لو أن الخائضين في مسألة العلاقات المصرية الأمريكية وقضية المعونات التي تحصل عليها مصر سنويا, وارتباط ذلك بالسيادة الوطنية والكرامة, التقطوا أنفاسهم, وتأنوا ولو قليلا, وناقشوا واستمعوا وعرفوا, بدلا من هذا الاندفاع علي طريق العواطف, لرأوا الصورة. بكل أبعادها وحقائقها, ولتمكنوا من طرح معلوماتهم وآرائهم بصورة موضوعية, ولساعدوا صانع القرار والسياسة علي اتخاد القرار الأنسب, وأتاحوا للرأي العام الفرصة للمعرفة والفهم بصورة أفضل. وكما هو معروف فإن الدولة ليست جمعيات خيرية أو تكايا, وأن المسئولين بها لا يعنيهم أكثر من الدفاع عن مصالحهم والعمل علي تحقيقها وتعظيمها, وأن من يعطي أو يمنح أو يساعد لا يقدم شيئا مجانا أبدا, بل هناك المقابل دائما, ومن يرفض دفع الثمن المطلوب فإن عليه ألا يأخذ أو يطلب, وان طلب فليكن ذلك علي قاعدة المصالح المتبادلة, وهنا عليه أن يعرف ما يريد والمقابل الممكن دفعه, والأهم أن يعرف ما يريده الطرف أو الأطراف الأخري وما يمكن أن يقدموه, كل ذلك في إطار حسابات دقيقة ومعرفة كبيرة بتوازنات القوي, وما تسمح به, وما لا تسمح به هذه التوازنات. ولايمكن لسياسي عاقل أو لأي مسئول من أهل الحكم القبول بالتفريط في مصالح الوطن وسيادته وكرامته. واذا كانت مصالح مصر ستتحقق برفض المعونة الأمريكية بشقيها المدني والعسكري, فليعمل الجميع علي إنجاز هذا الهدف, وعند مناقشة المعونة المدنية والتي تبلغ حاليا250 مليون دولار سنويا, فإنه يمكن القول إن قطاعات وشرائح وطنية متعددة ستقبل بالأمر, لضآلة المبلغ. أما بالنسبة للمعونة العسكرية والتي تبلغ3,1 مليار دولار سنويا, فإن الأمر مختلف, ويتطلب دراسة متعمقة وشاملة, يعقبها نقاش بين أهل الخبرة والعلم والمعلومات من العسكريين والمدنيين, لارتباط القضية بتسليح القوات المسلحة, والأهم بالأمن الوطني المصري, والقدرة علي حماية الحدود المصرية, خاصة الشرقية. ويجب أن يضع الجميع في اعتبارهم أن أي اهتزاز في الأوضاع أو في قدرات مصر العسكرية يمكن أن يفتح الأبواب أمام أطماع الآخرين لتحقيق بعض أهدافهم وتطلعاتهم خاصة في سيناء, ويفرض علينا الوضع التوقف أمام التالي: تعتمد مصر في تسليح قواتها المسلحة منذ عام1979, علي الصناعة الحربية الأمريكية, فيما عدا استثناءات محدودة لا يعتد بها, والآن وبعد مرور33 عاما, فإن مصر ليس لديها مصدر آخر للحصول علي احتياجاتها من الأسلحة والمعدات. وهذه الاحتياجات تحصل مصرعليها مجانا من هذه المعونة التي كانت تغطي تكاليف الحصول علي أسلحة جديدة, بالإضافة الي تحديث الأسلحة القديمة وعمليات الصيانة المستمرة وتوفير قطع الغيار والذخيرة, وتحمل الأعباء المالية للخبراء والمستشارين الأمريكيين. وأمام هذا الوضع لم تكن الموازنة المصرية تتحمل أي أعباء مالية لاستيراد السلاح. إن أي تغيير في مصدر السلاح, سيتطلب تغييرا في العقيدة العسكرية ونظم التدريب, وبالتالي فإن استيعاب القادة والقوات للعقيدة الجديدة ولهذه الأسلحة سيتطلب عدة سنوات, فالتدريب علي السلاح والنظم الجديدة, سيبدأ من مستوي الوحدات الصغري الي أن يصل لمستوي الجيوش, ثم يتم الانتقال الي مستوي المعركة المشتركة التي تضم الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة. ويجب أن يكون واضحا أن القوات المسلحة ستعاني خلال هذه السنوات من نقص حاد في الذخيرة المتوفرة لديها وفي قطع الغيار, فالولاياتالمتحدة من باب الاحتراز والالتزام بأمن إسرائيل كانت تزود مصر بكميات من الذخيرة وقطع الغيار تكفي متطلبات التدريب, ومعني ذلك أن توقف عمليات الإمداد سيؤثر علي كفاءة الأسلحة وقدرات مصر العسكرية. باختفاء الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية, لم يعد هناك مصدر للتسليح والوفاء باحتياجات الجيوش سوي الولاياتالمتحدة, التي أصبحت المنتج الرئيسي للسلاح في العالم, ومن المعروف أن معظم الدول تنتج نظما متعددة من الأسلحة وعلي رأسها الدول الغربية الكبري, ولكن علينا أن نعرف أنها جميعا تستكمل تسليحها من الخارج, خاصة من أمريكا. أما دول العالم الثالث, فصناعة السلاح بها تنتمي لعالم الكبرياء الوطنية, فالمصانع ليست أكثر من تماثيل لهذه الكبرياء لأنها في معظمها لا تزود دولها إلا بنسبة تتراوح بين10 و30% من احتياجاتها, وحتي فيما تصنعه تعتمد علي المواد الخام المستوردة من الدول الكبري.