توقفت كثيرا أمام صورة أوباما وهو يصافح راءول كاسترو رئيس جمهورية كوبا. وقرأت تصريحه بأن عهد سيطرة الولاياتالمتحدة على بلدان أمريكا اللاتينية قد انتهى إلى غير رجعة . ووجدت لساني يترحم على سيفادور ألليندي رئيس تشيلي المقتول بتخطيط من هنري كيسنجر العقل الذي جدد عصور الاستعمار بأشكال منوعة كان أبرز آثارها علينا في مصر هو ركود استمر أربعين عاما ، على الرغم من حربنا المنتصرة في أكتوبر 1973 . وتوقف خيالي عند قدرة الصمود والصلابة والإصرار التي امتلكها فيدل كاسترو قائد كوبا ؛ ليجبر الولاياتالمتحدة أخيرا على أن تبدأ فك حصارها التاريخي على كوبا الذي بدأ في أواخر خمسينيات القرن الماضي. وقد تقاعد فيدل كاسترو عن إدارة الدولة تاركا القيادة لشقيقه الأصغر الذي عاش معه رحلة تحرير كوبا من السيطرة الاستعمارية حتى صارت دولة قادرة على الاعتماد على النفس . وجاءت نظرية أثر أجنحة الفراشة إلى ذاكرتي ، تلك النظرية التي تقول إن حركة متسارعة من أجنحة فراشة ضعيفة يمكن أن تسافر عبر موجات الهواء لتصير عاصفة عاتية في بلد آخر . وهذا ما حدث بالضبط عندما سافر إثر تأميم قناة السويس عام 1956 إلى كوبا ليستقر في وجدان فيدل كاسترو ، ويتحرك مع شباب كوبي ليحرر كوبا من وضعها كمزرعة لقصب السكر وتصبح حاليا دولة تعتمد على نفسها في المأكل والمشرب والطب والفنون ، وأن كل ذلك قد حدث عندما أيقظ كاسترو ضرورة أن تتساوى يدا كل إنسان ، فلا تقصر اليد اليمنى في العمل ، ولا تطول اليد اليسرى منتظرة ما تتصدق به طبقات الأثرياء والمستنزفين للثروات، خصوصا أن أهل كوبا جميعا قد عاشوا أكثر من نصف قرن قبل ثورة كاسترو والتي أطلق عليها اسم ثورة 26 يوليو ، وعانوا خلال النصف الأول من القرن العشرين في مجتمع لا تعلم مدارسه كيفية اقتحام العالم بالجديد من العلوم ، وتجمعت في سماوات كوبا سحابات تمتص كل أمل في التطور، لتمطر على الجميع سيول عدم الثقة في أن الحياة يمكن أن تتطور بجهد أبناء البلد الواحد ، فأبناء كوبا في أوائل القرن العشرين شاهدوا رحلة إخضاعهم لواقع شرس يقول إن بلادهم ليست إلا مزرعة لقصب السكر ، وأن الفئة المستثناة من الفقر المدقع هم هؤلاء الذين يحولون أرض الجزيرة الكوبية إلى ملاه ليلية وكازينوهات قمار ، ويتعلم أبناؤهم في الولاياتالمتحدة، ويساعدون أثرياء الولاياتالمتحدة على مزيد من استنزاف كوبا بزراعة قصب السكر فيعمل الفقراء ثلاثة أشهر في العام ليعيشوا بقية العام في اقتراض متجدد وعجز عن مواصلة أي عمل آخر سوى مزيد إنتاج نسل لا يجد وسيلة للعيش . وقد انتبه فيدل كاسترو إلى هذا الواقع ، وعلى الرغم من أنه ابن أسرة مقتدرة فإنه على المستوى الشخصي لم يكن يقبل الظلم ، فقرر أن يزرع عدم قبول الظلم في مجتمعه، ونجح في ذلك وأسقط ديكتاتورية باتيستا ، وحاول إقناع الطبقة التي سبق وتعاونت مع الولاياتالمتحدة بأن تعمل لمصلحة عموم أهل كوبا ، فلم يفلح ، فكان أن اتجه إلى تطبيق نظام اجتماعي وصارم. لقد كانت صورة جمال عبد الناصر تلمع في خيال كاسترو ، فناصر هو من حرر مصر من طغمة شديدة الفساد ، وأسس مع نهرو ابن الهند وتيتو ابن يوجوغسلافيا دنيا جديدة من أبناء المستقبل ما يسمى عالم عدم الانحياز؛ يكفي أن كاسترو أطلق اسم «26 يوليو» على ثورته التي حررت كوبا. وكان ذلك تيمنا بتأميم قناة السويس لبناء السد العالي من عائد إيراداتها . ولا أحد ينسى من المخضرمين مثل كاتب هذه السطور كيف تحول كاسترو إلى بطل نشرات الأخبار وتابعنا رحلة مقاومته الحصار الطويل الذي فرضته الولاياتالمتحدة