كثرة من الناس صاروا يتجنبون قراءة الصحف لأنها تصيبهم بالكآبة فهي تنشر يوميا ما يقع من أحداث مؤلمة ومزعجة وحزينة. وبسبب الآراء التي تعلق علي هذا الواقع فتخيفهم وتشيع فيهم اليأس أو تبشرهم بفجر جديد لا يرونه بعد. ولست أقصد بهذا المقال هذا أو ذاك وإنما مجرد التأمل. لا أقصد في الواقع وإنما بحثا عن الحقيقة. والفرق كبير!. فالمفترض أن الحقيقة مطلوبة لذاتها أيا ما كانت. فنحن قد ننجح ولو قليلا في تجنب الواقع بغلق أبواب البيت علينا وغلق الأذنين والعينين عما يجري خارجه للاهتمام بأمورنا الحياتية والرضا بالمقسوم أو بالهجرة لمن استطاع إليها سبيلا, خاصة من الإخوة الأقباط أو الليبراليين. ويمكن أن نطلق علي كل الصحف اسما واحدا هو(أخبار الحوادث). وهذا هو(الواقع).قطع طرق. سلب ونهب. واحتجاجات فئوية. خطف أطفال. اغتصاب فتيات أو أراضي. تهريب سلاح ومخدرات وتهريب مسجونين وأحيانا الإفراج عنهم. وآلاف القضايا يرفعها الناس علي بعضهم البعض وعلي الدولة وتفجيرات وحرائق ومعارك وخطب نارية في كل مكان. وسب و قذف علني بالصوت والصورة. وكل هذا لا يكفي أجهزة الإعلام المختلفة فتلفق الأكاذيب لتبيع أكثر أو تخفي بعضها لمنفعة أفضل. يحدث هذا في وضح النهار ونحن مشغولون بقضايا نظن انها مصيرية. نسأل عن مصير مبارك والأموال المنهوبة ومن يكون رئيس الجمهورية القادم؟ وكيف نصوغ الدستور, وبنفس درجة الأهمية نفسها: كيف نحصل علي أنبوبة بوتاجاز أو شربة ماء ليست ملوثة. أما السؤال الرئيسي للكبير والصغير والغني والفقير ويسأله الناس لبعضهم البعض, فهو(مصر رايحة علي فين؟) فلا يجدون إجابة واضحة. بينما الإجابة مكتوبة بالخط العريض فوق سماء المنطقة لا مصر وحدها. ولكننا ننظر تحت أقدامنا فنغرق أنفسنا في تفاصيل الواقع وكأننا نصارع بحر هائجا من الأمواج بينما الحقيقة تتطلب أن ننظر من أعلي نظرة عامة شاملة. لا تتوقف عند لحظتنا الحاضرة فحسب لأنها موصولة بما فات ونتيجة لما حدث في الماضي. إذا نظرنا من أعلي علي منطقتنا خلال ستة عقود سندرك ببساطة أن عبد الناصر لم يكن ظاهرة وإنما جزء من ظاهرة تفشت في منطقتنا. فلا هو أول من قاد انقلابا عسكريا بل سبقتنا سوريا بانقلاب بعد انقلاب. كما سبقت بدعوة القومية العربية والوحدة وغشها ناصر منهم. وخلال سنوات قليلة تخلصنا وكذلك البلاد المجاورة لنا من حكم جيوش الاحتلال الأجنبي ليحل محلها حكم جيوش الاحتلال الوطني المسلحة. الاستثناء كان تونس التي تأخر انقلابها وبواسطة قوات الشرطة. ومثلما استمر الملوك( الذين تحميهم قواتهم المسلحة) يورثون العرش لأولادهم. كان كل رئيس ينقلب عليه أحد أعوانه ليرث الحكم مكانه أو كان الرئيس يحدد من بينهم من يرثه بعد موته أو بعد قتله, وكان خطأ مبارك أنه لم يختر نائبا عنه من قواته المسلحة كما جري العرف بل أراد أن يورث ابنه فخرج عن القاعدة!. وعندما حاول تصحيح الخطأ أوكل الأمر لرجل كان عسكريا وبعد فوات الأوان. أما الآن فنحن نعيش الربيع العربي حسب تسمية الغرب. هتف شبابنا(يسقط..يسقط حكم العسكر) ولعبوا الثورة ببراعة كبلاي ستيشن علي فضاءالانترنت. فصدق قول مبارك عندما قال(خليهم يتسلوا).بينما هتف شيوخنا( يحيا..يحيا حكم الدراويش). أصبح موضوع المناظرة هل يحكمنا أمثال عبد الناصر موحد العرب وقاهر إسرائيل ومن هم وراء إسرائيل أي أمريكا والغرب. أم تحكمنا جماعة الشهيد حسن البنا إمام الجامع الذي اغتال المصريين؟. أو الشهيد بن لادن الذي عاش في كهوف الجبال وانتصر علي برجي التجارة في نيويورك؟. وبعد أن قضي العسكر علي النخبة المثقفة منذ البداية. ها نحن نعيد محاكمة الشيخ محمد عبده وطه حسين ونجيب محفوظ وقاسم أمين وعشرات من الموتي ومن الأحياء كالفنان عادل إمام وأشباهه. فقد قمنا بثورة ألهمت العالم بشهادة أوباما الذي يعكف حاليا علي دراسة ابتكاراتنا فنحن بسبيلنا أن نخترع الدستور والديموقراطية وحقوق الأنسان والجمعيات الأهلية ومجلسي الشعب والشوري ونبني مجمعا علميا! أو بمعني أدق نصحح هذه المفاهيم التي زيفها العالم الغربي!. النظر من أعلي يجعلك تدرك أننا في هذا لسنا وحدنا وإنما معنا كل البلاد العربية أو الإسلامية وصولا إلي نيجيريا والصومال وأفغانستان وباكستان. الحرائق والدماء تجمعنا كلنا. إذن نحن أمام ظاهرة جديدة قديمة, بعد فشل الحكم العسكري القومي والوحدة العربية, وهي ظاهرة الحكم الديني والوحدة الإسلامية تمهيدا للخلافة الإسلامية.حكومة ترث الحكم العسكري. حكام جدد يعيدون إنتاج القرون الوسطي بواسطة( نيو لوك) يناسب العصر محلي بعصير الديموقراطية وعسل الحرية. يطلقون اللحي كما اليهود والمسيحيون وشعوب العصر الحجري(أم كانوا يحلقونها؟) ولكنهم يهجرون الجمال ليركبوا الكاديلاك التي يشترونها أو تهدي إليهم من بلاد الخليج لا من الغرب والعياذ بالله. ولا تكتمل المنظومة إلا بتطبيق الجلد والرجم وقطع اليد والأذن والطرد خارج القبيلة لمن يلفظ باسم( الليبرالية) التي تعني الحرية والعدالة بالإنجليزية!. المنطقة كلها تنتفض كما تنتفض الدجاجة بجسدها بعد فصل رأسها فتنثر الدماء حولها قبل أن تسقط جثة هامدة. لا تسألني عن حل فلست أعمل بالسياسة. لكني أظن أننا لن نتخلص من هذا إلا بالعولمة رغم أن اليمين واليسار كانوا وما زالوا ضدها. ولست مع تلك العولمة ولكني لا أقدر أن أكون ضدها, لأن العولمة حقيقة شئنا أم أبينا. والحقائق لا ينفع معها أن تنكرها أو تحاربها. استطاع بن باز مفتي السعودية أن يموت متمسكا بأن كروية الأرض تعني الكفر. وأظن وبعض الظن إثم أن هذا لن يمنع الأرض أن تدور حول نفسها!