فى فضاء جامعة جاريسا الكينية تدخل مجموعة مسلحة، وتفتح النيران على الجميع، ثم تتذكر أن ثمة طلابا مسلمين من بين الرهائن الذين احتجزتهم، فتطلق سراحهم، وتمارس قتلا وحشيا بحق الآخرين مشوبا بتمييز دينى بغيض، وتعلن حركة شباب المجاهدين الصومالية مسئوليتها عن الحادث الإرهابي، وتعد بالمزيد من العنف، فى سياق بدا موتورا بالاعتقاد المطلق فى امتلاك الحقيقة، غير أنه من المؤكد أن هؤلاء المجاهدين ينتظرون الفوز بالجنان!، ويمنون أنفسهم بالحور العين الذين ينتظرون الأبطال الجدد للإسلام! الدين الحنيف الذى أنهكه أصحابه أكثر من أى أحد آخر! المهم أن القتلة من حركة الشباب الصومالية يتوقون للجنة بعد أن أبلوا بلاء حسنا فى ترويع الآمنين، وحصد الرءوس، متكئين على تفسيرات ماضوية وأفهام مغلقة، أضحت مهمتها فى المزيد من التكريس للوحشية وتمجيد القتل باسم المقدس، فى عصف بكل القيم الإنسانية والحضارية، وتكريس فاضح لحالة الولع بالدم التى تهيمن على التنظيمات المتطرفة، وتجعلها تحيا فى حالة ثأرية دائمة، تمارس عبرها انتقاما من العالم، تحت سطوة الموروث الدينى التقليدي، والقراءات الخاطئة له، والتى لم تزل تراه وفق نظرة سكونية جامدة، بمعزل عن التحولات الاجتماعية والثقافية، وقطع البشرية أشواطا فى عمر التقدم الإنساني. ثمة حاجة ملحة لدراسة سيكولوجية الجماعات المتطرفة، فضلا عن محيطها الاجتماعي، فإعمال القتل ليل نهار، وتصور أن هذا هو عين الصواب، وأنه مراد الله، يوقفنا أمام جملة من التساؤلات المفضية بدورها إلى أجوبة متعينة تكشف حالة السعار الكامنة لدى المتشددين، وتبدأ الأسئلة/ الأجوبة من اعتماد جملة من النصوص الدينية وتفسيرها على نحو يوافق هوى المتشدد ويخدم موقفه المتطرف من العالم، وربما تبدو تفسيرات سيد قطب ومن دار معه تفسيرات دالة على جعل النص الدينى فى خدمة النسق المتطرف فى رؤية العالم. وتتجذر الأزمة اتكاء على إفساح المجال للنقل، فى مقابل إقصاء العقل، وبما يعنى إغلاق أفق الدلالة التى يجب أن تكون حية ومتجددة. وتتمثل إحدى أهم إشكاليات التنظيمات المتطرفة فى ولعها بالسلطة، وولعها بالمقدس فى آن، وبما يجعل خطابها متناقضا وإقصائيا معا، وبما يفضى إلى ولع ثالث بالدماء التى تصبح بمثابة القربان للوصول للحكم، فعلى جثث القتلى تريد أن تحكم بوكو حرام فى نيجيريا، وتحلم شباب المجاهدين الصومالية بالحكم، ولو مددنا الخيط على استقامته فسنجد الأمر ذاته ولكن بصيغ مختلفة، ممثلا لدينا فى انتظار جماعة الإخوان المتطرفة عودة المعزول، واستمرارها فى التظاهرات المحدودة التى تصنعها، والقنابل التى تزرعها فى محيط المواطنين، ومحاولة إرباك المشهد المصرى فى سيناء عبر التحالف مع الجماعات الإرهابية الأخرى، وبما يعنى حربا بلا هوادة يخوضها جيشنا الباسل فى مواجهة هذه التنظيمات التكفيرية ودحرها. ثمة نمط عام فى التفكير إذن يعد بمثابة البنية المهيمنة على ذهنية الجماعات المتشددة، خاصة مع احتكارها تفسيرات تخصها للنص الدينى من جهة، وسعيها لتطبيق أفكار وتصورات خارج الزمن من جهة ثانية، فليس من قبيل الصدفة مثلا أن يسمى زعيم داعش ورجل الاستخبارات الأمريكية « إبراهيم عواد إبراهيم على السامرائي» نفسه بأبى بكر البغدادي، وهو الاسم نفسه الذى يسمى به زعيم جماعة بوكو حرام « أبو بكر شيكاو»، فى محاولة لاستنساخ شكلانى لا أكثر لعصور الإسلام الأولى، وتمسك ظاهرى بأهداب العقيدة، واعتقاد راسخ بأنهم خلفاء لله ورسوله على الأرض. وربما يبدو هذا الفهم الاستحواذى للدين مفتاحا أساسيا لفهم آلية تفكير هؤلاء، وتفسير حجم الخراب الذى يصنعونه فى كل مكان. تتوارى ثقافة التسامح وتغيب لدى المتطرفين، ويصبح قبول الآخر فعلا شيطانيا لا علاقة لهم به، فهم أصفياء الله كما يعتقدون، يسعون لإعادة صوغ العالم ليصبح على قدر نصوصهم وتفسيراتهم الأحادية، وكل من عداهم مارقون، فتتسع لديهم دائرة المروق والكفر لتشمل كل المخالفين، وهم كما يظنون مدعومين دوما من السماء، فالرسول الكريم صلى خلف المعزول وقال له تقدم يا دكتور!!، حسب الرؤى العبثية لشيوخهم، فيصير الدجل وسيلة للعب بعقول البسطاء، وتصبح الجهالة عنوانا على فهم ميتافيزيقى للعالم، والمحصلة انحطاط تاريخى شارك فى صنعه الكل، التنظيمات الدينية بدمويتها وجهالتها وفهمها المبتسر للعالم، والأنظمة التى تحالفت مع القوى الرجعية، وصارت ظهيرا لها طيلة أربعين عاما خلت من التحالف بين الفساد والتخلف. تؤسس الجماعات المتطرفة لأساطيرها إذن، وتحيا بالوهم، وتسعى صوب أحلام السلطة التى لا تنتهي، غير أنها إمعانا فى الوهم تؤصل لأفكار ترتدى مسوحا دينية، لتمتطيها، وتحاول من خلالها النفاذ للواقع الراهن، فتعلى من أفكار ماضوية مثل «الخلافة»، وتتحلق حول رايات جهادية/ تكفيرية، وتنفذ عمليات استشهادية/ انتحارية فى بلدان مختلفة، تحيطها نخبة متثاقفة ومخادعة، تدين بولائها للجماعة الإرهابية الأم» الإخوان»، وبمجرد أن تراها وتسمع خطابها البائس تدرك على الفور مدى استفحال رجعيتها، وهؤلاء يتمترسون فى المؤسسات المختلفة، حتى الثقافية منها، أو تحيطها نخبة أخرى من أذناب العولمة الأمريكية، وكلا النخبتين المتثاقفتين بلا موقف جذرى من التطرف، وبلا موقف واضح من الإرهاب الذى تمارسه الجماعة الفاشية وحلفاؤها المتطرفون فى المنطقة. وبعد..نحن بإزاء لحظة جديدة من لحظات الفرز المتعددة التى تلت الثورة المصرية المجيدة فى يناير 2011، وما تلاها من تصحيح للمسار المصرى عبر ثورة الثلاثين من يونيو 2013، وأعتقد أن لحظات الفرز هذه تطول وتستمر. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله