تدور المعركة الانتخابية اليوم فى بريطانيا تحت شعار « التأمين الصحى الشامل والمجانى « لكل فرد من المهد إلى اللحد . « ديڤيد كاميرون « رئيس حزب المحافظين الحاكم يعلن أنه بمجرد إعادة انتخابه سوف يضخ فى ميزانية التأمين الصحى 8 مليارات جنيه استرلينى ، وذلك بالإضافة لميزانيته الحالية التى تبلغ 110 مليار جنيه إسترليني لتصبح مايقرب من 200 مليار دولار . أما « إد ميليباند « زعيم حزب العمال المعارض فيعلن هو الآخر أنه بمجرد فوزه ودخوله « 10 داوننج ستريت « مقر الحكم سوف يضيف لميزانية التأمين الصحى 2.5 مليار جنيه إسترليني عن كل سنة من سنواته الخمس فى الحكم . وتتقدم « نيكولا ستيرجن زعيمة حزب إسكتلندا القومى بحزمة تدعيم للتأمين الصحى الشامل ، وذلك عند تأييدها حزب العمال ليصل إلى الحكم فى حالة عدم حصوله على الأغلبية المطلقة ، ولكن بشرط أن يغلق أبوابآ كثيرة من وزارة الدفاع ، وبالذات إلغاء سلاح « ترايدنت » النووى ، وتحويل ميزانيتها الضخمة إلى خدمات للشعب .. وبالذات للتأمين الصحى ، وذلك لصالح الشعبين الانجليزى وإلاسكتلندى . إن التأمين الصحى لهو أعظم إنجاز حققته بريطانيا وتحسدها عليه بقية دول العالم جميعا. ويرجع الفضل إلى إنشائه إلى السياسى اليسارى « أنيورين بڤان « وزير الصحة فى حكومة العمال بعد الحرب العالمية الثانية وبالذات فى يوليو عام 1948. وكان هدف بڤان أن يكون العلاج مجانا فى جميع مراحله...ولكن عندما وجدت حكومة حزب العمال أن ميزانية التأمين الصحى قد إرتفعت فى عام 1951 إلى 350 مليون جنيه إسترلينى وذلك مما كانت عليه عام 1948 وهو 140 مليون جنيه إسترلينى، فقد ادخلت تعديلات طفيفة على بنود علاج الأسنان والأدوية لكى يسهم المواطن ب 5 بنس أو قروش على كل دواء مهما إرتفع ثمنه: عندئذ قدم «بڤان « إستقالته احتجاجا على هذا الأجراء التعسفي ! وقد ظل هذا الوضع الممتاز للمواطن البريطانى حتى اليوم. ولكن حكومة المحافظين بدأت عملية تخريب وتدمير ممنهجة منذ أوائل الثمانينيات من القرن الماضى على يد « مسز ثاتشر « رئيسة الوزراء فى ذلك الوقت : وذلك عندما بدأت بخصخصة عمال النظافة فى مستشفيات بريطانيا، ثم أدخلت عمليات إدارية غريبة للاصطدام بالأطباء وتخفيض عدد الأسرة بالمستشفيات... بل إغلاق العنابر... بل وصل الأمر لإغلاق بعض المستشفيات ! ثم جاء « تونى بلير « ليكمل المشوار، وذلك بوضع شعاره الشهير أن العمل معناه « بيزنس « أو « سوق «. ًكما قام بشن حملة شرسة على النقابات العمالية حتى تتخلى عن دورها فى حماية مكاسب الشعب البريطانى. وبوصول التحالف القائم اليوم - ومنذ 5 سنوات - بين الليبراليين والمحافظين إلى السلطة تمت عملية تسليم عشرات المليارات من ميزانية التأمين الصحى إلى الشركات الأمريكية التى طالما سال لعابها على هذه المليارات. وتم ذلك تحت ستار الأسراع بالعمليات الجراحية وحرية المرضى فى اختيار الطبيب المعالج أو المستشفى. وقامت هذه الشركات بإختيار ما يسهل عمله ويزيد ثمنه حتى يتعثر التأمين الصحى من ثقل الحمل ويتحول نظام العلاج الشامل المتكامل والمجانى إلى ما هو عليه النظام الأمريكى من درجتين : علاج حقيقى للقادرين و علاج سطحي للشعب ! ومن هنا يصبح ضخ عشرات المليارات للتأمين الصحى وسيلة للاستيلاء عليها من القطاع الخاص وبالذات الشركات الأمريكية. ورغم شدة الدهاء للقائمين اليوم على التأمين الصحى إلا أن الشعب البريطانى بدأ يدرك ما يحاك حول نظامه الصحى الفريد ... وتراه يتقدم ليحافظ على مكاسبه من هذه الهجمة الشرسة !. ومن تجربتى