عادت قضية دور المثقف في المجتمع تتصدر قائمة القضايا التي ينشغل بها المثقفون، وبخاصة هؤلاء الذين اكتشفوا أن قضية الدور لها صلة وثيقة بقضايا وتطورات أخرى مثل العولمة والتحول نحو اقتصاد العولمة والتقدم التكنولوجي وغيرها. وهناك أمور قديمة استجد الحديث فيها مثل المكانة التي صار يحتلها في المجتمع وتحديداً داخل مجتمع المثقفين المثقف العام مقارنة بمكانة المثقف الأكاديمي. ومثل الزيادة الكبيرة في اعتماد أعداد كبيرة من المثقف الأكاديمي، وأعداد أكبر من المثقف العام على الدولة كمصدر للإعاشة والوجود على الساحة، ومثل موقع المثقف العام، والأكاديمي خاصة، بين أقران له استوظفوا الثقافة أو استوزروها أو نافسوها من مواقع أخرى مقابل دخل مادي أكبر. القضية الأهم، في رأيي، بين كثير من قضايا مهمة، هي حيرة أغلب المثقفين في الإجابة عن السؤال الآتي: من له سلطة أو حق إصدار الرأي الحكيم أو الرشيد في قضايا المجتمع وأزماته؟ وتحديد أبعاد التقدم ودرجاته، إن وقع التقدم، والتعريف بالجوانب الأخلاقية الواجب توافرها في تخطيط عملية التنمية الإنسانية والمادية وتنفيذها؟ ولا يعني إثارة هذا السؤال والتمترس على جانبيه انه سؤال جديد لم يسبق أن طرحه المثقفون ورجال السياسة من قبل. إلا أنه مع ذلك يطرح نفسه هذه الأيام بإلحاح لأسباب كثيرة بعضها أشرنا إليه في مطلع هذه السطور وبعضها يتعلق بالتطور الذي شهدته ساحة الثقافة عموماً وساحة العمل السياسي وساحة الدين خصوصاً. أما ساحة الثقافة فقد شهدت في السنوات الأخيرة صعوداً في أهمية ما يمكن تسميته تجاوزاً بثقافة الشعب تمييزاً لها عن الثقافة الشعبية بمعناها الشائع حالياً. ففي معظم المجتمعات صار “الشعب” يفرز ثقافته الخاصة على حساب ثقافة النخبة وساحتها ويبدل فيها ويتخلى بسرعة عن بعض مكوناتها أو يحتفظ ببعض آخر لمدة أطول. لوحظ أن “الشعب” لا يراعي قيوداً سياسية أو ثقافية تضعها السلطة السياسية أو السلطة الثقافية، ولا يلتزم بثقافة موروثة أو ثقافة طارئة، بمعنى أن العولمة التي تبدو مكتسحة ثقافياً وجدت في معظم المجتمعات مقاومة عنيفة من جانب “ثقافة شعب” لم تكن موجودة أو معروفة أو ظاهرة قبل غزو ثقافة العولمة. نستمع، وقد يطرب بعضنا لأغان وموسيقا لا يمكن أن أجد وصفاً لها أدق من أنها أعمال “مقاومة ناعمة” لثقافة العولمة يمارسها الشعب وممثلوه في قطاع الفن. هنا وجد المثقفون أنفسهم مبعدين عن دائرة عملهم واهتمامهم، فالقضايا التي تهم الناس تتغير بمعدل سرعة لا يتوفر مثله عند المثقف، حتى تجاوزت القضايا بجدتها وسرعتها خبرات المثقفين وإمكاناتهم. من ناحية أخرى دخل إلى الساحة رجال أعمال وعلماء في الإحياء والفيزياء والوراثة كما دخل إليها خبراء في الاتصالات والمعلومات الإلكترونية والتكنولوجيا، هؤلاء جميعاً، وبدرجات قد تتفاوت من مجتمع إلى آخر استولوا على حق إصدار الأحكام والآراء النهائية في معظم القضايا الاجتماعية إن لم يكن في جميعها. ووقف المثقفون، في الغالب الأعم، متفرجين وفي أحسن الأحوال معقبين بحياء وتردد. بعضهم