على كوبا ، وكيف كادت حرب عالمية ثالثة أن تقوم بسبب وصول صواريخ روسية لتحمي كوبا من عدوان أمريكي متوقع ، ثم يتم سحب الصواريخ ليبدأ كاسترو في إقناع أبناء كوبا بأن يعتمدوا على أنفسهم في كل تفاصيل صياغة وصناعة الحياة . وكان لكاسترو نائب هو الرومانسي الثائر أرنستو تشي جيفارا الذي ترك السلطة كنائب لكاسترو وراح يزرع أفكار التحرر في أمريكا اللاتينية كلها حتى اصطادته المخابرات الأمركية في ريف بوليفيا لتقتله ولتخفي مقبرته خوفا من أن يتحول إلى أيقونة تحرر عملاقة، وقد تحول بالفعل إلى تلك الأيقونة ، ولو كان قد عاش لشاهد كيف أنبتت دماؤه على أرض بوليفيا رئيسا لها من سكانها الأصليين ، وهو هندي أحمر «إيفو مورالوس»، . وكان إيمان كاسترو بضرورة انتباه مجموع أهل أي بلد يتم استنزافه بواسطة استعمار أو نصف استعمار متمثل في قلة مستغلة وقادة مرتزقة يتبعون تعليمات السادة في واشنطون أو أي عاصمة استعمارية أخرى ، هذه الجموع لابد أن ترفض انقسام أياديها .و أعاد كاسترو النظر في التعليم وفي الزراعة ، ولم تعد خصوبة أراضي كوبا منتجة لقصب السكر فقط بل أنتجت ما يطعم البلد كله ، فضلا عن محو أمية كل السكان . وقد لا يلتفت أحد إلى أثر جناح الفراشة المعاصر الذي سافر من ميدان التحرير ليقتحم البيت الأبيض من جديد ، فإذا كان تأميم قناة السويس هو مصدر إلهام قديم لكاسترو ليوقظ شعبه من ضياع في سراديب اليأس ، فأثر جناح الفراشة يقول لي إن الولاياتالمتحدة بذات نفسها وبقوة جبروتها ، وغباء التكبر المعتمد على أنها المالكة لأكبر قوة نيران على وجه الأرض ، هذه الدولة وقفت أمام جبروت البساطة المصرية الخالصة في الثلاثين من يونيو والثالث من يوليو والسادس والعشرين من يوليو ، وقفت تلك الدولة العملاقة في حيرة من أمر مخططاتها ، فنظرت إلى حديقتها الخلفية «أمريكا اللاتينية» لتجد شعوبها وقد اتخذت من كوبا المستقلة مثلا يتم السير على هداه ، فتحررت البرازيل من سطوتها ، وتبعتها فنزويلا بدرجة أقل نضجا من البرازيلوكوبا ، ولحقت بالموكب بوليفيا . واتسعت عيون أوباما ليرى أن اسمه قد يدخل التاريخ بإنجاز ما ، فأعلن نهاية اعتبار بلدان أمريكا اللاتينية لم تعد حديقة خلفية للولايات المتحدة . ونظر أوباما إلى الشرق الأوسط متذكرا أنه طلب الحديث التليفوني مع عبد الفتاح السيسي إبان وجوده في منصب وزير الدفاع ، فجاءته الإجابة بأن عليه أن يتحدث مع الرئيس المؤقت المستشار عدلي منصور ، وأصر أوباما على استكشاف شخصية الرجل فالتقاه في نيويورك ليعلن بداية صفحة جديدة بين مصر والولاياتالمتحدة ، صفحة نعلم أن «التربص» يوجد بين سطورها، ومحاولات الاحتواء لا تهدأ والحصار بمحيط مترنح من فرض فوضاه، ولذلك اتجه إلى إيران لعل التصالح معها يوازن موقفه مع حضارة مصر. ويبقى أمام المصريين درس استفادة الكون من إبداع المصريين، سواء بإرسال إشارات التحرر إلى ثلاث قارات عبر ثورة 23 يوليو 1952 أو عبر قيام المصريين بثورتين، أولهما في الخامس والعشرين من يناير والتي أزاحت طبقة المستنزفين لإمكانات الوطن ، والثانية في الثلاثين من يونيو التي أسقطت استخدام عصابات التأسلم لتأمين وجود المخطط الأمريكي على أرض الشرق الأوسط. أثر جناح الفراشة يؤكد أن ما خرج من عاصفة إسقاط أربعين عاما من الترهل ومعهم عام آخر من التجارة بالدين، هذه العاصفة سافرت لترضخ الولاياتالمتحدة على احترام شعب كوبا الذي أتقن التوازن بعمل اليد اليمنى لتجنى اليسرى ثمار التعب مصحوبا بمشاعر الكرامة الإنسانية. لمزيد من مقالات منير عامر