الشخصية : فقد عاصرت المرحلتين التى مر بهما التأمين الصحى فى بريطانيا... وذلك عندما سافرت عام 1971 إلى لندن للعمل طبيبا فى المستشفيات الإنجليزية حيث كانت ميزانية التأمين الصحى ضعيفة للغاية، وكذلك كانت مرتبات الأطباء والممرضات، ومع ذلك كان مستوى الرعاية الصحية ممتازا، ولم يكن هناك طوابير للعيادات أو قصور فى عدد الأسرة أو تأجيل للعمليات الجراحية. ثم عاصرت المرحلة الثانية فى الثمانينيات عندما بدأت عملية التخريب الممنهجة التى قامت بها حكومة المحافظين بقيادة « مسز ثاتشر». وقد قمت فى حينه بالتصدي للمديرين الجدد الذين عينتهم الحكومة للإصطدام بالأطباء، وبالأخص بالإستشاريين أمثالى ... ولم أنجح فى الحيلولة دون تخفيض عدد الأسرة أو عدم إغلاق كثير من العنابر فى المستشفيات. وكان كل ذلك يجرى رغم أن ميزانية التأمين الصحى كانت قد تضاعفت عدة مرات عما كانت عليه فى بداية السبعينيات ! وكان سبب هذه المعادلة المعكوسة - كما شرحت من قبل - هو استيلاء رأس المال الخاص وبالذات الأمريكى على نصيب الأسد من ميزانية التأمين الصحى تحت ستار بناء مستشفيات جديدة بتكاليف باهظة، وتحت شعار حرية المريض فى اختيار الطبيب والمستشفى الذى يعالج فيه... كما أنه تم تحويل عدد كبير من العمليات البسيطة والسهلة إلى القطاع الخاص، وبالذات الشركات الأمريكية الوافدة إلى البلد. وكان هذا يجرى بينما تترك الأمراض المعقدة والمزمنة فى مسئولية التأمين الصحى بميزانية متآكلة وضعيفة نسبيا، وذلك حتى يترنح تحت ثقل الحمل الكبير ... ثم يدعون أنه فشل. ثم جاء القرن الحالى والعشرون : ومالم أستطع أن أنجح فى مقاومته يأتِى ابنى الطبيب الشاب «يوسف» ومعه كوكبة من الأطباء والممرضات والنقابيين، للدفاع عن عرين التأمين الصحى ... وذلك على عدة جبهات: بالكلمة ( فهو يصدر كتابا اسمه « كيفية القضاء على التأمين الصحى فى 10 خطوات « ) - وبالصورة عن طريق الأشتراك فى فيلم وثائقى مع زملاء له من الأطباء، وبالندوات، والوقفات الإحتجاجية، وبالنشر فى جميع وسائل الإعلان. واليوم نحن هنا فى مصر نحتاج الآن - عن أى وقت مضى - لتأمين صحى شامل ومجانى لكل فرد من المهد إلى اللحد. وقد قام جمال عبد الناصر فى الخمسينات بزرع التأمين الصحى عندما شيد على مستوى الريف، وفى جميع قرى مصر، الوحدات الطبية الريفية ... وأصبح كل طبيب حديث التخرج يقضى عامين، على الأقل، يخدم فى وحدة ريفية كممارس عام. وكان هذا مبشرا بمشروع طبى عظيم. ولكن بوفاة جمال عبد الناصر، تحطم هذا المشروع واختفى الحلم ! ومع أجراس ثورة 25 يناير وتطلع الشعب لتحقيق العدالة الاجتماعية، يلوح فى الأفق مشروع التأمين الصحى كأحد الأركان المهمة لهذه العدالة الإجتماعية. ومصر اليوم تحتاج إلى جانب الممارس العام فى كل قرية، وكل حى فى كل مدينة، تحتاج إلى مستشفيات عامة وأخرى متخصصة، وذلك على غرار مركز أمراض ابكى الذى أقامه الدكتور « محمد غنيم « فى المنصورة، ومركز جراحة القلب الذى أقامه الدكتور « مجدى يعقوب « فى أسوان: على أن تعمم هذه المراكز المتخصصة فى كل محافظة وأن يتم التوسع فيها لتشمل مستشفيات متخصصة للسرطان وأمراض الكبد وأمراض الأطفال والنساء ... إلخ. وكذلك مراكز مراكز بحث علمى متقدم فى كل فروع الطب. وأن يتم تمويل هذا المشروع الضخم - مثلما فى بريطانيا - من الضرائب التصاعدية على أصحاب الدخول الضخمة - وما أكثرهم - لتكون هذه أول ثمار 25 يناير ... وهو إنجاز أحد أعمدة العدالة الاجتماعية وهو تأمين صحى شامل ومجانى لكل فرد من المهد إلى اللحد.