يخشى أن تفضحه قلة معلوماته في “القضايا الجديدة” التي لا ينفذ إليها أو منها إلا المتخصصون والقادرون، وبعضهم يخشى أن يفقد فرصة تحقيق مصلحة أو أخرى. وفي معظم الأحوال ولتبرير سبب وجودهم مشى كثير من المثقفين وراء المتخصصين والقادرين يجمعون فتات مناقشات هؤلاء وقراراتهم ليناقشوه وإن بغير فهم واعتناء. لقد ضاقت السبل أمام “المثقف العام” في عالمنا العربي، وربما في معظم أنحاء عالم الجنوب، فرجال السياسة يطاردونه ويحرمونه من أن يمارس جوهر وظيفته في المجتمع، وهو أن يتمرد ويبقى متمرداً. ولنأخذ على سبيل المثال، وليس الحصر طبعاً، المثقفين المصريين. هؤلاء كان يجب أن يتمردوا عندما قررت السلطة السياسية في مصر تحت إيحاء إيديولوجي معين تأميم الممتلكات والتجارة ودعم القطاع العام وبناء أسوار عالية لحماية المنتجات المصرية ولم يتمردوا. وهم الآن يجب أن يتمردوا على السلطة السياسية التي قررت إعلاء شأن حرية التجارة وتحطيم كل أسوار الحماية وفرض ريادة القطاع الخاص وتدمير القطاع العام وهم لا يتمردون. للمثقف مهمة أساسية هي التصدي الدائم لعواقب “الحقيقة المنتشرة أو السائدة” والبحث الدائم عن حقيقة أخرى. أما الحقيقة المنتشرة حالياً فهي القائلة بأن البشرية وصلت إلى نهاية تاريخها أو أن حرية السوق هي آخر المطاف ولا عودة عنها ولا شيء بعدها. واجب المثقفين المصريين، والعرب بل وكل المثقفين في العالم أن يقولوا كلا، فالحقيقة هناك وراء الأفق مازالت تنتظر جهوداً من جانبنا تقصر المسافة إليها فتقربنا منها وتقربها منا. وعند أمريكا، كما هو عندنا، مثقفون محشورون سياسياً ومحشورون أيديولوجياً، أي تحت ضغوط العولمة، ومحشورون مادياً، أي حاجتهم متزايدة إلى أبواب رزق أوفر، ومحشورون ثقافياً، بمعنى أن اتساع “ثقافة الشعب” من ناحية وتعقيدات ثقافة العلماء ورجال الأعمال والمال من ناحية أخرى جعلت فرص الكتابة والنشر وإبلاغ الرأي أشد صعوبة، يلجأون إلى استخدام الدين كصياغات وأسلوب دعوة لزيادة فرص الكتابة والنشر ولإقناع آخرين بقراءة ما يكتبون أو الاستماع إلى ما يقولون. تكمن خطورة هذا التحول في صعوبة التمييز بين مثقف “متدين” فكرياً ويجد في الدين ما يؤيد ويدعم رأيه ومثقف انتهازي “للأسف” يتلاعب بالدين فيسيء إليه وإلى الناس وإلى القاعدة الواسعة من المثقفين. صحيح أن المثقف يحقق “بالدين” الوصول السريع إلى عقول أخرى، وصحيح أيضاً إلى حد كبير أنه يلجأ إلى ذلك بعد أن ثبت عجزه عن الوصول إلى هذه العقول بمهاراته العادية. وتبقى الخطورة ماثلة أمامنا ونحن نشاهد الفضائيات ونستمع إلى حوارات الإذاعة ونقرأ جدل المثقفين، وبخاصة عندما نجد مثقفاً ينتصر على خصمه، كما في مباراة الملاكمة بالنقاط أو بالضربة القاضية، لأنه أثبت خلال حوار في شأن غير ديني أنه متمكن من معلومات في الدين لا توجد عند خصمه بالوفرة أو الدقة الضرورية. حتى وإن توفرت لديه ولدى الخصم حجج ومعلومات أخرى تتصل مباشرة بالقضية محور الحوار أو المباراة. ------ صحيفة الخليج الإماراتية في 13 -10 -2005