برحيل البابا شنودة فقدت مصر واحدا من أهم رجالاتها ورموزها الوطنية الذين حافظوا علي استقلال الكنيسة المصرية ودافعوا عن هويتها الوطنية لتبقي صرحا مصريا خالصا, وفقد أقباط مصر بابا عظيم القدر والحكمة, ناصر حق أبناء طائفته في الحصول علي حقوقهم في المواطنة الكاملة, لكنه كان حريصا علي وأد الفتنة وحصارها, يرفض شطط المواقف ويطالب بإحترام ناموس الدولة, ويضع علي أولويات إلتزامه الحفاظ علي وحدة الوطن, في عهده قوي نفوذ الكنيسة القبطية وتوسعت أنشطتها, وتمدد نفوذها خارج الوطن إلي أقباط مصر في المهجر, في دول أوروبا والولايات المتحدة واستراليا لكنها حافظت علي هويتها وتراثها الثقافي في الناسوت واللاهوت الذي حفظ استقلالها كان البابا شنودة مثقفا مصريا عربيا, يعرف تاريخ مصر ويحفظ الكثير من الشعر العربي ويقرأ كتب التراث, وتحفل ذاكرته بالكثير من الأقوال والطرائف المأثورة, وكان صاحب فكاهة خفيف الظل, يضحك من أعماق قلبه حتي تدمع عيناه, تحفل عظاته بكثير من النصائح التربوية في قضايا الأسرة, لكنه كان محافظا شديد التمسك بحرفية النص الديني إذا تعلق الأمر بقضية الطلاق, لا يقبل أية أعذار لفسخ علاقة يعتقد بأبديتها. عرفته عن قرب منذ أن جلس علي كرسي الكرازة المرقصية قبل أربعين عاما, وجلست إليه في حوارات طويلة صريحة, وعندما أعتكف في دير أبشوي في عزلة فرضتها الدولة غضبا من قرار الرئيس السادات, وشاع في مصر أن الأديرة تحولت إلي مخازن للسلاح, أمضيت معه نهارا بأكمله في الدير لحوار صريح شجاع, قال فيه أنه علي إستعداد لأن يفتح كافة أديرة مصر للتفتيش, لأن أقباط مصر لن يرفعوا السلاح أبدا علي وطنهم مهما تكن أسباب الخلاف, وكان حليفا قويا للقضية الفلسطينية, رفض تبرئة اليهود من دم يسوع المسيح, وأعتبر هذا الموقف جزءا من إستقلال تراث الكنيسة المصرية لا يمكن التفريط فيه, وكان بعيد النظر رفض كل ضغوط الأقباط للذهاب الي الحج في القدس بعد إبرام معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية, وأصر علي تأجيل الحج إلي أن يقع سلام شامل ينهي كل أوجه الصراع العربي الإسرائيلي, ليوحد بهذا القرار مواقف أقباط مصر ومسلميها من قضية التطبيع. وبرغم توتر العلاقات بين أقباط مصر ومسلميها في أعقاب بعض المشاكل التي أثيرت في الكشح ونجع حمادي ودمنهور وغيرها, كان البابا شنودة حريصا علي أن تبقي جسور الحوار متصلة مع الدولة, يرفض تدخل أي طرف ثالث, ويرفض الإستقواء بالخارج, لأنه يؤمن في قرارة نفسه أنه لا بديل في النهاية عن العيش المشترك بين عنصري الأمة, ولا مجال البتة لأن ينفصل أحدهما عن الآخر, في خضم الزحام السكاني الذي مزج حياة المسلمين والأقباط في وطن واحد يستحيل أن تنفصم عراه. المزيد من أعمدة مكرم محمد أحمد