تمر مصر باختبار تلو الآخر في طريقها لبناء واقع جديد يتجاوز أخطاء متراكمة في العقود الأربعة الماضية. أخطاء كارثية بكل المقاييس في إدارة دولة كبيرة بحجم مصر لم يكن لها أن تستمر وتتراكم وتخلف آثاراً يصعب التعامل معها في وقت قصير ولكنها ربما تحتاج إلي سنوات حتي يمكن إصلاح السياسة والأقتصاد والبيئة الاجتماعية وإشاعة ثقافة وقيمة العمل لتهيئة المجتمع المصري لتغيير حقيقي. أقول ما سبق لتذكير البعض منا بأن محصلة ما يجري اليوم من مساع للإصلاح هي ما سنتركه للأجيال المقبلة من نجاحات تكتب فصولا أكثر إشراقا في التاريخ الحديث لبلادنا، وحيث مغالاة البعض في الداخل في نقد السياسات الراهنة يتغافل الظرف التاريخي الذي يمر به بلد كبير هو محط أنظار قوي إقليمية ودولية عديدة، كانت تريد تطويع إرادة المصريين حتي تتوافق مع إراداتهم، ومازالت تلك القوي تسعي حثيثا من أجل تحقيق أهدافها وحيث اللعبة الكبري الجديدة في منطقة الشرق الأوسط تتفاعل بقوة في تلك الأيام تاركة تأثيرات لا يمكن إغفالها ولا يمكن التغاضي عن عنفوانها وماسوف تخلفه علي مستقبل المنطقة العربية التي ابتليت بداء الانقسام والفرقة والتشرذم والتقاتل فيما بينها بدعم - للأسف - من أطراف عربية لا تنظر أبعد من مواقع أقدامها. وسط تلك الحالة المزرية، تبدو الحالة الداخلية غير منفصلة عن محيطها الإقليمي والبيئة الدولية المعاكسة التي تلتفت إلي إدارة الصراعات- وليس البحث عن حلول ناجزة- وهو مناخ غير ملائم لتحقيق ما نصبو إليه، ولكن يحسب للقيادة الحالية في وطننا أنها تضع أقدامها وتنظر إلي الصورة الأكبر بصدق ورغبة في الخروج من مصير سيناريوهات مظلمة، يروج لها أعداء التقدم وجماعات الخراب وجماعات مصالح تكونت علي مدي العقود الأربعة الماضية ولاتزال لها أدواتها ودول لا تمل من إظهار أسوأ ما لديها من أجل إخضاع الآخرين في منطقتنا. ----- المقدمة السابقة هي توطئة من أجل تشخيص كثير من أزمات المرحلة الصعبة التي نمر بها، فهناك جهود حثيثة لإعادة البناء في المجتمع، وهناك رئيس يملك حسا وطنيا رفيعا وصدقا يصل به إلي عامة الناس بلا تزييف أو أقنعة، وهناك، في المقابل، أجواء غير مواتية تعيق استخدام القوي الشاملة للدولة المصرية من أجل الانطلاق وتحقيق طفرة في حياة المواطنين العاديين. في تشخيص أعراض الأمراض التي استوطنت في جسد المجتمع هناك من لا يدرك أننا نعيش ونحيا ونتفاعل في «وطن لا يخصنا وحدنا»، وتتوق القوي الإقليمية للعب ادوار في مقدراته وسياساته في ظل سياسات متنافرة لتلك الدول أو القوي الإقليمية، فالمصالح التي تحرك دولا مثل السعودية وإيران وقطر وتركيا تتنوع وتختلف بحسب حجم الحراك في الشرق الأوسط والبعض يريد حسب ما قلته في مقال الأسبوع الماضي - نقلا عن دبلوماسي عربي- أن يجعل الثورة المصرية العظيمة في 30 يونيو «ثورة ممسوكة» من خلال تحجيم قدرات السلطة الموجودة في الاستفادة من كل القدرات المتاحة في حوزتها أو في منع الدعم الخارجي وتقليصه من أجل أن تبقي مصر «تحت السيطرة» وهو أمر تشترك فيه قوي إقليمية مع أطراف خارجية في مقدمتها إسرئيل التي فقدت كنزها الاستراتيجي المتمثل في سياسات الرئيس الأسبق حسني مبارك والدول الغربية الكبري مثل دول غرب أوروبا والولاياتالمتحدة والمؤسسات المالية الدولية التي اعتادت في الماضي فرض وصفات بعينها علي الحكومات المصرية.فهناك دول إقليمية تلعب بالفعل أدوارا لمصلحة الولاياتالمتحدة أو تبيع لواشنطن فكرة أنه في مقدورها تطويع مصر ما بعد ثورة 30 يونيو واعادتها للحظيرة الأمريكية.
