الخطاب الشائع حول قوة مصر الناعمة والدور الثقافى فى الإقليم يبدو منذ فترة طويلة خطابا مأزوما، ويعكس نوعا من الأوهام الرسمية التى تروّج فى أوساط إعلامية وجماهيرية مختلفة بهدف إنتاج تماسك وطنى، وتغذية للمشاعر الجماعية للمصريين. هذا النمط من الأوهام السياسية حول مكانة ودور دولة وأمة ما يثور فى لحظات الضعف، وغياب القدرة على الإنجاز فى عديد من المجالات، ومن ثمّ تعود أجهزة الدولة الأيديولوجية إلى بعض الإنجاز التاريخى خلال مراحل سابقة، بهدف التغطية على المسؤولية السياسية وراء الوهن الهيكلى الذى وصلت إليه الدولة والنظام، وتحديد الأسباب وراء التراجع عن بعض الأدوار التى شكّلت حضور الدولة فى الإقليم والعالم. من هنا بدا لغو بعضهم عن أن مصر دولة عظمى ثقافية، أو القوة الإعلامية المصرية من قبيل ثرثرة الوهم، والعجز عن الإنجاز من قبل النخبة السياسية الحاكمة طيلة أكثر من ثلاثين عاما مضت، وانتهى الأمر إلى انكشاف شامل لنظرة سلطوية استعراضية لثقافة استهلاكية محدودة المستوى تخاطب النخبة الحاكمة، وتستعين بمجموعات من مثقفى السلطة وأعوانها، وبعض من الساعين للحصول على بعض منافعها وجوائزها ومؤتمراتها. اعتمدت السلطة الثقافية وأجهزتها الرسمية لعقود على أدائها البيروقراطى الكسول الذى يفتقر إلى الروح والإحساس بأهمية دورها فى واقع سياسى مضطرب، ونظام يفتقر إلى الرؤية والخيال السياسى، وأهمية الثقافة وإنتاجها الإبداعى على مستوى تجديد الأمة والدولة الحديثة، من خلال التجديد الجيلى لقياداتها، وإعادة هيكلة وتجديد مؤسساتها. من هنا تراجع الدور الثقافى المصرى فى الإقليم وراءه عديد من الأسباب يمكن إيراد بعضها فى ما يلى: أولا: الأسباب الداخلية التى تدور حول السياسة، والمؤسسات التى أسهمت فى تراجع هذا الدور، لأن أى أدوار دولية أو إقليمية ترجع فى أحد مكوناتها وأبعادها إلى نوعية السياسة، وكيفية عمل المؤسسات ومهامها ومدى كفاءة إدارة العمل الثقافى فى كل قطاع من قطاعاته، ومدى تميزه على مستوى الإنتاج فى دائرته، ومدى تكامل هذه الأجهزة والتنسيق فى ما بينها، ويمكن إيراد بعض أسباب التراجع فى ما يلى: 1- سطوة العقل البيروقراطى وقدرته على تحويل الميزانيات المخصصة للإنفاق على الأنشطة الثقافية فى كل قطاع من القطاعات من أهدافها المحددة إلى استهلاكها، بالإضافة إلى الأجور، وصرفها على المكافآت والحوافز والأنشطة الإدارية، ومن ثمّ ميل كبار الموظفين إلى القيام ببعض الأنشطة غير الملائمة أو غير ذات الأهمية، وذلك للحصول على بعض المزايا المالية. هذا التوجه البيروقراطى أسهم فى تكوين مراكز ضغط من بعض كبار الموظفين والعاملين، ترفض إجراء أى تغييرات أو إصلاحات فى خريطة العمل الثقافى لكل قطاع من قطاعات وزارة الثقافة. ظهرت خطورة مراكز الضغط البيروقراطية -من موظفى وعمال الوزارة- فى تحريض قيادتهم لهم بأن أى تغيير سيشكّل مساسا بمصالحهم المالية المكتسبة من هذه الأعمال. فى مراحل الانتقال السياسى وعدم استقرار العمل فى وزارة الثقافة شكّلت مجموعات الضغط أحد أبرز إعاقات تطوير العمل وإصلاحه، ليكون جزءا من عمليات التغيير السياسى، والمساعدة على دعم عملية الانتقال السلطوى، وإعادة بناء المؤسسات فى البلاد. 2- ضعف الإنفاق الحكومى على الأنشطة الثقافية الرسمية فى ظل هيمنة الدولة على الثقافة، وضعف وحصار بعض المبادرات الثقافية الطوعية والأنشطة اللا رسمية فى هذا المضمار. 3- التداخل فى أنشطة القطاعات الثقافية، وغياب تبلور فى التمايز الوظيفى فى أعمال الوزارة، وذلك من خلال تبنى غالب القطاعات لمشروعات للنشر، لكى يبدو قياداتها أمام الوزراء المتعاقبين كأنهم يؤدون عملهم من خلال المؤشرات الكمية للنشر. من ناحية أخرى يبدو النشر فى غالب هذه القطاعات مفتقرا إلى رؤية وسياسة واختيارات متميزة بناءً على معايير للتقييم الموضوعى الجاد، ومن ثمّ لم تكن غالبية النصوص المنشورة على درجة من الجدية والأهمية. تناسى قادة عديدون على رأس القطاعات الثقافية أن مهمة ووظيفة النشر تختص بها إحدى هيئات الوزارة، وهى الهيئة العامة للكتاب. 4- جمود وتركيبة وانتقائية المجلس الأعلى للثقافة، الذى تحول إلى تشكيلة من بعض المثقفين الموالين للسلطة الحاكمة وبينهم قلة لا تعاديها، وإن رفضت بعض سياساتها وقراراتها، واقتصر عمل المجلس ولجانه المتعددة على بعض الندوات، واختيار الحاصلين على جوائز الدولة على اختلافها كل عام. من ناحية أخرى غابت الوظيفة الأساسية للمجلس، كجهة لإعداد السياسة الثقافية لوزير الثقافة، أيا كان شخصه فى التشكيلات الحكومية المتعاقبة. ناهيك بتحوله إلى جهة نشر مثله فى ذلك مثل عديد من هيئات الوزارة وقطاعاتها المختلفة. 5- غياب تصور لسياسة ثقافية لدى عديد من وزراء الثقافة، لا سيما فى ظل مراحل الانتقال السياسى المتعاقبة، تتواكب معها، وتضع متطلباتها وضغوطها فى إطارها. 6- اضطراب العلاقة بين الوزارة وهيئاتها، وبين الأجيال الشابة من الجماعة الثقافية المصرية فى مقابل سياسة احتواء المثقفين من خلال بعض المغانم والجوائز والسفر إلى الخارج، أو النشر.. إلخ. 7- الإدراك السياسى الهامشى والملتبس للنخبة السياسية الحاكمة فى دوائرها العليا للثقافة، واعتبارها جزءا من عملية بناء صورة النظام وقادته، وجزءا من التجميل السياسى لصورته الدولية والإقليمية، ومن ثمّ النظر إلى العمل الثقافى بوصفه نمطا من الاستعراضات حول الحاكم ووجوه النظام أساسا. 8- اقتصار العمل الثقافى على العاصمة أساسا والإسكندرية مع إهمال المحافظات الأخرى وتهميشها فى الأنشطة الثقافية، وقُصارى ما يتم هو مؤتمرات أدباء الأقاليم، على المستوى الوطنى أو الأقاليم الثقافية.