أقول ذلك حتي لا يتصور أحد أن دولا مثل الصين وكوريا الشمالية أو إيران يمكن أن تحل محل الولاياتالمتحدة, كل هذه الدول بها صناعات حربية متقدمة, ولكنها لا تستطيع أن تزود مصر باحتياجاتها تحت أي ظرف من الظروف, يمكنها أن توفر بعضا من الاحتياجات ولكن كل الاحتياجات, فلا. وعلي الجميع أن يضعوا في اعتبارهم أن هذا الأمر مشروط بألا يتسبب في غضب الولاياتالمتحدة بما في ذلك إيران. يمثل توفير التمويل اللازم للاستيراد من الخارج قضية تتطلب الحل قبل التفكير في التخلي أو رفض المعونة العسكرية الأمريكية والمبلغ المطلوب سنويا سيتراوح بين8 و10 مليارات جنيه مصري, هذا اذا توافرت السوق التي يمكن الحصول منها علي احتياجات مصر, واذا ما فكر أحد في السوق السوداء في العالم, فليفكر أيضا في أنها في جانب كبير منها محكومة بنفوذ أجهزة المخابرات الكبري في العالم, وأنها تفرض سعرا عاليا قد يبلغ مثلي أو ثلاثة أمثال سعر المصنع. إن السلاح يمثل وسيلة فعالة لممارسة الضغوط علي الدول المستوردة, وسواء كان المصدر أمريكا أو الصين أو إيران أو تركيا أو غيرها, فإن هناك شروطا وضغوطا تتراوح في عنفها وقوتها وفقا للظروف والعلاقات الإقليمية والدولية, ولا يتصور أحد أن شراء السلاح مثل شراء المنتجات الموجودة في المراكز التجارية, حيث يدخل المشتري ويحمل ما يريد ثم يدفع الثمن ويخرج, انها قضية صعبة, ولكن هناك حلولا دائما لكل الصعوبات, والآن ننتقل الي الصناعة الحربية المصرية, لنقول إنها تعتمد علي استيراد نسبة لا بأس بها من المواد الخام من الخارج, خاصة من الولاياتالمتحدة, وأن معظم قطع الغيار للمصانع المدنية تعتمد علي الأسواق الخارجية, وعلي صانع القرار أن يتحسب ويحسب جيدا وقبل أن يقدم علي خطوة رئيسية أن يحرص علي وجود الحلول البديلة. بجانب الارتفاع الهائل في أسعار الأسلحة الجديدة بعد الاعتماد علي التكنولوجيات المتقدمة في كل منتجات الصناعة الحربية تقريبا, وبصورة قد لا يعرفها إلا الخبراء والعناصر التي تتابع المعلومات الخاصة بهذا المجال, فإن علي كل الخائضين في هذه المسألة أن يعلموا أن خسائر القوات المتحاربة منذ معركة أكتوبر1973 قد ارتفعت معدلاتها جدا, ففي معركة المدرعات شرق القناة, يوم14 اكتوبر خسرت القوات المسلحة280 دبابة خلال يوم قتال, واستعواض مثل هذه الخسارة في المعارك المستقبلية يقتضي التأكد من أن الدولة أو الشركة المصدرة قادرة علي الوفاء اذا ما تعهدت بذلك, لأن عدم وصول هذه الأسلحة والمعدات والذخائر وقطع الغيار في أثناء المعركة يؤثر تأثيرا سلبيا علي نتيجتها, ومن المعروف أن الدول الكبري لا تقوم بتخزين منتجات مصانعها الحربية لأغراض تجارية, وكانت الدولة الوحيدة التي تفعل ذلمك الاتحاد السوفيتي, أما الولاياتالمتحدة فعند الضروررة القصوي ومثلما حدث مع إسرائيل خلال اكتوبر1973, تلجأ لسحب أسلحة من قواتها بألمانيا أو أي منطقة أخري بالعالم. ولهذا تبدو أهمية معرفة قدرة المصادر المنتجة علي تعويض مصر عن خسائرها. إن المعونات والمنح والقروض التي تحصل عليها مصر من المؤسسات الدولية, كالبنك الدولي وصندوق النقد, يمكن أن تتأثر بالموقف الأمريكي, كما أن الدول الأوروبية المانحة ومعظم دول منطقة الخليج ستحرص علي عدم إغضاب سيد البيت الأبيض أو الكونجرس. والأمر برمته يجب ألا يخضع أبدا لأصحاب العواطف أو الذين لا يعرفون حقيقة الأوضاع, ومن الضروري إجراء دراسات وحسابات وتقدير مواقف ومناقشة كل ذلك بهدوء وروية, ومعرفة المدي الزمني الذي تحتاجه مصر للاستعداد لمواجهة نتائج الاستغناء عن المعونات العسكرية. المزيد من مقالات عبده مباشر