في الداخل، تتلاقي نوايا وأهداف القوي الخارجية مع بعض القوي «المٌعطلة» للإصلاح الحقيقي، حيث يوجد أشخاص وجماعات مصالح والبعض في مؤسسات بالدولة هدفهم هو اسقاط مشروعية ما يجري وتسفيه أي نجاح للسلطة الحالية والإساءة للتجارب المختلفة التي ترمي إلي إعادة بناء الدولة علي أسس جديدة ننعم فيها بقيم الشفافية وتفعيل المسئولية. تلك القوي تشترك في محاولة لا تتوقف من أجل إعادة بناء سياسات حكم مبارك في المجتمع والمؤسسات وهي تحاول تسريب الأمر إلي نفوس العامة من أجل اقناعهم بأن تلك طبائع الأشياء وأن هناك ثمنا يجب علي المجتمع سداده مقابل مساندتهم لإسقاط الجماعة الإرهابية وبالتالي لا مجال أمام الجميع سوي القبول بمبدأ «جني الثمار» الذي تسعي تلك القوي إلي ترسيخه واستغلاله. كل القوي السابقة مارست لعبة قطف ثمار المرحلة من 25 يناير وحتي يومنا هذا ولكنهم يصطدمون اليوم بحائط منيع وهو رغبة السلطة السياسية في تغيير قواعد اللعبة تلك المرة بالفعل... هؤلاء يريدون خلق صراعات حول السلطة ويمارسون في ذلك حروب إزاحة مستمرة، فمن يسمون بالفلول يريدون كل المكاسب ويريدونها بأي ثمن ولو كان علي حساب بناء الدولة والتنمية الحقيقية ويفعلون ما يسيء لتجربة الرئيس.... والسؤال علي ألسنة عموم المصريين: إلي متي تستمر السلطة في ترك هؤلاء يسيئون إليها؟ وهناك قدر كبير من المخاوف التي نري شواهد لها علي أرض الواقع من قدرة جماعات الإرهاب علي اختراق المجتمع المصري والبوابة القادمة ستكون قدرتهم علي التحالف مع الفلول في الانتخابات البرلمانية القادمة حيث الهدف يبدو واحدا ألا وهو تحجيم قدرات الدولة وشل رغبتها في التغيير. وفي انتخابات النقابات الأخيرة صورة لمشهد التحالفات المشار إليها حيث وضعت جماعة الإخوان المحظورة بقاياها في خدمة قطاعات من اليسار والفلول معا ومن ثم تعود نغمة المصالحة مع جماعة الإخوان وتلك المرة علي لسان شخصيات من الماضي تعود إلي عصر مبارك أو تحاول إعادة بنائه وهندسته بنفس منطق الصفقات والمواءمات الضارة بتماسك وسلامة المجتمع المصري. ويكون السؤال الآخر المنطقي في تلك الحالة: هل تتفرج السلطة القائمة؟ وإلي متي ستستمر هذه الممارسات؟... الشاهد أن الشعب المصري لايقبل بأن يكرر ماضيا دفع ثمنا كبيرا في معايشته حاضرا ثم ثمنا غاليا في إزاحته علي مرتين في 25 يناير و 30 يونيو.
بمنطق الخوف علي المستقبل، لا يمكن الحركة إلي الأمام في ظل غياب قيمتي «العدل» و»الحسم»، فالناس تستشعر أن السلطة لديها وضوح رؤية بشأن قضايا داخلية لكنها تري في الوقت نفسه مواقف متناقضة حيث حسم هنا ولا حسم هناك وربما في الحالة الأخيرة يصل الأمر إلي حد إثارة البلبلة حول تصرفات وسلوكيات تضرب سمعة السلطة ومصداقيتها من أشخاص وجماعات سواء تنتمي إلي الماضي أو تدعي محاربة الفساد باسم الثورة بينما هي حزينة في حقيقة الأمر لأنها لم تشارك في هذا الفساد. وتوجد أمثلة علي عدم الاكتراث من قبل أجهزة في الدولة وهناك من يري أن إدارة الدولة تحتاج إلي مزيد من الوضوح، من خلال فريق رئاسي يملك رؤية رئاسية متقنة تمسك بأطراف المشهد وتعين الرئيس علي القيام بمهامه دون إبطاء أو تكاسل. ففي حركة المحافظين الأخيرة، لم تكن الاختيارات في بعض المحافظات عند مستوي التوقعات وهي مهمة من قدم المعلومات إلي صانع القرار في المقام الأول وهو ما حمل السلطة بأسئلة جديدة من الشارع تقول في مجملها «هي الدولة عايزة إيه؟». وهناك أسئلة حول أداء وزراء كثيرين في الحكومة الحالية وتساؤلات مشروعة حول تقييم الأداء وعن غياب أسباب