لدينا طبقة واسعة من السياسيين والمثقفين والإعلاميين والمتخصصين فى جميع المجالات، لكن الانطباعات السائدة عن المصريين الآن لا تتناسب مع هذا الحجم الهائل من النخبة، فقد جمعتنى الظروف للتحاور مع عدد من الكتاب والصحفيين العرب فى الآونة الأخيرة، لمست من خلالها أن الصورة النمطية عنا تزداد سوءا، وأن نخبا كثيرة من دول عربية مختلفة، تتقدم نحو مكان الصدارة. قد يكون هذا الكلام صادما وقاسيا، لكنه يتناسب مع الفاجعة التى يشعر بها أى مصرى غيور على بلد تبوأت قوته الناعمة مركز الريادة لعقود طويلة، ثم تراجعت إلى الخلف لأسباب كثيرة، ليس هذا مكان تفنيدها، ولم يعد هناك من يعبأ باستعادة الدور المفقود، ورضى معظمنا، سواء كانوا فى موضع مسئولية رسمية أو خارجها بدور المتفرج، بينما يتقدم بعض الأشقاء العرب بخطوات سريعة، وصاروا فاعلين فى المشهد الثقافى والإعلامى العربي، ولا نزال نحن مشغولين بمعاركنا الوهمية، من تصفية لأمور شخصية، وجرى وراء منصب هنا أو مطمع هناك. التصورات التى تكاد تكون راسخة فى وجدان كثيرين، خاصة فى المجالين الثقافى والإعلامي، تشى بأن النخبة الحالية فى غالبيتها انتهازية، تتحدث ولا تنتج، وتجرى وراء تحقيق المكاسب، بصرف النظر عما يتم انجازه بصورة حقيقية، ويمكن اختبار هذه المعادلة فى نسبة الحضور المصرى فى مشهد الجوائز الثقافية، ونسبة العمالة المتقدمة فى السوق الإعلامية، وعدد الكتاب المتميزين فى الصحافة العربية، ناهيك عن تدنى الحجم النوعى للإنتاج الفكرى المعروف. بالطبع هذا لا يلغى أن هناك فئة ماهرة تحفظ ماء الوجه لمصر، لكن مهما يكن عدد أفرادها فهو لم يعد يتناسب مع المكانة التى سادت لفترات طويلة، بينما تقدم أنصاف المهنيين، وأحيانا عديمى الموهبة تماما لتمثيل مصر فى مجالى الثقافة والإعلام، وقد سمح بعض الأشقاء العرب لهؤلاء بالوجود عن قصد، وإتاحة الفرصة لنشر أعمالهم الرديئة والظهور على الفضائيات على سبيل المجاملة أو التمثيل القطري، أو اتخاذهم مادة للتهكم والتندر والسخرية على ما وصل إليه حال كثير من المبدعين فى مصر. من يراقب التطور والانتشار الذى وصلت إليه نخب عربية من دول عدة ، لم يكن لها باع ثقافى وإعلامى طويل، يتحسر على الوضع الذى وصلنا إليه، الأمر الذى أبعدنا عن الاقتراب من مجال المنافسة على وظائف ومراكز متنوعة، فقد أصبحت الصورة الغالبة عن المثقف والإعلامى المصري، إما فى شكل متسلق على استعداد لأن يبيع وطنه جريا وراء الدولار، أو انتهازى وأنانى يقدم نفسه باعتباره النموذج، وكل من عاداه يدخل فى نطاق العاهات المهنية. وإذا تكرم وتعطف وقدم أشخاصا للعمل تعمد أن يقدم بضاعة رديئة، متصورا أنه يحافظ بذلك على مكانته المادية، وهو يدرى أن ضميره الفاقد للمسئولية قد يحقق له مكاسب وقتية، لكنه يضر بسمعة وطن، كان فى يوم الأيام مركز إشعاع، تجاوز حدود المنطقة العربية إلى ما وراءها، ولدى المنتمين لمهنة الإعلام والثقافة عموما سلسلة طويلة من النماذج تتسم بالأنانية المفرطة، والتى دفعت أصحابها إلى الانحياز لدول أخرى على حساب المصالح الوطنية. وقد وقعت فى يدى أخيرا إحدى المجلات العربية الفكرية، وهالنى ثراؤها بعدد كبير من الكتاب العرب، ولم أجد بينهم اسما مصريا واحدا قدم موضوعا متميزا، فسألت المسئول عنها حول سر هذا الغياب، فقال لم تعد هناك ثقافة عندكم، وكل من «هب ودب» يكتب فى هذا المجال، مقتصرا على خواطره ومشاهداته الشخصية، دون حرص على تقديم إبداعات وأفكار حقيقية، فكان من الطبيعى أن يندر الإسهام المصري. قلت له الثقافة والإعلام فى مصر ليس فقط ما يصل إليكم، من إنتاج تجارى وإسهامات فقيرة، والأسماء التى تعرض عليكم وغيركم لا تمثل المشهد المصرى على إطلاقه، بأى حال من الأحوال، ولا تعكس الرواج الحاصل فى مجالات الأدب والسينما والمسرح والفن التشكيلي، فهناك جيل واعد بدأ يصعد، يبدو أن البعض، فى الداخل والخارج، لا يريد الالتفات إليه، فقد أراحتكم فترة الخمول التى دخلتها مصر خلال السنوات الماضية، وأرضت غرور البعض بشأن تراجع الدور الثقافى المصري، وتقدم الآخرين، وهو ما نسف القناعات التاريخية المتعلقة بفكرة التأثير الحضارى القوى لدول المركز (مصر ولبنان وسوريا) على الأطراف. انتهت مناقشتى مع المثقف العربى الكبير، لكن لم تفارقنى معانيها، التى تؤكد أن لدينا أزمة فى النخبة من الواجب الإسراع بعلاجها، واستمرارها على هذا المنوال سوف تكون له انعكاسات سياسية، تؤثر حتما على المشروعات التى تراهن على جهد معتبر للأدوات الثقافية والإعلامية، لا يقل أهمية عن الدور الذى تلعبه القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية، فى إيجاد مكانة تتناسب مع الطموحات المستقبلية، وهى الخلطة التى ضمنت لمصر مكانة بارزة، وعندما اهتزت اختل معها كل شيء، على مستوى القوة المادية والرمزية، واحتل الضعفاء الصدارة، وكان من المنطقى أن يبدو المصرى خاملا من الناحية الثقافية. ونحن على أعتاب مرحلة جديدة، تهدف إلى إعادة الاعتبار للدولة المصرية، من الواجب عدم تجاهل القوة الناعمة، بل منحها جانبا من الاهتمام لا يقل عن المشروعات الكبرى، التى منحتها الدولة أولوية واضحة، فمن الضرورى أن تكون هناك خطة عملية لنهضة ثقافية، وإستراتيجية تتجاوز الميراث القاتم للحقب السابقة، ورؤية لخريطة إعلامية تقدم الوجه المضيء لمصر، بدلا من صياح الديوك وإشعال الفتن وتصفية الحسابات التى نقرأ عنها فى الصباح ونشاهد تفاصيلها وخباياها فى المساء. إن لدينا أجيالا من المتميزين فى الثقافة والإعلام والإبداع بشكل عام، تستطيع أن تسد الفراغ الظاهر، فقط يتم تغليب معايير الكفاءة والنزاهة، ووضع آلية للمحاسبة، بموجبها يمكن وقف زحف المتسلقين، الذين أصبحوا عبئا تتجاوز مصائبه الحدود المحلية. لمزيد من مقالات محمد ابو الفضل