي اللحظة التاريخية الراهنة, وتكون استجابته وأداؤه بمستوي التحديات الراهنة التي تطرح نفسها علي مصر داخليا وخارجيا. ينتظر المصريون رئيسا يفكر بطريقة مختلفة عن سابقيه, ويحظي بنظرة ومنظور للمشكلات والتحديات لا تمت بصلة إلي نمط التفكير والتبرير السابق علي سقوط رأس النظام السابق بل والسابق علي انتخابه. وهذا التفكير المختلف والمنظور المختلف الذي ينبغي أن يتمتع به الرئيس المنتظر يعني بادئ ذي بدء أن يؤمن الرئيس المنتخب بقوة الحدس والتخمين والإرادة, أن كل مشكلة يتوفر لها أكثر من حل ممكن, بشرط توفر الصدق والإرادة لحلها, وأن يكون مقتنعا بأن الواقع- أي واقع- وليس فحسب الواقع المصري, لا ينتج بالضرورة إلا المشكلات التي تكون عناصر حلها متضمنة في الواقع, بشرط الكشف عن هذه الإمكانية وتوفر العزم والإرادة لإعادة بناء الواقع, وحمله علي الإفصاح عن حلول المشكلات. ولن يتأتي ذلك إلا عبر الانفتاح علي مختلف الآراء والحوار الشامل مع الفئات كافة وممثليهم السياسيين, ورفض الارتهان بحلقة ضيقة من المستشارين والمتنفذين وذوي المصالح الضيقة في الاستحواز علي آذان وأسماع الرئيس, وحجبه عن أصحاب الرؤي والرؤية خارج هذه الدائرة الضيقة. يريد المصريون رئيسا لا يهدأ له بال ولا تغمض له عين, ولا يأخذ سنة ولا نوم طالما بقي في مصر جائع في أعماق الوادي وأطراف الدلتا, ومختلف القري والنجوع في صحاري مصر شرقها وغربها, وطالما بقي فيها مواطن دون مأوي ودون سقف يحفظ عليه كرامته وكرامة أسرته وذويه. ليس بمقدوري أن أرسم خريطة طريق للرئيس المنتظر لحل هذه المشكلات الأولية, فمن المؤكد أن هذا الرئيس المنتظر لديه تصور عام وبرنامج سياسي, أعده متخصصون في مختلف المجالات وله عند فوزه بهذا المنصب أن يستعين بمن يشاء من المتخصصين, في كافة المجالات, ومع ذلك فمن المهم أن نؤكد أن جوهر المشكلة الاقتصادية والاجتماعية في أي مجتمع تتلخص في قلة الموارد ومحدوديتها وزيادة الطلب عليها, والحال أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة, ويكمن الحل بطريقة مبسطة في أحد احتمالين كليهما في حيز الإمكان, أولاهما إما زيادة الموارد والبحث عن موارد جديدة ومصر بها الكثير من الإمكانيات وثمة العديد من المشروعات الموضوعة في أدراج البيروقراطية المصرية, أو إعادة توزيع هذه الموارد وإعادة تخصيصها وتوزيع عائدها بطريقة عادلة تكفل تحقيق هذه الأهداف. نريد من الرئيس المنتظر أن يخصص لكل طفل علي أرض مصر من أقصاها إلي أقصاها كوبا من اللبن يوميا حتي اكتمال سن تشكيل الكتلة العظمية وذلك لضمان حماية الأطفال من التشوهات واكتمال نموهم بطريقة سليمة, وليس ذلك جريا علي سنة الرئيس التشيلي السابق المناضل سلفادور أليندي, عندما انتخب رئيسا لهذا البلد, بل هي خطوة تندرج ضمن خطوات أخري لتوفير شبكة من الحماية الصحية والوقائية والاجتماعية لأطفال مصر وشبابها الذين سوف يتحملون عبء الدفاع عنها وخدمتها في المجالات كافة. يريد المصريون من الرئيس المقبل أن يكون منحازا للطبقات الفقيرة الذين يمثلون أغلبية المجتمع, وألا يعتبر هذا الانحياز سبة في جبينه, كما أن هذا الانحياز لا يخل بكونه رئيسا لكل المصريين, فقراؤهم وأغنياؤهم, كما أن هذا الانحياز لا يجعل منه رئيسا للفقراء, ذلك أن هذا الانحياز له ما يبرره في الواقع حيث ترتفع معدلات الفقر في مصر نتيجة الاستقطاب الواقع في مصر بين الفقر والغني, ونتيجة لسياسات الخصخصة وإعادة الهيكلة, من ناحية أخري فإن أغنياء هذا البلد قد تمتعوا طيلة العقود السابقة بانحياز النظام القديم لهم ظالمين أو مظلومين, واقتنوا القصور والفيلات والمنتجعات وحظوا بكثير من الإعفاءات والدعم وتخصيص الأراضي, بأثمان ضئيلة, وكونوا ثروات هائلة في الوقت الذي ازداد فيه الفقراء فقرا وانضمت إلي معسكر الفقراء بعض فئات وشرائح الطبقة الوسطي. يريد المصريون من الرئيس المقبل أن يعي أن استقلال الإرادة واستقلال القرار السياسي المصري لن يتحقق ما لم ننجز الاستقلال الاقتصادي, أي نعظم قدرات الاقتصاد المصري ونزيد من إنتاجيته وموارده, لن يكون استقلال القرار السياسي لمصر ممكنا ما دامت تستهلك بأكثر مما تنتج وتستورد بأكثر مما تصدر, وتنفق بأكثر من إيراداتها, لن يتحقق استقلال القرار السياسي المصري ما دامت مصر مدينة داخليا وخارجيا, ومادام كل مصري في الطريق إلي أن يصبح مشروعا مدينا مستقبليا أو حاليا, عبر الاقتراض بأشكاله كافة مع ما يترتب عليه من فوائد تعمق أزمة المدين الفرد المواطن وتزيد من عبء الديون علي القرار المصري. إن معالجة هذه الأوجه المختلفة للخلل في البنية الاقتصادية لا تدخل في دروب المستحيل, بل تقع في حيز الممكن طالما توفرت الإرادة السياسية لتصحيحها وطالما توفر الوعي بخطورتها علي المجتمع والمواطنين والدولة في مصر. وأخيرا وليس آخرا فإن الرئيس المقبل لمصر يقع علي عاتقه استعادة الدور الإقليمي لمصر ومكانتها وهيبتها وقدرتها علي صنع النموذج والمثال والقدوة في الدائرة العربية والإقليمية عامة, وأن يضع نصب عينيه إعادة هيكلة علاقات مصر الخارجية علي قاعدة الندية والمعاملة بالمثل, أيا كان الطرف الآخر في هذه العلاقات, وأن يكون قادرا علي التواصل مع التجربة الوطنية المصرية التي استهدفت طوال تاريخها الاستقلال والدستور والعدالة والوحدة الوطنية. هذا بعض ما يتمناه المصريون من الرئيس المقبل, والذي قد لا يعرف طبيعة صلاحياته وحدودها إلا بعد انتخابه ولكن وأيا كانت هذه الصلاحيات محدودة أو موسعة وفقا لنظام برلماني أو رئاسي أو مختلط فإن الرئيس لن يكون في مقدوره الوفاء منفردا لهذه الآمال ولكن في إطار ديناميكية جديدة وروحية و ثابة يستطيع أن يبعثها لدي المواطنين كافة في ظل منظومة سياسية ديموقراطية متكاملة. المزيد من مقالات د. عبد العليم محمد