خروج بعض الوزراء وأسباب تعيين غيرهم في التعديل الوزاري الأخير مما ترك الساحة لشائعات وأوهام عديدة ومنح الفرصة للبعض لادعاء بطولات وهمية بينما يعج الإعلام بمسئولين يفرطون في اللقاءات التليفزيونية وفي الدعوات الإنشائية حول الإصلاح دون أن نلمس جهدا حقيقيا لهم علي أرض الواقع. وكما لو كان هؤلاء المسئولون قد اكتفوا بالسحب من رصيد الرئيس عبد الفتاح السيسي لدي المصريين البسطاء وهو ما يجب أن يتوقف ويوضع كل مسئول أمام امتحان الأداء. اعتقادي أن الرئيس السيسي نفسه هو الأكثر حرصا علي تفعيل المساءلة وحساب المسئولين في الدولة والجهاز التنفيذي. فتدخل الدولة بثقلها لتصويب المسار أمر وجوبي وليس اختيارا في الحالة المصرية الراهنة. ومثلما حدث في تجارب دولية عديدة، توجد سياقات تاريخية تتدخل الدولة بكل ما تملك من قدرات لفرض القانون والنظام وعدم ترك مسار الأحداث علي حاله وهو ما جري في تجارب ثورات وحروب في الولاياتالمتحدة بعد الحرب الأهلية وفي فرنسا في عصر ديجول وفي المانيا في عهد إديناور، فكل ما يقف عائقا أمام البناء والتنمية والإصلاح لم يجد له مكانا وبالتالي منحت قوي التقدم والتطوير فرصا هائلة ونجحت في مسعاها.
لا نفهم كثيراً من الحسابات التي يروج لها البعض تحت دعوي حماية حقوق الإنسان والديمقراطية وكل تلك الدعاوي التي دفعنا عنها أثمانا كبيرة في الماضي القريب خاصة لو كان المتصدرون للدفاع عن تلك القيم شخوصا وكيانات من تراث انظمة بائدة خرج ضدها المصريون... أو من يتلقون تمويلا أجنبيا باسم الثورة !؟ تزايد بدرجة ملحوظة في الآونة الأخيرة ؟!! فقط نريد جسارة في مواجهة تلك القوي التي تريد تسويق الباطل بأقوال وأفعال هم بعيدون تماماً عن التصدي أو الترويج لها. ما نملكه من أجل المستقبل هو الإيمان بمسعي حقيقي لدي الرئيس من أجل نهضة تقوم علي برامج ومشروعات كبري لكن المسعي الحميد من السلطة لن يصنعه او يشارك في نجاحه من ساهموا في خراب البلد لمدة 30 عاماً وعلينا أن نعلي صوتنا في وجه هؤلاء أن صلاحيتكم وأساليبكم وآراءكم بل وأدواتكم قد انتهت ولم يعد في مقدورنا تحمل المزيد من أفعالكم. لن يبني مصر عديمو الأخلاق والضمير والباحثون عن مكاسبهم علي حساب الشعب ومستقبل أفضل للوطن... ومن يتصور منهم أن له مكانا وأن هناك من يدعمه في الدولة كمن يتصور أن يتخلي الإخوان عن العنف .. حيث الانحطاط منهج يتساوي في خطورته مع منهج القتل ويتساوي أيضا مع منفذي مشروعات الهدم... كما لن نتمكن من مواجهة التحديات الاقليمية والخارجية مالم نحمي مشروعنا الوطني من التهديدات الداخلية.
إن المسألة في الأول وفي الآخر يا سيادة الرئيس هي مسألة «اختيار».. وأنت اخترت أن تدافع عن حق الشعب في البناء والتنمية والتعمير والإصلاح.. فعلي أركان الدولة أن تحدد خياراتها مثلما فعلت أنت.. فالدولة في حاجة إلي حسم أمرها في ملفات كثيرة ومسك العصا من المنتصف سياسة فاشلة لا تصلح لمصر ولا تصلح لرؤية تريد أن تنطلق بمصر إلي المستقبل.. فهناك انجازات كثيرة تحققت أو في طريقها للتحقق والطموحات العظمي التي ننشدها في إطار مشروع وطني كبير لن تكتمل دون اصلاح كل مرافق الدولة ودون أن يتحمل كل مسئول ما أٌوكل إليه من مهام في مرحلة صعبة.. فليكن شعار المرحلة حماية المشروع الوطني ووقف عملية جذب أطراف الوطن في اتجاهات متعارضة لن نجني من ورائها سوي الفشل وتكرار سيناريوهات بغيضة.. نريد الرؤية الشاملة للمشروع الوطني تكمل طريق الإنجازات وتعظم المكاسب في مسار 30 يونيو. لمزيد من مقالات محمد عبد الهادى علام